كثيرًا ما نقول أن الإرهاب صناعة أمريكية، وهي جملة لا نعنيها حرفيًا بالطبع، ولكن نقصد بها أن كافة الحركات المتطرفة (أو الإرهابية أو الجهادية سمها ما شئت) نشأت في الغالب كرد فعل للسياسات الأمريكية بالعالم الإسلامي، وأنها مبنية بالأساس على الإحساس بالغضب والرغبة في الانتقام من “الشيطان الأكبر” الذي ساهم في نشأتها بقمع الديمقراطية والتنمية ودعم النظم الاستبدادية، بيد أن ما كشف عنه الصحافي الأمريكي تريفور آرونسون، المتخصص في كشف نشاطات جهاز المباحث الفيدرالية الأمريكي FBI، قد يشي لنا بأن جملة “الإرهاب صناعة أمريكية” قد تكون صحيحة حرفيًا في بعض الحالات.
بدأ آرونسون أبحاثه في نشاطات المباحث الفيدرالية عام 2010، حين حصل على منحة بحثية من قسم التحقيق الصحافي بجامعة كاليفورنيا بركلي، ليبدأ في جمع كافة القضايا المتعلقة بالإرهاب داخل الولايات المتحدة منذ عملية الحادي عشر من سبتمبر، والبحث عن صلات متهمي كل قضية بالتنظيمات الإرهابية العالمية مثل القاعدة، ودراسة المتهمين بشكل شخصي، وهي البحوث التي أدت لاكتشاف آرونسون مجموعة من المتهمين المرضى عقليًا ونفسيًا بشكل أساسي قامت المباحث عن طريق عملائها باستغلالهم ليس إلا.
بعد أن تم تسريب بعض الوثائق الخاصة بحالة المتهم سامي أوزمكاش، المسلم ذي الأصول الكوسوفية، والتي احتوت على محادثات بين مسؤولي وعملاء جهاز المباحث الفيدرالية، كتب آرونسون مقالًا طويلًا في مجلة “ذه إنترسِبت” وضع فيها كل ما توصّ له، إذ اتضح أن المباحث الفيدرالية تلاعبت بسامي كمريض نفسي، وقدمت له السلاح والمال، ثم قامت عن طريق أحد عملائها المتخفيين بإعطاء تعليمات له ليقوم بوضع نفسه كإرهابي في فيديو قامت هي نفسها بتصويره كما تبين من الوثائق، لتخلق “نهاية هوليودية” طبقًا لما ذكره أحد المسؤولين في الوثائق المسرّبة، وتؤدي في النهاية إلى سجنه لأربعين سنة في نوفمبر الماضي بتهمة التحريض على الإرهاب.
سامي أوزمكاش
جالسًا على سجادة الفندق الحمراء بلحية قصيرة، ومرتديًا شرابات قطنية بيضاء بادية من تحت بنطاله القصير وحزامًا ناسفًا، وجه سامي حديثه للشباب المسلم ومن خلفه بندقية AK-47 وفي يديه مسدسًا صغيرًا، “هذه دعوة إلى الحق، للوقوف بجانب حزب الله.. والثأر لكل أخ تم تعذيبه وكل أخت تم اغتصابها.”
بهذه الكلمات، قام سامي بتسجيل فيديو “الشهادة” الخاص به كما تسميه المباحث الفيدرالية والسلطات الأمريكية في فندق بولاية فلوريدا، ليبدأ بعد ذلك في توجيه سيارة اعتقد أنها مفخخة كما قيل له داخل إحدى الحانات، بيد أن تلك العملية لم تكن عملية إرهابية سوى في عقل سامي، والذي كان يعاني حينها من اضطرابات عقلية طبقًا لأطبائه والأطباء المعينين من قبل المحكمة الأمريكية التي حاكمته فيما بعد.
سامي أوزمكاش مع أحد مخبري المباحث الفيدرالية المتخفي كمسلم
قبل تلك الحادثة بثلاث سنوات، كان أوزمكاش، القادم من أسرة علمانية، والمنجذب حديثًا إلى الدين، قد تعرف إلى مسلم جديد أيضًا باسم راسل دنيسون في جامع قريب من منزله، وقد بدأ يتأثر به كثيرًا طبقًا لأسرته، فغيّر من طريقة ملابسه، ولم يعد يعمل في المخبز الذي تديره الأسرة نظرًا لبيعه للحم الخنزير، وأطلق لحيته، بيد أن دنيسون لم يكن سوى عميلًا للمباحث الفيدرالية وضع سامي على الطريق المؤدي لاتهامة بالإرهاب خلال خمس سنوات.
في 2011، قام دنيسون بتعريف سامي على رجل فلسطيني يمتلك متجرًا اسمه عبد الرءوف دبوس، وهو الرجل الذي أصبح فيما بعد على اتصال بالمباحث الفيدرالية مقابل حوالي 20،000 دولار، وقام بتسجيل كل محادثاته مع سامي دون أن يعرف الأخير ذلك بالطبع، والذي كان يمر في تلك الفترة بتدهور في حالته النفسية والعقلية طبقًا لمعالجيه قاربت على الشيزوفرينيا، وخلال أسابيع، كان دبوس قد عرّفه إلى عميل المباحث الفيدرالية المتخفي أيضًا أمير جونز، والذي قال له أنه يمكن أن يعطيه أسلحة، وهو الذي قاده بنفسه إلى الفندق، وأعطاه السلاح بالفعل، وقام بتصوير الفيديو الذي يظهر فيه سامي، وأدانه بعد سنوات ليتلقى حكمًا بالسجن لمدة أربعين سنة.
أمير جونز يوضّح لسامي كيفية حمل السلاح قبل تصوير الفيديو في الفندق
في يناير 2012، وبعد إنتاج الفيديو واعتقال سامي، كان أمير جونز يسخر مع زملائه مسؤولي المباحث الفيدرالية من أوزمكاش، “لقد بدا عليه التوتر أمام الكاميرا.. وشعر بالإثارة حين رأى كل تلك الأشياء (الأسلحة وأدوات التصوير)… وكأنه طفل في السادسة في محل لُعَب،” هكذا تحدث المسؤولون مع بعضهم البعض في التسجيل المسرّب، “إنه أحمق ومتخلّف،” هكذا وصفه أحد مسؤولي المباحث، متحدثًا عن جهله التام بالسوق السوداء للأسلحة وعدم قدرته على تخطيط أي شيء بنفسه، بل وتصديقه بأنه تحت رقابة الأقمار الصناعية الخاصة بالولايات المتحدة كعضو بخلية إرهابية.
يحتوي التسريب أيضًا على إصرار أحدهم إعطاء أوزمكاش الأموال ليقوم بدفع الأموال لشراء السلاح، مما يجعله في وضع يتيح للسلطات إلقاء القبض عليه، وهو ما اشترطته جهات التحقيق التي تواصلت معها المباحث في الواقع قبل أن تعتقل سامي بتهمة الإرهاب، وهو ما نجحت فيه بعد أن أوصلت سامي بدبوس عن طريق دنيسون، والذي عيّنه في متجره ليتقاضى المال، ويقوم بالفعل بدفع الأموال لأمير جونز مقابل الحصول على السلاح، وبالتالي السقوط في فخ “الميول الإرهابية.”
منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، اعتقلت المباحث الفيدرالية العشرات مثل أوزمكاش في جهودها “المكافحة للإرهاب”، وهي اعتقالات غالبًا ما تمت بعد أن أمضى هؤلاء مع مخبريهم المتخفيين فترة تبلورت فيها نشاطاتهم بمساعدة أولئك المخبرين أنفسهم، وهو ما يشي بأن الكثير من المرضى النفسيين في الولايات المتحدة، وحتى إن امتلكوا ميولًا إرهابية بالفعل، تقوم المباحث بتعزيز تلك الميول لديهم عن طريق مخبريها حتى يصبح ليهم بالفعل، أمام القانون، سجلًا إرهابيًا يمكنها من اعتقالهم.
طبقًا لمنظمة هيومان رايتش ووتش، لا يبدو أن المباحث الفيدرالية تقوم باعتقال إرهابيين بالفعل بقدر ما تخلقهم بنفسها ثم تعتقلهم بشكل “هوليودي” بعبارات أحد مسؤوليها، وهي تستغل في ذلك المأزومين اقتصاديًا، أو المرضى نفسيًا وعقليًا، لجرّهم إلى عتبات طريق الإرهاب الذي ما كانوا ليحلموا بالوصول إليه، ثم القبض عليهم هناك، وهو نهج ثبت عن طريق تحقيقات آرونسون الصحافية أنه تم مع ما لا يقل عن 49 متهمًا، وقد يصل إلى 400 اعتقلتهم السلطات عن طريق تواصلهم مع مخبرين.
سامي أوزمكاش مع أسرته عام 2009
يقبع سامي الآن في سجن خاص بولاية بنسلفانيا، ويقول أنه تم التلاعب به واستغلال مرضه العقلي لجره إلى تهمة الإرهاب، وأن كل ما كان يطمح له هو الاتجاه لبلد مسلم والزواج بامرأة مسلمة ودراسة العربية والدين، ولكن المباحث دفعته لاتجاه آخر لتلبي رغباتها وبرامج “مكافحة الإرهاب” المزعومة.
“كنت أريد أسرة وأطفالًا بعيدًا عن الغرب فقط ليس إلا، وكنت أعرف أن الله سيشفيني مما في داخلي من شرور حينئذ، ولكنني اكتشفت فيما بعد أنها لم تكن سوى اضطرابات عقلية،” هكذا يقول سامي مدافعًا عن نفسه، والذي تقوم أسرته حاليًا بتدبير الأموال لتبحث عن محامي يستأنف الأحكام الصادرة ضده.