ساهم تقدم سن الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، في أن يكون محط أنظار الساسة والإعلام متى تعلق الأمر بوعكة صحية يتعرض لها أو حتى أثناء زيارته لأحد المستشفيات لعيادة صديق أو فرد من العائلة.
وفي الحقيقة، قد نخطئ العد متى حاولنا إحصاء عدد المرات التي أُشيع فيها أن رئيس البلاد دخل في مرحلة العجز البدني عن إدارة دواليب قصر قرطاج، وبغض النظر عن خلفيات إنتاج هذا الخبر إعلاميا بين السياسوي الضيق أو القلق المسؤول، يمكننا أن نستشف أهمية هذا المعطى من خلال سرعة انتشاره وتداوله في شبكات التواصل الإجتماعي.
كاتب هذا المقال لا يزعم اطلاعه على معلومات استثنائية ولا يدعي علم الغيب، ولايتمنى لتونس حالة استثنائية قد تدفعها لإضاعة مزيد من الوقت في فترة تعاني فيها اقتصاديا واجتماعيا، بل ينطلق من فرضية قد تأتي وقد لا تأتي مُحاولا استشراف السيناريوهات المُتعدّدة التي قد يطرحها احتياج تونس لانتخابات رئاسية مبكرة.
ماذا يقول الدستور التونسي؟
تعرض المُشرع التونسي عبر دستور البلاد الجديد، الذي صودق عليه يوم 26 يناير 2014، لحالات تعذر مواصلة اضطلاع رئيس الجمهورية بمهامه وقتيا أو بصفة نهائية في باب السلطة التنفيذية، وتحديدا الفصول 82 و 83 و 85.
فبحسب الفصل 82، يحق لرئيس الجمهورية، إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية، أن يفوض سلطاته إلى رئيس الحكومة لمدة لا تزيد عن ثلاثين يوما قابلة للتجديد مرة واحدة، مع ضرورة إعلام رئيس مجلس نواب الشعب بهذا القرار.
وعند الشغور الوقتي لمنصب رئيس الجمهورية، لأسباب تحول دون تفويضه سلطاته، وبحسب الفصل 83، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقر الشغور الوقتي، فيحل رئيس الحكومة محل رئيس الجمهورية. ولا يمكن أن تتجاوز مدة الشغور الوقتي ستين يوما. وفي حال تجاوز الشغور الوقتي مدة الستين يوما، أو في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أوفي حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقر الشغور النهائي، وتبلغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما.
ويمارس القائم بمهام رئيس الجمهورية، خلال الشغور الوقتي أو النهائي، المهام الرئاسية، بحسب الفصل 85، ولا يحق له المبادرة باقتراح تعديل الدستور، أو اللجوء إلى الاستفتاء، أو حل مجلس نواب الشعب. وخلال المدة الرئاسية الوقتية يُنتخب رئيس جمهورية جديد لمدة رئاسية كاملة، كما لا يمكن تقديم لائحة لوم ضدّ الحكومة.
أي إمكانية لإعادة إنتاج 7 نوفمبر جديد؟
وفي الحقيقة، سبق للتونسيين أن عايشوا هذا السيناريو سنة 1987، حينما انقلب الجينرال زين العابدين بن علي على الرئيس الحبيب بورقيبة، انقلابا طبيا عسكريا ساعدت عليه الحالة الصحية المتدهورة للرئيس الذي أعلن نفسه رئيسا مدى الحياة.
وقد اعتمد بن علي وقتها على تقرير طبي أصدرته مجموعة من الأساتذة الأطباء، فجر يوم 7 نوفمبر، عن عجز الرئيس بورقيبة (البالغ من العمر حوالي 87 عاما) عن القيام بالمهام المنوطة بعهدته، بمشاركة عدة سياسيين من أبرزهم المدير السابق للحزب الاشتراكي الدستوري (الحزب الحاكم) الهادي البكوش، وزير الإعلام عبد الوهاب عبد الله، ووزير الدفاع صلاح الدين بالي، في حين اعتمد أساسا على الحرس الوطني بقيادة الحبيب عمّار لتأمينها. ووُضع بورقيبة رهن الإقامة الإجبارية في ضيعته في منطقة مرناق كما وقع التحفظ في اليوم نفسه على عدة شخصيات موالية له من أبرزها الوزيران محمد الصياح ومنصور الصخيري، ومرافقه محمود بلحسين، ومحجوب بن علي أحد المديرين السابقين للحزب الحاكم.
ورغم أن حصول هذا الإضطرار للتغيير على مُستوى الرئاسة يُمثل في حد ذاته مشكلا وستكون له انعكاسات أكيدة على المستوى الإقتصادي والسياسي، إلا أن الهاجس الحقيقي لدى شريحة كبيرة من التونسيين مرتبط أساسا بكابوس 7 نوفمبر، أي في طبيعته (التغيير).
وإن كان من الممكن تفهم الرواسب النفسية التي تُشكّل هذا الهاجس والخوف على مكسب الثورة المُتمثل في الديمقراطية في البلاد، إلا أن قراءة المشهد السياسي الداخلي التونسي والإقليمي المحيط به لا يمكن إلا أن تُفضي لطمأنة واستبعاد لمسار النكوص الديمقراطي.
فعندما نحاول جدلا تعداد “المُشتبه بهم” القادرين على لعب هذا الدور الإنقلابي أسوة بتجربة 7 نوفمبر، تنحصر القائمة وفق هذا التفكيك الجدلي بين المركب الأمني العسكري ومحيط الرئيس الحالي من الأشخاص ذوي الطموح العالي في السلطة.
بالنسبة للمركب الأمني العسكري، وبالرجوع إلى مختلف المحطات العصيبة التي مرت بها البلاد بداية من لحظة هروب المخلوع وشغور السلطة مرورا بباقي الأزمات السياسية، أبان أنه لا يبحث عن لعب دورغير الدور المكلف به، رغم كل المؤاخذات المتعلقة به.
وبالنسبة لمحيط الرئيس الحالي، من المهم أن نستحضر في الأذهان أن الإنقلابات عموما لا تكون بناء على قرار داخلي صرف، بل إن جلها إن لم نقل كلها تحتاج ضوء أخضر من دول خارجية تسهر لاحقا على شرعنة الفعل الإنقلابي والتغطية عليه. وبالنظر إلى الوضع المُتقلب جدا الذي تشهده منطقة المغرب العربي، خاصة مع تواصل تأزم الوضع الليبي وانخراط دول الشمال الإفريقي في حرب مفتوحة على الإرهاب، يحتاج تبني قرار إدخال تونس في أزمة عاصفة بوزن الإنقلاب إلى مقدار هام من الغباء لا يستقيم مع حرص أصحاب النفوذ على مصالحهم.
على صعيد آخر، احتاج بن علي لتنفيذ انقلابه لجسم حزبي منظم ولدعم من جهاز الأمن الذي أشرف عليه طويلا، ومن الصعب أن يراهن صناع القرار الدولي على حزب لم يقدر إلى اليوم على عقد مُؤتمره التأسيسي بسبب خلافاته الداخلية الكبيرة. كما أن التمرين الديمقراطي الذي مرت به البلاد وما أفرزته من خارطة سياسية متنوعة يجعل من هذه الفكرة رُهابا بعيدا عن التحقيق.
ليس من مصلحة أحد في تونس اليوم أن يقف أمام عجلة التاريخ، فالديمقراطية واقع معاش اليوم لا يمكن محوه وهو ما يفرض على كل الفاعلين السياسيين أن ينطلقوا من هذه المُسلّمة لرسم ملامح مسيرهم نحو السلطة. ومن المهم في الآن ذاته، أن يتخلص المخيال الجمعي التونسي من هذا الرهاب المزمن الذي لا يمكن إلا أن يُضيق أفق التفكير السياسي ويدخله في دونكيشوتيات لا تنتهي.
موقعة قرطاج … من جديد
ورغم أن كل المؤشرات تشير إلى أن البلاد ستمضي، في حال حاجتها لسد الشغور على مستوى رئاسة الجمهورية، إلى عملية سياسية شبيهة بتلك التي ختمت سنة 2014 وأفضت لانتخاب الباجي قائد السبسي، صاحب التسع وثمانين عاما رئيسا للجمهورية، يصعُب التكهن بتفاصيل النسخة الثانية من موقعة قرطاج رغم تشابه الظروف.
فالعالم بخبايا الساحة السياسية التونسية يعلم أن السبسي يمثل أحد الأقطاب المُشكلة للمشهد السياسي التونسي الحالي خاصة في جانبه الحكومي، وبالنظر لعدم توضح الخط السياسي لحزبه ولا لموازين القوى داخله مع عجزه المتواصل عن عقد مؤتمره التأسيسي، وهو ما سيجعل من غيابه عن موقع القرار مفتاحا لإعادة ترتيب المشهد برمته.
وبالنظر إلى نتائج سبر الآراء الذي تصدره المؤسسات المختصة بين الفينة والأخرى في علاقة بنسب ثقة التونسيين في الشخصيات السياسية التونسية، تلوح أسماء عديدة قد تكون مشاريع مرشحين لسباق الرئاسة.
ورغم انطلاق بعض الوجوه فيما اعتبره بعض المراقبين عمليات تسويق ذاتي لنفسها، قد تبرز أسماء أخرى تحقق المفاجأة خاصة إذا ما قررت حركة النهضة أن تخوض هذا السباق سواء عبر الترشيح من داخلها أو دعم أحد المترشحين من خارجها، وأن تخرج عن موقف الحياد الذي اتخذته خلال الدور الثاني من الإنتخابات الرئاسية الماضية، ضمن تسوية سياسية شاملة تتجاوز كرسي قرطاج.
على أمل ألا تحتاج تونس للخوض في هذا الموضوع كأمر واقع، سيكون من المهم أن يستعد الطيف السياسي التونسي لمختلف السيناريوهات الممكنة تلافيا لعنصر المفجأة وما يمكن أن يسببه من ارتباك.