مذنبٌ أم بريء؟
مرة أخرى خسر ميسي الرهان، وسقط في امتحانٍ جديدٍ مع منتخب بلاده بالخسارة في نهائي كوبا أمريكا، ليتكرر إحباط كأس العالم الماضية وما سبقها من مسابقاتٍ، غاب التوفيق فيها عن ميسي ورفاقه، لتبقى شمس البطولات والألقاب غاربة عن سماء التانغو، ويبقى عداد الإنجازات الدولية للأسطورة الحية ميسي واقفًا عند نقطة الصفر، بعكس حاله مع نادي برشلونة، الذي حقق معه من الإنجازات والألقاب ما لا يعد ولا يحصى، الأمر الذي أثار حفيظة بعض النقاد والصحفيين الأرجنتينيين، الذين عادت أقلامهم للتحول إلى سياطٍ تجلد كابتن منتخب بلادهم، وتتهمه بالتقصير في أداء الواجب الوطني، مما حدا بالنجم المصدوم إلى إعلان سخطه وحنقه الذي وصل إلى حد التلميح بالاعتزال الدولي، رغم أنه مازال في بداية ربيعه الثامن والعشرين!
فماذا عن قصة نحس ميسي مع الأرجنتين؟ وهل للنقاد الحق في اتهاماتهم له بالتخاذل؟ أم أن الرجل برئ من ذلك براءة الذئب من دم يوسف؟ وفي جميع الأحوال، ما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك النحس المزمن؟ وهل من علاجٍ ناجعٍ له؟ فلنناقش ونرى..
بداية القصة
ليس بإمكاننا في أي حالٍ من الأحوال نسب فترة فراغ البطولات التي يمر بها المنتخب الأرجنتيني إلى لاعبٍ بعينه، حتى ولو كان بحجم ميسي، فمنتخب التانغو يعيش فترة صيامٍ عن الألقاب، بدأت قبل حتى أن يلمس ليو أول كرة في حياته! وتحديدًا منذ عام 1993 عندما أحرز جيل غابرييل باتيستوتا لقب كوبا أمريكا للمرة الـ14 في تاريخ الأرجنتين، وحينها كان ميسي لايزال طفلًا في السادسة من عمره، وانتظر زهاء 12 عامًا أخرى حتى حظي بشرف تمثيل منتخب بلاده لأول مرةٍ، وذلك يوم الـ17 من أغسطس عام 2005، خلال مباراةٍ وديةٍ جمعت منتخب بلاده بالمجر في بودابست، حين شارك كبديلٍ للمهاجم ليساندرو لوبيز، ولم يمكث في الملعب أكثر من 44 ثانية تعرض بعدها للطرد المباشر إثر تدخله العنيف بالكوع على لاعبٍ مجري، لتكون البداية كارثيةً ولا تبشر بالخير، تمامًا كحال مستهل مبارياته الرسمية – غير الودية – مع المنتخب، والتي جاءت عام 2005 أيضًا ضمن تصفيات كأس العالم، وسقط حينها منتخب بلاده أمام الباراغواي في أسنسيون بهدفٍ وحيد، أما أول أهدافه الدولية فتأخرت حتى مشاركته السادسة، وجاءت خلال مباراة وديةٍ أمام منتخب كرواتيا في الأول من شهر مارس عام 2006، وارتبطت هي الأخرى بذكرى سيئة، حيث خسر منتخب التانغو حينها بثلاثة أهدافٍ لهدفين.
مشاركاتٌ وخيبات
أولى البطولات الكبرى التي شارك بها ميسي مع منتخب بلاده كانت كأس العالم عام 2006 في ألمانيا، وحينها لم يكن قد تجاوز الـ19 من عمره، ورغم إحرازه هدفًا أمام صربيا في ثاني مباريات الدور الأول، جعله أصغر من يسجل للأرجنتين عبر تاريخها في كؤوس العالم، إلا أنه لم يكن عنصرًا أساسيًا في تشكيلة خوسيه بيكرمان، التي خرجت بصعوبةٍ من الدور ربع النهائي إثر الخسارة بركلات الترجيح أمام ألمانيا المضيفة.
وبعدها بعام واحدٍ، تواجد “البرغوث” كما يُلقب، مع منتخب بلاده في فينزويلا لخوض غمار بطولة كوبا أمريكا، وكان حينها أصغر لاعبٍ في فريقه، الذي استطاع شق طريقه نحو المباراة النهائية، بعد تألق ميسي بتسجيله هدفين وصناعته مثلهما، ولكن الختام لم يكن مسكًا، بل كان حنظلًا، إذ تعرض ميسي ورفاقه إلى هزيمةٍ مريرةٍ أمام غريمه التقليدي البرازيلي، بثلاثة أهدافٍ نظيفة.
وفي مونديال جنوب أفريقيا عام 2010، لم ينجح الأسطورة مارادونا في نقل نجاحاته كلاعبٍ إلى فريقه كمدرب، فقد انقاد أبناء التانغو إلى خسارةٍ تاريخيةٍ في ربع النهائي على يد الماكينات الألمانية برباعيةٍ مذلةٍ، ودعوا من خلالها المونديال الأفريقي دون أية بصمةٍ تذكر، سوى أن نجمهم ليو ميسي، هداف هدافي أوروبا وأحسن لاعبٍ في العالم حينها، لم ينجح في تسجيل ولو هدفٍ واحدٍ خلال خمس مبارياتٍ خاضها في البطولة.
واستمر صيام ميسي عن التهديف في البطولات الكبرى، ففشل مرةً أخرى في تسجيل أي هدفٍ في نسخة عام 2011 من كوبا أمريكا، رغم إقامتها في ربوع بلاده الأرجنتين، التي ودعت المنافسات مبكرًا من الدور الثاني، إثر خسارتها بركلات الترجيح أمام منتخب الأورغواي.
أما في كأس العالم الماضية التي جرت في البرازيل عام 2014، فقد قدم الأرجنتينيون – بقيادة المدرب أليخاندرو سابيا – عروضًا طيبةً في الدور الأول، الذي تألق خلاله البرغوث بتسجيله أربعة أهدافٍ في ثلاث مبارياتٍ، مما دعا الجميع للاعتقاد بأنها بطولة ميسي، وأن ماكينته التهديفية لن ترحم أحدًا، ولكن الذي حصل كان العكس، فقد توقفت أهدافه تمامًا بعد الدور الأول، فلم ينجح في التسجيل خلال مبارياته الثلاث قبل النهائي الحلم، الذي تحول إلى كابوسٍ لميسي ورفاقه، بعد تجرعهم علقم الهزيمة أمام منتخب المانشافت بهدف غوتزة في الوقت الإضافي الثاني، لتتكرس العقدة الألمانية عند أبناء التانغو، بعد توقف مسيرتهم المونديالية أمامهم بالذات للمرة الثالثة تواليًا.
وفي بطولة كوبا أمريكا الأخيرة التي استضافتها تشيلي، تكرر مسلسل الإحباط الأرجنتيني مع الكابتن ميسي، فلم ينجح في تسجيل أكثر من هدفٍ يتيم من ركلة جزاء في الدور الأول، خلال البطولة بأكملها، ولو أنه صنع ثلاثة أهدافٍ في نصف النهائي الذي انتهى بسداسية آرجنتينية في مرمى الباراغواي، ولكن نحس أبناء التانغو في البطولات استمر، وصيام برغوثهم عن التسجيل في المباريات النهائية استمر، فسقطوا مجددًا في النهائي أمام تشيلي هذه المرة بركلات الترجيح.
بقي أن نذكر أن قصة النحس بين ميسي والأرجنتين خاصةٌ بالمنتخب الأول فقط، فقد حقق الرجل لقب كأس العالم مع منتخب الأرجنتين للشباب عام 2005، كما أحرز الميدالية الذهبية رفقة المنتخب الأرجنتيني الأوليمبي (تحت 23 عامًا) في منافسات كرة القدم ضمن أولمبياد بكين 2008.
سرّ اللّعنة
إذا حاولنا البحث عن سبب هذه اللعنة المستمرة، واستقصاء السر الكامن خلف هذا التناقض الصارخ بين مسيرة ليو ميسي مع منتخب بلاده، ونظيرتها مع ناديه برشلونة، نجد أن العامل المعنوي هو ضالتنا المفقودة، فميسي من نوعية اللاعبين الذين تظهر الآثار النفسية على أدائهم بشدة، فإذا كان مرتاحًا مطمئن البال قدم أفضل ما لديه، أما إن كان قلقًا كليل الفؤاد، فإنه يظهر مهزوزًا شارد الذهن، بعيدًا تمامًا عن مستوياته الرائعة التي لطالما سحر بها أعين المشاهدين مع ناديه برشلونة، الذي يحرص بدوره من خلال جميع كوادره، إداريين ومدربين وحتى لاعبين، على إبقاء ميسي في أفضل حالةٍ معنويةً، من خلال تلبية جميع مطالبه الرياضية وغير الرياضية، والتي وصلت إلى حد التدخل في شؤون التعاقدات والاستغناءات وتعيين المدربين، كل ذلك في سبيل إرضاء النجم الذي يحقق للنادي مكاسب رياضية واقتصادية لا تعد ولا تحصى، أما في الأرجنتين فالحال مختلف بعض الشيء، فرغم اهتمام المعنيين فيه بإرضاء جوهرتهم ميسي، إلا أنهم لم يستطيعوا فرض طاعته على لاعبي الفريق من حوله، وكلنا يذكر كأس العالم 2010 والخلاف الصامت بين ميسي وهيغواين، والآخر المعلن بينه وبين تيفيز فيما سبق، هذه الخلافات حصل مثلها بالفعل في برشلونة بين ميسي من جهةٍ، وبين نجومٍ كبار كرونالدينيو وإيتو وابراهيموفيتش ودافيد فيا من جهة أخرى، جميع هذه الأسماء انتهى بهم المطاف خارج أسوار النادي الكتالوني لأنهم شقوا عصا الطاعة لميسي، وجيء بغيرهم من النجوم ليكونوا في خدمته! وهذا الأمر غير ممكن بالطبع في المنتخب الأرجنتيني بسبب محدودية الأسماء.
وهكذا، تبقى معادلة تألق ميسي مع منتخب بلاده صعبة التحقيق عصية على الحل في المدى المنظور، وتبقى أجواء منتخب التانغو مشحونة بالقلق والتوتر مع استمرار فشل أسطورتهم في نقل مستوياته الخارقة ونجاحاته الباهرة إلى صفوفهم، ليبقى هو المتهم الأول في هذا الفشل من قبل عددٍ غير قليل من النقاد والصحفيين وحتى الجمهور الأرجنتيني، الذين يحملونه دون غيره وزر تلك اللعنة المزمنة، ومعهم في ذلك كل الحق، طالما استمر البرغوث في تناقضه الغريب والمريب.