مضى أزيد من 11 قرنًا على وفاة فاطمة الفهري، وهي بانية القرويين، أول جامعة في تاريخ العلم، فتميزت بكونها من أبرز رعاة العلوم في الفكر الإسلامي، وقال عنها ابن خلدون “فكأنما نبهت عزائم الملوك بعدها، وهذا فضل يؤتيه لمن يشاء من عباده الصالحين”.
أم البنين
فاطمة الفهري هي سليلة عقبة بن نافع الفهري القرشي، فاتح تونس ومؤسس مدينة القيروان، حيث ولدت فاطمة التي ستعرف فيما بعد بلقب أم البنين، نزحت وهي فتاة صغيرة مع العرب النازحين من مدينة القيروان إلى أقصى المغرب، ونزلت مع أهلها في فاس، في عهد المولى إدريس الثاني، حتى تزوجت وطاب لها المقام هناك.
أصاب أهلها وزوجها الثراء بعد كد وتعب واجتهاد وعمل، ولم يمض زمن طويل حتى توفي والدها وزوجها ثم مات أخ له؛ فورثت عنهما مالًا كثيًرا، شاركتها فيه أخت لها، هي مريم بنت محمد الفهري التي كانت تكنى بأم القاسم.
رأت الأختان أنه من الضرورة استغلال هذه الثروة في التقرب إلى الله، لما تميزتا به من زهد وتقوى وورع، وعقدتا العزم على بناء مسجدين يكونان ذخرًا لهما بعد موتهما، فبنت فاطمة مسجد القرويين منقطعة إلى الصوم طيلة مدة البناء إلى حين اكتماله في فاتح رمضان سنة 859م، فيما اقتدت بها أختها في بناء مسجد الأندلس في الفترة نفسها.
وقام المرابطون بإجراء إضافات على المسجد، فغيروا من شكل المسجد الذي كان يتسم بالبساطة في عمارته وزخرفته وبنائه إلا أنهم حافظوا على ملامحه العامة، وكان هناك تفنن من قِبل المعماريين في صنع القباب ووضع الأقواس ونقش آيات القرآن والأدعية، وكان أبرز ما تركه المرابطون في المسجد هو المنبر الذي لا يزال قائمًا إلى اليوم، وبعد المرابطين، قام الموحدون بوضع الثريا الكبرى والتي تزين المسجد الفاسي إلى اليوم.
لمسجد القرويين 17 بابًا وجناحان يلتقيان في طرفي الصحن الذي يتوسط المسجد، كل جناح يحتوي على مكان للوضوء من المرمر، وهو تصميم مشابه لتصميم صحن الأسود في قصر الحمراء في الأندلس.
البداية الجامعية
وأصبح جامع القرويين الشهير أول معهد ديني وأكبر كلية عربية في بلاد المغرب الأقصى، فبعد بناء الجامع قام العلماء بإنشاء حلقات لهم فيه، وكان يجتمع حولها العديد من طلاب العلم، وبفضل الاهتمام الفائق بالجامع من قِبل حكام المدينة المختلفين؛ تحولت فاس إلى مركز علمي وثقافي ينافس المراكز العلمية ذائعة الصيت في مدينة قرطبة وفي مدينة بغداد.
يُعتقد أن جامع القرويين قد انتقل من مرحلة الجامع إلى مرحلة البداية الجامعية في العهد المرابطي، حيث قام العديد من العلماء باتخاذ المسجد مقرًا لدروسهم، وحسب النصوص المتوفرة فإن جامع القرويين دخل مرحلة الجامعة الحقيقية في العصر المريني حيث بنيت العديد من المدارس حوله وعزز الجامع بالكراسي العلمية والخزانات.
وكما تخرج من الجامعة علماء مسلمون فقد تخرج منها علماء غربيون كذلك؛ ومنهم سيلفستر الثاني (غربيرت دورياك)، الذي شغل منصب البابا من عام 999 إلى 1003م، ويقال إنه هو من أدخل بعد رجوعه إلى أوروبا الأعداد العربية، كما أن موسى بن ميمون، الطبيب والفيلسوف اليهودي، قضى فيها بضع سنوات قام خلالها بمزاولة التدريس في الجامعة.
درّس فيها الفقيه المالكي أبو عمران الفاسي، ابن البنا المراكشي، ابن العربي، ابن رشيد السبتي، ابن الحاج الفاسي، وابن ميمون الغماري، وزارها الشريف الإدريسي ومكث فيها مدة كما زارها ابن زهر مرات عديدة، وكتب فيها ابن آجروم كتابه “الآجرومية”، الذي يعتبر من أهم كتب النحو العربية، كما اشتهر في الجامعة بعد هجرته من الأندلس إلى فاس؛ ابن باجة وكان ممن نبغوا في الطب والفلسفة، وبقي هناك إلى أن توفي سنة 1138.
وحسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية، فإن القرويين هي أقدم جامعة في العالم والتي لا زالت تُدرس حتى اليوم.