“آخر الشيوخ؟”

ترجمة: عزام التميمي
مدينة درهام، إنجلترا – شهد هذا الصيف لجوء أعداد كبيرة من السعوديين الساخطين إلى الانترنيت للتعبير عن مظلومياتهم ورفع عقيرتهم بالشكوى من تزايد عدم المساواة، وتنامي الفقر، واستشراء الفساد وارتفاع معدلات البطالة.
فقد غدت حملتهم على تويتر واحدة من أكثر المواضيع انتشاراً ومتابعة، الأمر الذي دق نواقيس الخطر داخل الدوائر النخبوية في المملكة العربية السعودية وبلغت أصداؤه جميع أنحاء المنطقة. ولعل شعار الحملة، “الراتب ما يكفي الحاجة”، هو الذي ساعد على إثبات أن العقد الاجتماعي بين النظام الملكي والشعب يتجه نحو الانفراط وبشكل صريح وكبير.
يعتقد كثير من الخبراء أن دول الخليج نجت من الربيع العربي لأنها مختلفة، فقد تمكنت من قبل بالثبات في وجه العديد من العواصف العاتية – ابتداء من ثورات القومية العربية في الخمسينيات والستينيات مروراً بغزو صدام حسين للكويت عام ١٩٩٠ وانتهاء بحملة الإرهاب التي شنتها القاعدة عام ٢٠٠٣.
ولكن هذه الدول لا تختلف من حيث المبدأ عن غيرها من دول المنطقة، كل ما هنالك أنها تمكنت من شراء بعض الوقت بما يتوفر لديها من عائدات نفطية، وقد آذن هذا الوقت على النفاذ.
قد لا يواجه شيوخ الخليج الفارسي في العام المقبل نفس مصير العقيد معمر القذافي في ليبيا أو حسني مبارك في مصر، ولكن النظام الذي أوجدوه لم يعد صالحاً على المدى البعيد وقد ينهار في وقت أبكر مما يظن الكثيرون.
تعتبر المملكة العربية السعودية حجر الزاوية بين الملكيات الست في الخليج، ولذلك فإن استقرارها الداخلي أمر في غاية الأهمية بالنسبة للمنطقة بأسرها وخاصة أن اهتماماً كبيراً بدأ يتركز على هذه الأنظمة السياسية ذات الطبيعة المناقضة للعصر بعيد انطلاق انتفاضات الربيع العربي في عام ٢٠١١.
بالرغم من أنه ليس مظهراً صحياً أن تعامل أي دولة على أنها حالة استثنائية إلا أن المملكة العربية السعودية بالفعل مختلفة نوعاً ما عن جيرانها. فعلى النقيض من السيد مبارك أو العقيد القذافي، توفرت لدى ملك السعودية، الملك الثمانيني عبد الله بن عبد العزيز، موارد مالية-نفطية مكنته من شراء المحتجين. وبذلك تمكن من تهدئة الغضب الذي اشتعل في حديقته الخلفية من خلال الدعم السخي للسلع، وزيادة معدلات التوظيف في القطاع العام بشكل كبير جداً والإعلان عن برامج غير مسبوقة للإنفاق الحكومي. نجح ذلك كله حتى الساعة في إقناع الجماهير بعدم الخروج إلى الشوارع.
إلا أن هذا لا يعتبر دليلاً على قدرة النظام الملكي على التكيف مع المتغيرات حسبما أفاد بعض الدبلوماسيين والأكاديميين الغربيين. بل على العكس من ذلك، فاستراتيجية المملكة العربية السعودية التي تعتمد على ضخ الموارد إنما هي بمثابة رد فعل على السخط المتصاعد في المنطقة يحفزه الخوف العميق لدى النظام في السعودية من أن الشعوب المتململة في أرجاء العالم العربي يمكن أن يحرض تململها في نهاية المطاف شعب المملكة على الانتفاض.
أضف إلى ذلك أن الإنفاق في سبيل تحقيق الاستقرار في المملكة العربية السعودية وفي ممالك الخليج الأخرى سيكون، بالضرورة، قصير الأمد. لقد تعهدت المملكة بتخصيص ٥٠٠ مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق، للإنفاق على “الرعاية” هذا العام، سينفق جلها على دعم برامج الضمان الاجتماعي وعلى خلق فرص عمل جديدة في القطاع العام.
لا يمكن الاستمرار طويلاً في مثل هذا الإنفاق، بل إن مثل هذه السياسة المالية تتناقض مع كل الجهود التي بذلت عبر عقود للتأسيس لنظام مالي مسؤول ويخضع للمحاسبة والشفافية في المملكة ولفطم الشعب عن الهبات وعن الركون إلى القطاع العام.
إضافة إلى تضاؤل احتياطي النفط، والارتفاع السريع في الاستهلاك المحلي للطاقة، والتنويع المتزايد في موارد الطاقة بين حلفائها، فإن إنفاق المملكة المتصاعد بشكل كبير سيؤدي بها وبالممالك الخمس الأخرى في الخليج إلى الاقتراب بشكل سريع من سعر نفطي ستكون محصلته أن “لا لها ولا عليها”. بمعنى آخر، ينبغي أن يستمر سعر برميل النفط الذي تحتاج إليه هذه الدول حتى تتمكن من موازنة دفاتر حساباتها في الارتفاع. لقد تجاوز سعره الآن في البحرين ١١٥ دولاراً (وهو أعلى بكثير من سعر الأمس الذي كان ما يقرب من ١٠٢ دولاراً) بينما ارتفع في عمان إلى ١٠٤ دولاراً.
غدا الاعتماد على أسعار نفط مرتفعة في كل من البحرين وعمان مصدر خطر، بينما بدأ الوزراء في الممالك الصغيرة ذات الثراء النفطي يتحدثون في العلن عن أن سعر النفط وصل مستوى اللا ربح واللا خسارة. لم يكن أحد يتصور مثل هذا الأمر قبل أعوام قليلة. حتى الكويت تلقت في مطلع أكتوبر تحذيراً من صندوق النقد الدولي الذي أخبرها بضرورة لجم إنفاقها على الرعاية وعلى خلق وظائف جديدة في القطاع العام ناصحاً إياها بالمبادرة في أسرع وقت ممكن إلى تعزيز الواردات غير النفطية.
بالنسبة للعائلات الحاكمة في الخليج ما هو أسوأ من الأزمة الاقتصادية المحدقة بدولها هو إجراءاتها القمعية ضد المحتجين والتي بدأت الآن تؤثر بشكل واضح على شرعيتها في الوقت الذي بدأت تهترئ فيه تلك العقود الاجتماعية التي شحذت بعناية مع الشعوب.
كان النصف الأول من عام ٢٠١١ قد شهد أعداد كبيرة من الاعتقالات وبعض الوفيات، إلا أن ذلك كله لا يكاد يذكر أمام القمع المهول الذي يمارس اليوم، وخاصة في البحرين والمملكة العربية السعودية حيث تمارس الإجراءات الأكثر وحشية، مما خلف عشرات القتلى في البحرين وحوالي ١٨ قتيلاً في المملكة العربية السعودية. ولا تخلو دولة مجاورة من معتقلين سياسيين. في العام الماضي حكمت قطر على شاعر ناقد لهذه الأنظمة الأتوقراطية بالسجن مدى الحياة ثم خففت العقوبة إلى ١٥ عاماً.
لقد فاجأت مثل هذه التحركات المجتمع الدولي وأخذت على حين غرة بشكل خاص تلك المؤسسات والحكومات التي انطلت عليها أسطورة الهبات السخية لممالك الخليج. إلا أن الأهم من ذلك هو أن البطش المتزايد الذي يمارسه الحكام لا يمر على شعوبهم دون أن يأخذوه بالحسبان.
فهذه البلدان تتمتع بنسب تداول للإنترنيت السريعة والهواتف النقالة الذكية تكاد تكون الأعلى في العالم مما يمكن الناس من الوصول إلى المعلومة وتبادلها بشكل غير مسبوق، والناس اليوم يتساءلون بتذمر وبشكل علني عن العدد الهائل من السجناء السياسيين وعن اللجوء إلى قوانين مكافحة الإرهاب لتبرير الاعتقالات الجماعية وعن العدوان المكشوف على ما تبقى من المجتمع المدني وعلى الجامعات وعلى وسائل الإعلام.
البحرين جزيرة صغيرة لا تبعد سوى عدة أميال عن المملكة العربية السعودية يربطها بها جسر وتقوم بشكل متزايد بدور الدولة التابعة للرياض تأتمر بأوامرها. لقد نال النشطاء المؤيدين للديمقراطية فيها ما نالهم من القمع، وهوجمت اعتصاماتهم الاحتجاجية – التي كانت على وشك التحول إلى ثورة كاملة الأركان في منتصف عام ٢٠١١ – مراراً وتكراراً من قبل مرتزقة يجلبون في العادة من الباكستان أو الأردن، بينما عمدت الحكومة إلى دعوة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة إلى التدخل العسكري المباشر. ولذلك لا يتوقع أن تقبل أغلبية الشعب، وهم من الشيعة، العيش مرة أخرى بعد الآن في كنف مملكة سنية تقليدية.
أقدمت حكومة البحرين في عام ٢٠١١ على جرف دوار اللؤلؤة الذي غدا رمزاً ونقطة تجمع للمحتجين في المنامة، كما تم تدمير العشرات من مساجد الشيعة. والأخطر من ذلك أن شيعة البحرين وشيعة المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية باتوا ضحايا لاستراتيجية طائفية بشعة بينما سعت الحكومة السعودية إلى إقناع مواطنيها السنة وحلفائها الغربيين أنها إنما تكافح ضد أذرع عميلة لإيران ذات النزعة التوسعية والخطرة وليس ضد ثورة شعبية تطالب بالديمقراطية.
وحتى دولة الإمارات العربية المتحدة تستخدم ذريعة الخطر الخارجي، ولكن، وحيث أنها لا يوجد بها جالية شيعية كبيرة، فقد هجمت السلطات الإماراتية على ما ادعت إنه “الإخوان المسلمون الإماراتيون” وذلك باعتقال المئات من المواطنين بما في ذلك العشرات من أعضاء المنظمات الإسلامية المحلية المسالمة والتي كانت موجودة وفاعلة منذ زمن طويل. والآن حققت الإمارات العربية المتحدة أعلى معدل في العالم من المعتقلين السياسيين مقارنة بعدد السكان، ويقبع وراء القضبان في سجونها محامون متخصصون في قضايا حقوق الإنسان وأكاديميون وطلبة. ولم يسلم من ذلك قاض سابق وأحد أعضاء العائلة الحاكمة اللذان وجهت لهما تهمة “التخطيط لقلب نظام الحكم في الدولة”.
وكما هي الحال بالنسبة لاستراتيجية الإنفاق السخي، تمكنت هذه الدول من خلال القمع من شراء بعض الوقت ولكن بتكلفة باهظة تتكبدها شرعية الحكام. قد تفلح إجراءات فرق تسد، مثل إشاعة التوترات الطائفية وتوجيه اللوم لجهات أجنبية، في تحويل الانتباه بعيداً عن الأنظمة السياسية الأتوقراطية، ولكن فقط إلى حين.
حينما تفقد “استثنائية” الممالك الخليجية قوة دفعها، وهذا حاصل لا محالة، فإن شعوبها ستكون في وضع يؤهلها للانضمام إلى الحراك الأكبر في المنطقة باتجاه تغيير النظم السياسية القائمة والذي يجري على حساب النخب القمعية غير الخاضعة للمساءلة ولصالح جيل الشباب الأجرأ على الصدع بالحق والمتمتع بدرجة عالية من الوعي السياسي والذي يحسن التواصل فيما بينه.
مقال رأي في عدد ١٨ أكتوبر من صحيفة نيويورك تايمز