جماعة الإخوان المسلمين في مصر عندما صعدت إلى سدة الحكم في منتصف العام2012 عبر مرشحها الرئاسي محمد مرسي الذي نجح في الانتخابات الرئاسية وأزيح بعد عام واحد بانقلاب عسكري قاده وزير دفاعه الجنرال عبدالفتاح السيسي، يبدو أنها لم تستطع أن تملئ حذاء الجيش في السلطة وأن ترمم كافة شقوق السلطة المتسعة عليها.
تآمرت على الجماعة ورئيسها الثورة المضادة في مصر، وقد كان رد الفعل من جانب الجماعة على ذلك الأمر سلبيًا لأقصى درجة، إذ حاول الرئيس السابق محمد مرسي استئناس المؤسسات التي كانت تعمل ضده في الخفاء ليل نهار، وفي القلب منها المؤسستين الأمنيتين “الجيش والشرطة”، ولكنها فشل في ذلك تمام الفشل حتى انتهزت المؤسسة العسكرية الفرصة في انخفاض شعبية الجماعة والرئيس وقامت بانقلاب عسكري، عاد بالبلاد إلى مربع الصفر.
في خضم هذه الأحداث تعاملت جماعة الإخوان في مصر مع الصراع السياسي بعد ثورة يناير اعتمادًا على رصيدها في العمل المجتمعي طيلة عقود عبر مؤسساتها الخيرية، نجحت الجماعة في العديد من الاستحقاقات الانتخابية بفضل الشبكة الاجتماعية التي كونتها نتيجة خوض مضمار العمل الخيري في كافة أرجاء المحافظات المصرية.
مع وصول الجماعة إلى واجهة السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، وسعت الجماعة من تلك النشاطات بشكل غير مسبوق واستنفذت طاقة أعضائها في سد احتياجات المجتمع دون أن تبذل نفس المجهود في إرغام مؤسسات الدولة على القيام بدورها، فحلت أنشطة الجماعة الخيرية والمجتمعية محل دور الدولة وليس كمساعد له، وبالطبع فإم إمكانيات الجماعة المادية والبشرية مهما بلغت ضخامتها فإنها لم تستطع أن تسد هذا العجز الحادث، نتيجة تراخي مؤسسات الدولة في أداء وظيفتها وكذلك الأزمة الاقتصادية التي حلت بالبلاد بعد ثورة يناير، مما جعل الغضب الشعبي يتزايد إبان فترة حكم الجماعة رغم أن الجماعة على مستوى نشاطها كانت تبذل قصارى جهدها.
لم يفهم ساسة الجماعة أن الأعمال الخيرية والخدمية لن تُغني عن دور السلطة، وإن أسكتت الحاجة في المجتمع حينًا فلن تستطيع أن تسدها أبدا، فبدل من اتخاذ إجراءات حاسمة مع تراخي وتآمر مؤسسات وأجهزة الدولة كانت سياسة الاحتواء، بأتي هذا بالتزامن مع كشف الجماعة عن كافة أوراقها المجتمعية ومكامن قوتها وهو الأمر الذي استفادت منه الثورة المضادة فيما بعد حين جاء وقت ذبح الجماعة، وبهذا لم تستطع الجماعة أن تسد بحكمها شقوق السلطة.
عقب بيان انقلاب الثالث من يوليو عمد النظام إلى تلك الروافد الخيرية الإسلامية وعمل على إغلاقها بعدما أدرك خلالأكثر من سنتين أنها منبع القوة للتيارات الإسلامية خاصة جماعة الإخوان المسلمين التي تمتلك الحصة الأكبر منها، أغلق النظام مئات الجمعيات الإسلامية والمؤسسات الخيرية، التي كانت تخضع لإشراف جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجمعيات المجتمعية الأخرى، تحت ذريعة دعم هذه المؤسسات للإرهاب، حتى وصل عدد الجمعيات القابعة تحت الحصار الدولة إلى العدد 1033 جمعية مختلفة الأنشطة على مستوى الجمهورية.
واستمر النظام العسكرى الوليد في البحث عن أي جمعية أو مؤسسة حتى وإن كانت متناهية الصغر لا تخضع لسيطرته إلا وضمها إلى قائمة المنظمات التي تدعم الإرهاب ما يؤدي إلى إغلاقها أو وضعها تحت إدارة الدولة، كذلك اتهم النظام العسكرى كبرى الجمعيات الخيرية الإسلامية وأقدمها وهي “الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة المحمدية” التي تعمل في مصر منذ أكثر من 100 عام في المجالات الخدمية والخيرية كمساعدة المواطنين الأكثر فقرًا في مصر، الجمعية تمتلك أكثر من 1000 فرع، و30 مركزًا طبيًا، يبلغ عدد المستفيدين من أنشطتها الخدمية المختلفة ما يقارب نصف مليون شخص.
وعلى الرغم من تأكد السلطة المصرية أن الجمعية الشرعية في مصر لا تخضع لإدارة جماعة الإخوان المسلمين أو فصيل ديني بعينه إلا أنها أصرت على مصادرة أموالها وتجميد أرصدتها في البنوك المصرية، طعنت الجمعية الشرعية على قرار الصادر بتوقيفها، ونجحت في استعادة التصرف في أصولها المجمدة، لكن النظام لا زال ينظر إليها بعين من الريبة كون البعض يعتقد أنها رافد من روافد جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من أنها تأسست قبيل جماعة الإخوان المسلمين بأكثر من عقد زمني.
الحملة على مؤسسات الجماعة الاجتماعية والخيرية مستمرة حتى اللحظة وكل يوم تخرج اللجنة التي شكلتها الحكومة لمصادرة أموال وممتلكات الإخوان المسلمين لتعلن عن اكتشافها لمدرسة أو مؤسسة تابعة للجماعة أو أحد أعضائها حيث تقوم بمصادرة أموالها وتعيين لجنة إدارية ومالية لتولي مسؤوليتها.
الجيش يحاول ملئ فراغ الإخوان
لا يستطيع النظام العسكري في مصر إغلاق مؤسسات جماعة الإخوان المسلمين الخدمية والأهلية من مستشفيات ومراكز خيرية لعلم النظام جيدًا أن الدولة لن تستطيع أن تسد هذا العجز في الخدمات في حالة توقف هذه المؤسسات عن العمل، لذلك عملت الدولة على استغلال موارد الإخوان المسلمين في مؤسساتهم بحيث تعمل هذه المؤسسات ولكن تحت نظر وإدارة لجان مشكلة من الدولة، لكن على الرغم من هذا فإن العديد من هذا المؤسسات قد توقف وأُغلق بالفعل إما بسوء إدارة لجان الدولة، أو نفاذ الموارد المالية حيث توقفت التبرعات التي كانت تدعم هذه المؤسسات وجل هذه التبرعات من أعضاء الجماعة.
ليس هذا فحسب بل قرر الجيش بنفسه خوض معترك العمل الخيري في مصر عن طريق تنظيم إفطار للصائمين في رمضان في عدة قرى ومناطق فقيرة، وعلى صعيد آخر تظهر كل فترة سيارات تابعة للجيش محملة بمواد تموينية وغذائية يتم توزيعها بشكل عشوائي في بعض المناطق مع الحرص على إظهار وسم القوات المسلحة على المواد الموزعة كنوع من إثبات الوجود، محاولين ملئ الفراغ الذي تركته جماعة الإخوان المسلمين في ساحة العمل الخيري في مصر.
الجيش أيضًا عمل على تقليد جماعة الإخوان المسلمين في بعض أنشطتها من خلال إقامة مجمعات استهلاكية في المواسم المزدحمة بأسعار مخفضة، لكن حقيقة كافة هذه الأنشطة التي يراعها الجيش أنها أنشطة تأخذ منحى إثبات الوجود لا أكثر ولا أقل لأن طريقة توزيعها تكون بعشوائية تامة والمواد المخصصة لذلك قليلة للغاية لا تسد حاجة المواطنين في بلد يقبع نصف سكانه تحت خط الفقر.
لم يدرك النظام أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تؤدي هذا الدور بشكل تنظيمي عالي الكفاءة عبر كافة الأعضاء المنتشرين في ربوع الجمهورية، فلم يقتصر الأمر على المواد الغذائية التي ينتهج الجيش توزيعها هذه الأيام، ولكن كانت هناك نشاطات لم يكن يعلم عنها شئ سوى المنظمين لها من أعضاء الجماعة، كنظام الكفالات الشهرية لأسر المحتاجين، وأنشطة تزويج الفقيرات وتجهيزهم، وتوفير نفقات العلاج للفقراء سواء بالمعونات المادية أو عبر المؤسسات الطبية للجماعة.
أما على صعيد الجيش وأدائه فلا يستطيع مسؤول أن يتخذ قرارًا بفتح المستشفيات العسكرية المنتشرة في أنحاء الجمهورية لعلاج الفقراء لأنها مخصصة فقط لعلاج العسكريين وأسرهم، فليست كل الأنشظة الخيرية للإخوان يستطيع الجيش خوض غمارها، لذلك لجأ الجيش إلى عملية دعم جميعات خيرية كبيرة لها ميزانيات ضخمة وسمح لها بممارسة كافة هذه الأنشطة في محاولة لسد العجز الناجم عن انسحاب جماعة الإخوان المسلمين.
على سبيل المثال تزخر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة في مصر بدعاية وإعلانات تخص جمعيات كجمعية “الأورمان” وجمعية “مصر الخير” المقربتين من دوائر السلطة في مصر، تلك الإعلانات التي تكلف ملايين الجنيهات تدعو المواطنين للتبرع أو تروج لأنشطة الجمعيات فقط، دون أن يلمس المواطنون ذوي الحاجة سد حاجتهم، فتلك الجمعيات لا تستطيع أن تصل إلى فقراء المناطق المعدمة في شتى أنحاء الجمهورية كما كان يفعل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في السابق، دون الحاجة إلى كل هذه الإعلانات.
نقطة أخرى تجعل تأثير الجيش في العمل الخيري ليس بقوة وتأثير جماعة الإخوان المسلمين هي المصداقية التي كانت تتمتع بها الجماعة ومؤسساتها في جمع التبرعات والتي تأثرت كثيرًا بعد أن وضعت تلك المؤسسات في يد الدولة فلم يعد المتبرعون على ثقة كافية بحسن استغلال هذه التبرعات كما كان يحدث من قبل.
فمستقبل العمل الخيري والخدمي بيد السلطة سوف يكون مختلفًا تمامًا وسيؤثر سلبًا في حياة آلاف الأسر التي كانت تستفيد من قدرة الجماعة التنظيمية على توفير بعض الخدمات التي فشلت الدولة في توصيلها للمواطن، لذلك يرى مراقبون أن الجيش لن يستطيع أن يملئ حذاء الإخوان في العمل الخيري والمجتمعي كما كان يتوقع، كما تعود قدرة جماعة الإخوان المسلمين على إدارة هذا الملف المجتمعي إلى عقود من العمل في هذا المجال تاريخيًا.
فلدى جماعة الإخوان المسلمين قسمًا خاصًا من بين أقسامها للأنشطة الخيرية أُنشئ في العام 1945 تحت اسم قسم “البر” وقد اهتم بتقديم الخدمات للفقراء وجمع التبرعات وصرفها في أوجه الخدمات الصحية والمجتمعية المختلفة وقد كان للقسم تاريخيًا مقرٌّ خاصٌّ بعيدٌ عن المركز العام للجماعة، كما عمل القسم على إنشاء وتمويل مستوصفات خيرية خاصة تقوم بالكشف الطبي على الفقراء نظير أجور رمزية، كما يُنظم القسم قوافل طبية لعلاج الفقراء في المناطق النائية يُنظمها أطباء الإخوان، كما يقوم القسم على إنشاء جمعيات خيرية في المحافظات تضطلع بهذه المهام تحت تمويله وتمويل التبرعات بشكل أكثر تنظيمًا في فترة الثمانينيات.
توقفت أنشطة قسم البر في الجماعة بعد أزمة مارس 1954 واصطدام الجماعة مع عبدالناصر، وقد اقصتر دوره في رعاية أسر المعتقلين ورعاية المعتقلين في السجون ولكن على استحياء بسبب التضييق الأمني الشديد، وهذه الحالة هي الأقرب للحالة الآنية حيث يوجه الإخوان الآن جهدهم في دفع كفالات المعتقلين ورعايتهم في السجون ورعاية ذويهم في الخارج.
وعقب خروج الإخوان من سجون عبدالناصر في مطلع السبعينيان فيما عُرف بالتكوين الثاني للجماعة كانت أنشطة الجماعة منصبة على الطلاب فاتجهت في أعمالها الخيرية إلى الاهتمام بفقراء الطلاب وعملت على توفير لهم دعم شهري ودعم علمي، حتى اكتملت هياكل الجماعة وعاد القسم إلى ممارسة مهامة بشكل طبيعي بل وشهدت هذه الفترات توسعًا في العمل الخيري للجماعة بإنشاء الجمعية الطبية الإسلامية وفروعها في المحافظات.
وفي عصر مبارك كانت أنشطة الجماعة الخيرية تعمل بشكل شبه منتظم تحت أعين النظام رغم بعض المضايقات لكن النظام كان يُدرك أهمية ما يقوم به الإخوان في سد العجز الخدمي عند الدولة في ظل ترهل الأوضاع الاقتصادي وترديها، بذلك اكتسبت الجماعة خبرتها الواسعة في هذا المجال الذي مكنها من بناء قاعدتها الاجتماعية الصلبة التي يحاول الآن النظام الحالي تفكيكها وملئ الفراغ الناتج عنها، لكن هذا الأمر من الصعوبة بمكان تنفيذه بسبب اتساع رقعة المحتاجين وقلة الجمعيات الحكومية وعشوائيتها واعتمادها على المظاهر الإعلامية، وهو ما ظهر بشكل ملحوظ في شهر رمضان الماضي مع اختفاء مظاهر البر التي كانت تقودها الجماعة كل عام.