منذ أن هبت رياح التغيير على المنطقة العربية وما تلاها من حالة احتراب داخلي أو عدم استقرار في دول الربيع العربي، انتشرت سيناريوهات التقسيم وقيام دول جديدة مغيرة الخرائط السابقة على أساس أن ذلك حل مقبول وواقعي للمشاكل القائمة بعد سقوط الأنظمة أو أثناء النضال ضدها مثل الحالة السورية التي لم تحسم فيها الأمور بعد، وأيضًا في دول تحولت نحو الديمقراطية بشكل عنيف وعن طريق تدخل خارجي يرقى إلى صفة الاحتلال مثل الحالة العراقية.
المشكلة ليست في طرح فكرة التقسيم أو مطالبة بعض الأطراف بالانفصال؛ فهذه المطالب كانت دائمًا موجودة، وأبرز مثال على ذلك المطالب الانفصالية لدى الجنوب في اليمن، لكن المشكلة في شرعنة هذه المطالب أو الأفكار ومحاولة تسويقها من قِبل أطراف خارجية، إضافة إلى بروز أشكال جديدة من إعادة هيكلة الدول مثل حالة إسرائيل التي بدأت تترافع مؤخرًا من أجل ضم الجولان المحتل رسميًا إليها بدعوى أنه لم يعد هناك وجود للدولة السورية.
هنا يخطر ببالنا تساؤل رئيسي لماذا ظهرت هذه الدعوات بكثافة ولماذا أصبحت مطروحة في الأدبيات البحثية الخاصة بالشرق الأوسط؟ ما الذي يفسر كل هذا؟ هنا نطرح بعض الأجوبة التي قد توضح شيئًا عن هذا الموضوع.
– أولاً: حالة الصراعات الداخلية المزمنة لبعض الدول مع غياب أي أفق لحل سياسي أو تسوية أو حسم عسكري، وهذا يبرز بشدة في الحالتين اليمنية والسورية؛ ففي الحالة اليمنية نجحت القوات السعودية بطرد الحوثيين “أنصار الله” من مدينة عدن بعد عملية السهم الذهبي وهي تستعد لوضع المدينة ذات الثقل لدعم الحكومة الشرعية والانطلاق منها لباقي العمليات العسكرية، لكن في نفس الوقت تبقى فرضية أن يدعم الحوثيون تواجدهم في الشمال خاصة مع إمكانية تكثيف الدعم الإيراني بعد رفع العقوبات العسكرية عنها، هذا خاصة إذا لم تمانع الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية ذلك في حال توصلت إلى صفقة مع الحوثيين من أجل محاربة القاعدة في اليمن والتنظيمات المتطرفة، كل هذا قد يؤدي إلى المزيد من التمركز وإعادة التموضع للقوى المتقاتلة في كل من الشمال والجنوب؛ مما قد يؤدي إلى انتعاش المطالب الانفصالية للجنوب خاصة وأن إرهاصات ذلك بدأت بالظهور بعد الإعلان عن بدء عملية الحزم والعزم على القيام بتدابير تتضمن تدخلاً بريًا، لكن رغم أن هناك عوامل تمنع من تصاعد هذه المطالب حاليًا بسبب عدم وجود جيش جنوبي منظم ولأن الدول العربية والقوى السياسية في اليمن لا تبدو مستعدة لأمر مماثل إلا أن الفكرة قد تحظى بشيء من الدفع في المستقبل إذا لم يتم التوصل إلى حل يرضي الجميع.
نفس الأمر يتكرر مع سوريا؛ فقد تم طرح التقسيم بشكل غير مسبوق هذه السنة نتيجة الأوضاع الراكدة والتي لم تتغير إلا منذ أشهر باستعادة المعارضة السورية فاعليتها الميدانية، لكن في المقابل هناك إمارة الدولة الإسلامية الممتدة من سوريا إلى العراق التي تخضع لحكم تنظيم الدولة الإسلامية إضافة إلى المناطق الموزعة بين المعارضة والنظام الذي يتمركز في منطقة الساحل، وقد أشار عدد من المسؤولين السياسيين أن الأسد متمسك بالبقاء حتى آخر لحظة في سوريا حتى لو كلف ذلك أن يبقى في دويلة متمركزة في منطقة الساحل تضمن الإمداد لحزب الله في لبنان من السلاح المقدم من إيران إضافة إلى المصالح الإيرانية والروسية في ميناء طرطوس الإستراتيجي.
– ثانيًا: ضعف الحكومة المركزية وتحلل الدولة، ولعل أقرب نموذج لهذه الحالة هو الحالة الليبية؛ فليبيا تعاني من عدة معطيات ذات أثر سلبي في هذا الصدد أهمها أن الدولة ذات طبيعة قبلية بامتياز والمؤسسات الرسمية لم تكن قادرة على إعادة هيكلة العلاقات الأولية لينشأ مجتمع مدني وقوى سياسية مثل الأحزاب تنقل المجتمع من الوضع هذا إلى حالة المدنية وربما أحد أهم أسباب حدوث هذا هو عقلية رئيس ليبيا السابق القذافي الذي كان يعتبر الأحزاب والتنظيمات المدنية مؤامرة على الدولة، نفس الأمر للأجهزة الأمنية التي ظلت مرتبطة بشخصه ولم تتطور إلى حالة التعقيد المؤسساتي التي تكفل لها البقاء رغم زوال الزعيم، كل هذا أثر على قوة الحكومة التي جاءت بعد ثورة 17 فبراير، كما أن تسليح الثورة أدى إلى نشوء مليشيات رفضت نزع سلاحها؛ مما أدى إلى حالة تعددية أمنية وصلت إلى حال الفوضى وأدت إلى تعقيد الصراع السياسي بين الفرقاء حيث لكل منه مليشياته التي تتبعه هذا فضلاً عن ظهور مطالب تمهيدية للانفصال مثل المطالبة بنظام فيدرالي وهو ما تم تنفيذه بالضبط في إقليم برقة بإعلانها فيدرالية.
– ثالثًا: ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وهو التنظيم الذي وضع إستراتيجية رئيسية له هي الامتداد الجغرافي الواسع بما يكفل له بناء إمارة متصلة وقابلة للحياة، ولعل أول صدمة عانى منها العالم هي قدرته على الاستيلاء على أراضٍ واسعة داخل الأراضي السورية بشكل سهل بسبب تجاهل قوات نظام الأسد له وقد تم تفسير ذلك بأن النظام كان يريد دليلاً حيًا عن خطورة التنظيمات الجهادية التي كان يزعم أنه يقوم بمحاربتها لكسب تعاطف الدول الغربية المحاربة للإرهاب أو على الأقل اعتباره العدو الأقل خطورة مقارنة بها، ويبدو أنه نجح في ذلك إلى حد ما، هذا التنظيم لم يتورع على خرق الحدود العراقية والاستيلاء على عدد من المدن ذات الأغلبية السنية خاصة بعد الانهيار المفاجئ للجيش العراقي الذي لم يكن مؤهلاً لخوض صراع مماثل، منذ أن تم إعلان دولة الخلافة بدأت التنظيمات التي أعلنت المولاة للدولة الإسلامية في المضي قدمًا لتغيير الجغرافيا واكتساب مساحات تقيم عليها إماراتها الخاصة وهذا ما حصل في ليبيا وفي سيناء رغم أن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح كما في حالة الدولة الإسلامية في الشام والعراق.
انطلاقًا من ذلك بدأ البعض يتكلم انطلاقًا من الواقع الخرائطي الجديد أن هناك دولة متطرفة على غرار دولة طالبان لا يمكن تجاهلها بل يجب الاعتراف بأنها دولة أمر واقع قائمة بالفعل حتى وإن تم اعتبارها دولة متطرفة أو كيان معادٍ.
– رابعًا: الطائفية وسوء إدارة التنوع الإثني، فلم يعد مستغربًا أن تسمع عن سنة العراق مثلاً يطالبون ولو باحتشام بكيان مستقل رغم أن مطالباتهم حاليًا تنحصر في رفع الضيم عن السنة وتأييد الخيار الفيدرالي، لكن ما يحدث في العراق هو نموذج للطائفية الهوجاء في أسوأ أشكالها خصوصًا ما يروى عن حالات الاعتداء على المدن والقرى السنية من قِبل المليشيات الشيعية التي لا تتورع عن القتل والحرق والتعذيب وهو ما أدى إلى ظهور تكتل سني مقابل تم الإعلان عنه منذ فترة، وهو ما يعني أن المزيد من التمييز بين السنة والشيعة يحدث يوميًا وأصبح هذا واقعًا لا يمكن تغيره بسهولة؛ فالإحساس بالاضطهاد المبني على أساس الطائفة يتعمق في وجدان العراقيين يومًا بعد الآخر، وأول سيناريو لتقسيم العراق ظهر بعد الاحتلال الأمريكي لكنه كان أمرًا منكرًا للغاية، لكن حاليًا يبدو أن البعض بدأ ييأس ويتعود عليه رغم خطورة الفكرة.
– خامسا ظهور ثروات في مناطق ذات مطالب انفصالية مثل منطقة الأكراد فظهور الثروات مثل النفط أو غيره يدفع بالأقليات إلى الاعتقاد أنه يمكن إقامة دولة على أساس اقتصادي ريعي ومن ثم ستكون فرص بقائها وازدهارها أعلى.
قد يقول البعض إن الدولة ما بعد الإمبريالية في المنطقة العربية فشلت وإن تغير الخرائط أمر ليس جديدًا في التاريخ، فلطالما تغيرت حدود الدول، لكن أصحاب وجهة النظر هذه لا يدركون أن تغيير الخرائط لا يحل أيًا من المشكلات القائمة مثل غياب التحديث والتنمية والفقر والاستبداد بل يقوم بنقلها إلى كيانات أصغر وتجربة السودان الذي انقسم إلى دولتين خير مثال عن ذلك، فالمشاكل القديمة مازالت هي نفسها كل ما تغير هو الحدود ومن ثم فإن من يطرح التقسيم كعلاج للمشاكل القائمة يبدو أنه جانب الصواب، لكن في نفس الوقت يجب العمل على تحقيق العدالة والمساواة لكل الطوائف والإثنيات وإنهاء الاستبداد وتقوية الحكومات المركزية ومحاربة التنظيمات المتطرفة لتفادي هذه السيناريوهات.