حين نشرت داعش أبدع إصداراتها الوحشية الشهر الماضي، متضمنًا التغريق والضرب بالآر بي جي، وتفخيخ الرقاب، كتبتً منشورًا على صفحتي الشخصية على فيسبوك، ألمحت في آخره إلى ميراث صدام حسين في التعذيب وأثره في التصرفات الداعشية، بالنظر إلى التحاق كثير من البعثيين بالتنظيم!
ثارت ثائرة كثير من الأصدقاء والمتابعين علي، وفوجئت بردود لم تخل من الإساءات والشتائم، أو إبداء الأسف على أحسن الأحوال!
يومها قررت أن أكتب عن علاقة الفلسطينيين بصدام، وأن أتناول الأمر بهدوء وروية، عسى أن يلقى ذلك صدى في نفوس محبي الرجل من أبناء شعب فلسطين، وأن أشرح كذلك شيئًا من أسباب تعلق الفلسطينيين به، ليس بغرض التبرير بقدر ما هو محاولة للفهم.
يعتقد الفلسطينيون اعتقادًا جازمًا يتوارثونه جيلًا فجيل، أن الذي ضيع فلسطين هم الحكام العرب، بالخيانة والتسليم لا بمجرد التخاذل، وهو اعتقاد حق في أصله، غير أنه ترتب عليه تعلقهم بكل حاكم يرونه شاذًا – ولو شعاراتيًا – عن حالة الخيانة العربية العامة، بغض النظر عن حقيقة ما قدمه لفلسطين.
يذكر كبار السن أن الناس في غزة بكوا يوم مات جمال عبد الناصر أكثر مما يبكي من فقد أباه وأمه! رغم أن غزة نفسها سقطت بيد الاحتلال في مهزلة 67 في عهد عبد الناصر نفسه، وبسوء تخطيطه، وفساد إدارته، لكنهم كان يكفيهم من عبد الناصر خطاباته النارية، تهديداته العنترية، نكاته السمجة عن العدو والاستعمار، عملاءه العرب، ومعارضيه في الداخل أيضًا.
القاعدة ذاتها سرت على صدام، الزعيم المفعم بالكاريزما والجبروت، المحارب المخضرم، وقائد أقوى الجيوش العربية، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تؤهله ليكون بطل التحرير المحتمل لدى الشعب المنكوب.
كان صدام داهيةً ومجنونًا في آنٍ واحد؛ فحين خاض حرب الخليج الثانية، واجتاح الكويت، لم يترك لمنتقديه فرصة أن يحتجوا عليه بقتال إخوانه الكويتيين، بينما تنعم “إسرائيل” بالهدوء، فاجتاح الكويت وأوسع أهلها قتلًا وجرحًا وأسرًا ونهبًا، وصرف للكيان الصهيوني قليلًا من الصواريخ، وكثيرًا من الوعيد بالضرب بالكيماوي.
صدق الفلسطينيون المساكين ذلك، وبالغوا في تصديقه، وساهمت قيادتهم المغامرة والساذجة في ذلك، حتى استعد الناس لضرب “إسرائيل” الوشيك بالكيماوي، ولازلت أذكر جدي رحمه الله وأعمامي وهم يكسون بإحكام نوافذ البيت بالنايلون من الداخل، حتى لا تتسرب كيماويات صدام التي سيقصف بها المدن الصهيونية المجاورة.
كانت الأجواء احتفالية جدًا، وكانت أطباق التسالي والحلوى – وخاصة العوامة البيتية – تدور بين أفراد العائلة المستبشرين بوعود صدام ووعيده، ولم تسع الدنيا فرحة الفلسطينيين حين بلغهم خبر قصف تل أبيب، بقرة الصهاينة المقدسة التي وعد عبد الناصر بقصفها ولم يفعل! وظنوا أنه قد جاء الذي يقول ويفعل ويحرر، وهتف الناس: يا صدام يا حبيب .. اضرب اضرب تل أبيب.
انجلى غبار المعركة عن لا شيء، وعن خسارة كبيرة مني بها الفلسطينيون في الخليج، وخاصة الكويت، التي احتضنت أكبر جالية فلسطينية آنذاك، وعاملتهم أحسن معاملة، ومكنت لهم خير تمكين، وسادت بينهم علاقة لم ينعم بمثلها الفلسطينيون مع أحد مطلقًا، في بلد غني ذي ثروة يخاف عليها ويضن بها.
عدلت منظمة التحرير من موقفها الرسمي وفق المصلحة السياسية، لكن الشعب المسكين، وكثير من قياداته المحلية ظلوا متعلقين بالأوهام حتى سقوط صدام، وأذكر جيدًا كيف كان قادة بعض الفصائل الفلسطينية يبشرون الناس بين يدي احتلال العراق، كيف أن صدام سيهزم الأمريكيين وحلفاءهم، وسينطلق بعدها باتجاه الأردن، ويأخذها “هكذا”، ويحرر فلسطين حاملًا راية الحق والخير والعد.!
ولم يكن هذا، كما أظهرت الأيام والأحداث، إلا أوهامًا محضة، وإنني لأستحضر ليلة بدء الغزو على العراق، كنا نتابع الأخبار من بيت العائلة الكبير، وكان الشباب من الأقارب ينتثرون في الصالة الكبيرة، ويتابعون الأخبار باهتمام، ويعلقون بتعليقات قصيرة واثقة، من قبيل: “يظنون الجيش العراقي لقمة سائغة”، و “يحسبون العراق مثل أفغانستان”، وليتها كانت مثل أفغانستان.
كان والدي رحمه الله يومها صامتًا، يسمع التعليقات ويعتلج في صدره الكلام، ولا يتكلم. فعرفت ذلك في وجهه؛ فسألته عن رأيه، فقال رحمه الله، “ستكون هزيمة مدوية!” فقلت، لماذا؟ قال، “إن صدام لم يعد نفسه ولا بلده ولا شعبه لمثل هذا اليوم، لقد كان طيلة حكمه دكتاتورًا مجرمًا، وطاغيةً مستبدًا أذاق شعبه الويل، ومثل هذا لا يمكن أن يصمد في وجه قوة غاشمة، من أفسد في الداخل، لا يستطيع مواجهة الخارج”.
وكان مثلما قال!
لقد وقف صدام مواقف شجاعة من القضية الفلسطينية، وظل متمسكًا بها حتى سقوط نظامه، وفي الوقت الذي كانت تصدر الفتاوى في دول بعينها على هوى الحكام، تجرم الانتفاضة وتسمي الفدائيين منتحرين، كان صدام – إلى أن سقط – يرسل لأهاليهم كفالات مالية، ويكرم ذوي الاستشهاديين خاصة.
ولكن ذلك كله لا يمحو تاريخ الرجل، دكتاتوريته وظلمه لملايين البشر، وساديته المريضة في تعامله مع خصومه، وتأسيسه – بالقمع والإجرام – لواقع العراق الأليم اليوم.
كان صدام يبدع في طرق التخلص من أعدائه؛ يأمر الأهالي بقتل أولادهم أحيانًا لإثبات ولائهم، يكسر الأيدي بين حجرين، يقطع الأصابع والألسن، يفخخ القلوب بصواعق صغيرة ويفجرها، في مشاهد موثقة بالفيديو، تظهر داعش مقارنة بها نسخةً محدثة ومحسنة.
في مثل هذا اليوم قبل 12 سنة، حاصرت قوة كبيرة من جيش الاحتلال الأمريكي منزلًا في مدينة الموصل العراقية، وخاضت معركة غير متكافئة مع عدي وقصي ومصطفى قصي صدام حسين، قتل على إثرها الثلاثة، خرجت بعيد الخبر إلى شارعنا الرئيسي في مخيم جباليا، وكان الحدث حديث الساعة، دخلت متجرًا لأحد الأصدقاء، وكان يعرف رأيي في صدام وبنيه، فقال: ها، ما رأيك؟ فقلت له، ماتوا ميتة أبطال، كل الاحترام، ففغر صديقي فاه!
لا يمكننا تزوير التاريخ، ولا العبث بأحداثه، على من يحب صدام أن يعرف ويعترف بأنه كان طاغيةً سفاحًا، وأن عداوة أمريكا له لا تمحو ذلك، وعلى من يبغضه أن يعترف بأنه قُتل وأولاده قتلة شريفة، بيد الاحتلال وعملائه، وأن طغيانه لا يغير ذلك.