العسكر والديموقراطية: قراءة في أوراق ثورة يوليو

dhp6530-25-5_01_0_0-1-

جاء تحرك الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 كأقوى تعبير عن غضب المصريين مما وصلت إليه أحوال البلاد من الفساد والرشوة والاحتلال، وهي العوامل التي تسببت في هزيمة العام 1948 التي تأسس على إثرها تنظيم الضباط الأحرار في محاولة لإصلاح تلك الأوضاع.

بعد الهزيمة تيقن لواء الجيش محمد نجيب أن المعركة الحقيقية في مصر وليست في فلسطين وأنه مع استمرار الأوضاع الداخلية تلك لا يمكن أن يكون هناك انتصار في مواجهة خارجية، وبدأ يتحدث بذلك مع من يثق فيه من الضباط؛ ما كان سببًا في اختياره قائدًا لتنظيم الضباط الأحرار بعد ذلك حيث كان الأعلى رتبة عسكرية بينهم كما كان يتمتع بثقافة عالية كونه حاصلاً على ليسانس الحقوق ولما تمتع به من سمعة طيبة خاصة بين ضباط الجيش الذين ما إن كانوا يعرفون بقيادته للتنظيم حتى يسارعون إلى الانضمام.

انتخابات نادي الضباط

تتحدث الشهادات التي توثق لثورة يوليو أن الضباط كانوا يرتبون لحركتهم ويتوقعون أن تكون بعد ثلاث سنوات من قيامها وتحديدًا العام 1955، لكن النجاح الكبير الذيتحقق لهم في انتخابات نادي الضباط والفوز الكبير الذي حققه نجيب على منافسه ومرشح القصر حسين سرى في يناير 1952 ومن ثم صدور قرار الملك بحل مجلس إدارة النادي جعل الضباط يعيدون التفكير ومنحهم ثقة في قدرتهم ومثل مؤشر هام على ارتفاع أسهمهم خاصة بين ضباط الجيش؛ ما استدعى تغييرًا في الخطط واستعجالاً في الحركة التي بدا الشعب في احتياج إليها.

عندما حانت لحظة التحرك كانت الخطة محكمة؛ ما أفشل ظهور أي مقاومة وما مكن الضباط من السيطرة التامة على الأمور؛ فكان بيان الثورة الذي تلا نصه السادات بمثابة إعلان نجاح ما سمى وقتها الحركة المباركة ودخول مصر مرحلة جديدة ستتغير فيها كثير من الأمور ودعم ذلك النجاح في إجبار الملك على مغادرة البلاد في 26 يوليو؛ ما منح الضباط السلطة الفعلية للبلاد، وتم إعلان مبادئ الثورة الست التي مثلت أهدافها وتحدثت خمسة منها عن العدالة الاجتماعية ورفض الإقطاع وسيطرة رأس المال وضرورة التخلص من الاحتلال وإقامة جيش وطني قوي وهي المبادئ التي حازت على إجماع الآراء بين الحكام الجدد، إلا أن مبدأ واحدًا وهو الرابع في الترتيب والخاص بإقامة حياة ديموقراطية سليمة مثّل نقطة اختلاف جوهرية وظل التحدي الصعب الذي لم تنجح في تحقيقه الثورة.

بعد نجاح الثورة بدأ الضباط يتصرفون بوصفهم الحكام الجدد وشرعوا يحاولون جني ثمار حركتهم حتى تحدث الناس بأن الثورة طردت ملكًا لتأتي بثلاثة عشر ملكًا وهو يشبه ما تحدث به المشير عبدالحكيم عامر في إحدى مراحل صراعه مع عبدالناصر بأن الثورة طردت فاروق الأول لتأتي بعبد الناصر الأول!

وذكر ذلك نجيب في كتابه “كنت رئيسًا لمصر” فيقول:

“خرج الجيش من الثكنات وانتشر في كل المصالح والوزارات المدنية فوقعت الكارثة التي لا نزال نعاني منها إلى الآن في مصر، كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون قويًا فأصبح لكل منهم “شلة” وكانت هذه الشلة غالبًا من المنافقين الذين لم يلعبوا دورًا لا في التحضير للثورة ولا في القيام بها”.

سرعان ما ظهر الخلاف بين الحكام الجدد حول عودة الديموقراطية وقضية الحريات؛ فكان أول خلاف حول محكمة الثورة حيث اعترض نجيب على التوسع في محاكمة زعماء العهد الملكي ورفض توقيع قرارًا باعتقال النحاس باشا ضمن سلسلة اعتقالات للسياسيين وتوالت الأحكام المثيرة لمحكمة الثورة حين قضت على عدد من الصحفيين بالحبس المؤبد بتهمة إفساد الحياة السياسية، لم يستطع نجيب مقاومة زملائه من الضباط فقرر الانسحاب وقدم استقالته إليهم في 22 فبراير 1954 والتي أعلنها مجلس قيادة الثورة في 25 فبراير بطريقة مهينة لنجيب عمدوا فيها إلى تشويه صورته وادعوا أنه طلب منحه سلطات واسعة وحاول الانفراد بالسلطة وقلل البيان من دوره في الثورة حيث ذكر أنه علم بموعد الثورة ليلة 23 يوليو!

إلا أن الجماهير كان لها رأي آخر حيث سرعان ما انطلقت المظاهرات المطالبة بعودة نجيب وانقسم الجيش نفسه إلى مؤيد لاستقالته ومعارض لها، فكان سلاح الفرسان الأكثر تعاطفًا مع نجيب ما اضطر مجلس قيادة الثورة مجبرًا إلى إصدار بيان مساء 27 فبراير يعلن فيه عن عودة نجيب لرئاسة الجمهورية.

بعدما تصورت الجماهير أن إعادة نجيب إلى الرئاسة على أكتافها من شأنه أن يقوي موقفه وأن يكون على قدر طموحها وقادرًا على تنفيذ خطته الرامية إلى إعادة الحياة النيابية وتأسيس حياة ديموقراطية حقيقية إلا أنه عاد واضعًا يده بيد أصدقائه الضباط وأحسن الظن بمن أساؤا إليه فحانت لحظة النهاية مع أزمة مارس الشهيرة .

أزمة مارس 1954

أدار رفاق نجيب خطة ذكية للإطاحة به نهائيًا هذه المرة، ففي 25 مارس أصدر مجلس قيادة الثورة قرارات هامة تمثلت في:

– السماح بتأسيس الأحزاب.

– مجلس قيادة الثورة ﻻ يؤلف حزبًا.

– ﻻ حرمان من الحقوق السياسية.

– انتخاب الجمعية التأسيسية بشكل مباشر من الشعب ويكون لها سلطة البرلمان.

– تنتخب الجمعية التأسيسية رئيسًا للجمهورية فور انعقادها.

– حل مجلس قيادة الثورة في شهر يوليو وتسلم إدارة البلاد للسلطات المنتخبة.

يذكر نجيب في كتابه عن هذه القرارات:

“كانت هذه القرارات في ظاهرها ديمقراطية وفي باطنها فتنة وتوتر، فقد أثارت الناس الذين لم يرق لهم أن تعود الأحزاب القديمة بكل ما توحي من فساد وتاريخ أسود، وبكل ما توحي لهم بنهاية الثورة التي عقدوا عليها كل آمالهم في التطهر والخلاص، وأثارت هذه القرارات ضباط الجيش الذين أحسوا أن نصيبهم من النفوذ والسلطة والمميزات الخاصة قد انتهي”.

وفي 28 مارس شهدت مصر أغرب مظاهرات ربما في تاريخها الحديث، تلك التي خرجت تهتف بسقوط الديموقراطية والانتخابات ودارت حول مبنى البرلمان والقصر الجمهوري وتحدثت كثير من المصادر بعد ذلك بأن تلك المظاهرات كانت مدفوعة الأجر من جناح عبدالناصر، وأكد ذلك اعتراف رئيس اتحاد عمال النقل بتلقي مبالغ مالية مقابل تنظيم مظاهرات تطالب بسقوط الديموقراطية وسقوط الحرية!

لتنجح خطة الضباط وتلغى قرارات مارس.

نجيب تحت الإقامة الجبرية

خسر نجيب الصراع وخسرت معه مصر الديموقراطية لعشرات السنين، لنصل لمشهد النهاية عندما أبلغ المشير عامر الرئيس نجيب بقرار مجلس قيادة الثورة إعفائه من منصبه في نوفمبر 1954 طالبًا منه الإقامة بفيلا زينب الوكيل (حرم النحاس باشا) في المرج ووعده بألا تطول مدة إقامته بها عن أيام قليلة يعود بعدها إلى بيته وأسرته إلا أنه لم يخرج منها طيلة ثلاثين عامًا.

كانت تلك هى الحلقة الأهم في صراع قادة ثورة يوليو التي تحولت من انقلاب إلى ثورة ثم إلى انقلاب 54 الذي أسس لحكم ذي طبيعة عسكرية بأشكال ووجوه مختلفة وبشرعيات ومبررات متنوعة، إلا أنها جميعًا تشترك في خصومتها مع الديموقراطية وقضية الحريات.