في ظل الحملة الهائلة لترويج مشروع السيسي بإنشاء قناة سويس جديدة، اتضح أنها تفريعة فقط، ثم اتضح أنها تفريعة قديمة، ولا ندري ماذا ستكشف الأيام من فضائح المشروع! نقول، في ظل هذه الحملة الهائلة قررنا أن نكتب هذه السطور التي ستكون صادمة للغالبية العظمى من القراء.
ولا نرجو إلا أن يلتزم المرء الحكمة في القراءة بقدر ما التزمنا من موضوعية في الكتابة الموثقة بالمصادر، ومن شخصيات لا علاقة لها لا بالإخوان ولا بالإسلاميين ولا عاشوا حتى في هذا الزمن.
(1)
لقد ظل مشروع ربط البحرين الأحمر والأبيض المتوسط يراود من حكموا مصر منذ القدم، إلا أنهم جميعًا لم يفكروا في ربط البحرين مباشرة، بل كانوا يحفرون قناة توصل من البحر الأحمر إلى النيل الذي يصب في البحر المتوسط.
ويذكر المؤرخون أن أول تنفيذ لهذا المشروع كان في عصر الفراعنة، وأعيد تجديده أكثر من مرة، ثم في عصر البطالمة، وعقب الفتح الإسلامي حفر عمرو بن العاص هذه القناة الواصلة بين البحر الأحمر والنيل وسمَّاها “خليج أمير المؤمنين”.
لكن أول تفكير في الوصل المباشر بين البحرين الأحمر والأبيض – فيما نعلم – كان في عصر هارون الرشيد، إلا أن وزيره ومستشاره يحيى بن خالد البرمكي، حذَّره من هذه الفكرة لما لها من خطورة عسكرية إستراتيجية؛ متمثلة في أن أسطول الروم (البيزنطيين) يستطيع أن يسلك من البحر الأبيض إلى هذه القناة إلى البحر الأحمر فيكون ذلك تهديدًا مباشرًا للحرمين ولأهل الحجاز، فامتنع الرشيد عن تنفيذ الفكرة[1].
والفارق الأساسي بين ربط البحر الأحمر بالنيل ثم بالبحر المتوسط وبين الربط المباشر بين البحرين تكمن في تلافي هذا الخطر الحربي والإستراتيجي، إذ أن أي هجوم عسكري بحري سيكون مجبرًا على المرور في الدلتا من أحد فروع النيل حيث الكتلة البشرية الضخمة ذات القدرة الكبيرة على المقاومة، بينما الربط المباشر بين البحرين يمرّ من منطقة صحراوية قليلة السكان مما يكلف الدولة وجود سلاح بحري قوى يتولى حراسة هذا الممر المائي بكل ما يستلزم هذا من تكاليف مالية وبشرية، ثم إن نتائجه لن تكون بحال أفضل من نتائج التصدي الشعبي الواسع في الدلتا الحافلة بالتضاريس والمسالك.
وهنا يجب أن ننتبه إلى أن رفض فكرة الربط المباشر بين البحرين إنما جاءت في وقت تفوق الدولة الإسلامية الكاسح على الروم البيزنطيين، أي أنه لم يكن متوقعًا بحال، في تلك الفترة، أن تستطيع أساطيل الروم سلوك البحر المتوسط ثم القناة ثم البحر الأحمر دون أن تجد الأساطيل الإسلامية في انتظارها، ولكنه التفكير الإستراتيجي بعيد المدى.
وفي زمن أعظم سيطرة إسلامية على البحر المتوسط، زمن الخلافة العثمانية في عهود سليم الأول، سليمان القانوني، وسليم الثاني، برزت فكرة شق قناة السويس لتسهيل عبور الأسطول العثماني إلى البحر الأحمر للقيام بواجب الجهاد في الخليج العربي وخليج عدن والمحيط الهندي، ضد غارات البرتغاليين والإسبان على تلك الأنحاء، ولدينا وثيقة عثمانية بأمر سليم الثاني يطلب فيها دراسة وافية عن تكاليف المشروع وفوائده، إلا أن الفكرة لم تنفذ[2]، مما يحملنا على الشكّ بأن السبب هو ذلك التفكير الإستراتيجي؛ لأن البحر المتوسط والبحر الأحمر في تلك الفترة كادا أن يكونا بحيرتين إسلاميتين تمامًا!
(2)
أما أول تفكير جدي في ربط البحرين مباشرة فكانت فكرة استعمارية أجنبية، أتى بها لأول مرة نابليون بونابرت أثناء الحملة الفرنسية على مصر، وكان شق القناة يتيح لفرنسا – الأضعف من بريطانيا خصوصًا في السلاح البحري – أن تضايق وتشغب وتنافس بريطانيا من خلال الوصول السريع للأسطول الفرنسي إلى الهند (التي تحتلها بريطانيا)، إلا أن المهندس الذي درس المشروع قدَّر أن البحر الأحمر مرتفع عن البحر المتوسط؛ مما يعني أن شق القناة قد يؤدي لغرق مصر (وفكرة ارتفاع البحر الأحمر عن المتوسط نجدها عند المسعودي قبل نحو 900 عام) فتوقف المشروع.
إلا أن مهندسين فرنسيين آخرين، ممن ملأوا مصر في عصر محمد علي، أعادوا الدراسة وتوصلوا إلى أن البحرين مستويين وأنه يمكن إنشاء القناة، غير أن محمد علي رفض تنفيذ هذه الفكرة، وهو أمر بديهي لمن يحكم مصر، خصوصًا وقد انقلبت موازين القوى وصارت قوة مصر هي الأضعف وصار الأجانب ملوك البحار، وتعلل في ذلك بالرفض البريطاني القاطع، وذلك أن بريطانيا لا تريد لأحد أن يسيطر على طريق يسهل له الوصول إلى الهند.
وإن رجلًا بعبقرية محمد علي لم يكن ليفوته أضرار قناة السويس على مصر التي سيزيد لأجلها التنافس بين الدول الأجنبية، وتزيد إغراءهم باحتلال البلد للسيطرة على هذا الطريق الحيوي، فاعتبر القناة “بسفورًا” جديدًا في مصر[3] ستعاني منه كما تعاني الدولة العثمانية من مسألة البسفور وحق الملاحة فيه، وهي المسألة الحاضرة في كل اتفاقية حرب أو سلام.
وبلغ اليأس الفرنسي غايته في عهد الخديوي عباس الأول، الذي كان يكره الفرنسيين، ورفض تمامًا شق قناة السويس، ونفذ مشروعًا يحقق الصالح الوطني، وإن كان يصب في المصلحة البريطانية أيضًا؛ إذ مهد الطريق بين القاهرة والسويس وبدأ في إنشاء سكة حديد الإسكندرية القاهرة، وكان هذا يخدم البريطانيين من جهة تسهيل نقل البضائع والسياح والبريد من إنجلترا إلى الهند عبر مصر، ولا يضيق على التفوق البحري البريطاني، وفي نفس الوقت يحفظ لمصر الاستفادة من الحركة التجارية العابرة فوق أراضيها.
إلا أن عباسًا اغتيل ولم يكمل السنوات الثلاث في منصبه، وجاء الخديوي سعيد العاشق لفرنسا والفرنسيين والصديق الشخصي للرجل الخطير المشهور، فريدناد دي ليسبس.
(3)
عبد الرحمن الرافعي هو مؤرخ مصر الحديثة، من الحزب الوطني (الذي أسسه مصطفى كامل)، وهو مؤرخ وطني قومي، بل لا نبالغ إن قلنا إنه فيه “عنصرية” مصرية، أو لنقل كما قال أستاذنا جلال كشك “كان الرافعي وطنيًا بمفهوم القرن التاسع عشر”[4]، فمثله لا يمكن أن يُتهم في وطنيته ولا حبه لمصر، بل هو في الواقع متهم بأن هذه النزعة الوطنية كانت من الشدة والعنف حدَّ أنها شوهت التاريخ، وهو اتهام يوجهه إليه الإسلاميون واليساريون ومؤرخون مستقلون على السواء.
وإنما ذكرنا هذا لكي نثبت أن الرجل أبعد ما يكون عن غرض تشويه مشروع قناة السويس، وأن هذا المشروع لو كانت فيه 10% من الفوائد لمصر لكان الرافعي قد جعلها 70% على الأقل، واعتبره مشروعًا وطنيًا عظيمًا، إلا أنه كان مؤرخًا وطنيًا حقًا فشنّ على هذا المشروع حملة قاسية.
لقد قرر الرافعي أن “مصر لم تستفد شيئًا من فتح قناة السويس، بل كانت القناة شؤمًا عليها”، وأنها “أكبر غلطة” في تاريخ الخديوي سعيد، الذي كان قصير النظر وخُدِع بأنه سيدخل التاريخ بهذه الخدمة للإنسانية فيمت الحقيقة الواقعة أن الأمم لا تضحي باستقلالها ومصالحها في سبيل “وهم” خدمة الإنسانية، الذي هو على الحقيقة خدمة للدول الاستعمارية فحسب.
لقد تحملت مصر تكاليف إنشاء القناة، بشريًا واقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا:
فأما بشريًا، فقد ساهم في حفر القناة مليون مصري، سيقوا بالسخرة إلى الحفر في ظروف مأساوية مات منهم 120 ألفًا.
وأما اقتصاديًا، فكما يقول أولج فولكف “كان حفر قناة السويس ضربة قاضية لتجارة الترنزيت في القاهرة، فلم يعد للقاهرة من وظيفتها السابقة كمركز للتبادل التجاري وتجارة الترانزيت إلا الشطر الأول”[5]، وذلك – يشرح الرافعي – أن “طريق التجارة بين أوروبا والشرق تحول من داخل مصر إلى القناة المائية التي أصبحت ملكًا لشركة أوروبية، فخسرت مصر الأرباح التي كانت تعود عليها من مرور المتاجر في وسط الدلتا بطريق النيل أو السكك الحديدية المصرية، وانتقلت هذه الأرباح إلى شركة القناة (الأجنبية)”، هذا مع العلم بأن مصر قد تكلفت 16 مليون جنيه (وهي ثروة ضخمة رهيبة في ذلك الوقت، ولقد كان أجر العامل يوميًا حوالي القرش ونصف القرش) في سبيل القناة، بخلاف ما أُنفق كتعويضات في فصول قصتها المبكرة والمثيرة للمرارة والتي لا يتسع لها هذا المقام[6]، وأن امتياز القناة قد أعطي أغلبه للشركة الفرنسية.
وأما عسكريًا، فمنذ اللحظة الأولى ولتوفير أعداد للحفر قضى الخديوي سعيد على الجيش المصري فأنقص عدده من ستين ألفًا إلى ثمانية أو عشرة آلاف.
وكانت القناة حاضرة في كل كارثة حربية نزلت بمصر كما سنأتي لها بعد قليل.
وأما سياسيًا فمنذ حفرت القناة صار يُنظر إلى المسألة المصرية كأنها “هي مسألة قناة السويس، فكأنها اندمجت فيها، وتبدلت أوضاعها تبعا لهذا الاندماج، ففتح القناة يعادل في تأثيره الاستعماري غزوة نابليون بونابرت”.
ومنذ تلك اللحظة ومصر لم تزل فعليًا تحت النفوذ الأجنبي، وهي مُكلفة بحماية قناة السويس وضمان حرية الملاحة فيه، ولو كانت السفن العابرة تحمل مواد ملوثة أو مشعة أو سفن حربية تهدد المصالح المصرية أو العربية والإسلامية، والحديث في هذا يطول وهو مشهور.
بل يقول الرافعي كلمة مريرة، كتبها في 1932، “لئن عادت القناة يومًا إلى مصر فلا يمكن أن ننسى أن مصر خسرت فيها ثمنًا باهظًا وتضحيات جسيمة، ويكفي أنها بذلت لها 16 مليون جنيه من أموالها، ثم حرمت ما هو أعز من المال، وهو الاستقلال، وعندما تسترد مصر استقلالها تامًا فستكون قد حرمت استقلالها بسبب القناة ردحًا طويلًا من الزمن، وهو حرمان لا يُعوَّض بمال”[7].
(4)
لقد كانت القناة هي العامل الأهم في هزيمة الجيش المصري بقيادة عرابي أمام الإنجليز، بعدما خدع ديليسبس عرابي وأفهمه أنه من المستحيل أن تخرق بريطانيا قواعد القانون الدولي وتستعمل القناة في العمليات الحربية لأنها ممر مائي محايد، وبهذا عدل عرابي عن فكرة ردم القناة ليمنع التقاء الجيوش البريطانية القادمة من الهند في البحر الأحمر مع تلك القادمة من البحر المتوسط، ولو أنه فعل لتغير وجه التاريخ.
ثم كانت القناة من أهم العقبات في كل مفاوضات الاستقلال عن الاحتلال الإنجليزي حتى إن الإنجليز في أواخر عهدهم انسحبوا من القاهرة وتمركزوا في منطقة القناة.
ثم كانت القناة سببًا في نكبة 1956، حين اتخذ عبد الناصر قراره المجنون (وإن كانت الأحداث جرت بما جعلته مفيدًا نوعًا ما) بتأميم القناة وهو لا يملك أي أوراق للدفاع عنها، ولولا أنه كان في الحضن الأمريكي آنذاك، وكانت أمريكا عازمة على إنهاء الوجود البريطاني في الشرق لما استطاع شيئًا.
ثم كانت القناة سببًا في احتلال إسرائيل لسيناء احتلالًا هادئًا ومستقرًا، بل بنت إسرائيل ساترًا ترابيًا وخطًا دفاعيًا حربيًا على ضفة القناة الشرقية، وكان كل الإنجاز المصري يتمثل في “عبور” القناة، ولو أنه لم توجد قناة لما خاطرت إسرائيل باحتلال مصر فإما أنها كانت مجبرة على التوغل واحتلال مصر كلها (وهذا في وقته في حكم المستحيل عليها بشريًا وماليًا وعسكريًا)، وإما توقفت قبل الحدود المصرية لئلا تجر مصر إلى الحرب، لكن القناة وفرت لها مانعًا مائيًا ممتازًا تتحصن خلفه.
وبعد حرب أكتوبر وتوقيع معاهدة السلام، كانت القناة هي المانع المائي الذي جعل سيناء منطقة مغلقة ومنفصلة عمليًا عن مصر، مما سهَّل كونها منطقة عازلة، وأريد لها أن تبقى منطقة عازلة لتكون حماية طبيعية لإسرائيل، ومن ثمَّ عانى سكان سيناء من الإقصاء والتهميش والظلم لنحو نصف قرن (منذ 1967)، ولو لم توجد هذه القناة لما كان ممكنًا بقاء سيناء بهذه العزلة والانفصال عن الجسد المصري، ولما كان ممكنًا حرمانها من التعمير والتنمية والانتقال الطبيعي بين سكان سيناء وسكان وادي النيل.
والآن يبقى التخوف قائمًا من مشروعات السيسي، التي عنوانها توسيع وتعميق القناة لاستيعاب المزيد من السفن، بينما الواقع أنه مزيد من تعظيم العازل المائي، بما يعني، مزيد من عزلة سيناء والحفاظ عليها كمنطقة حماية لإسرائيل، والسيطرة على سوق تهريب السلاح إلى غزة عبر سيناء، وكلها مصالح إسرائيلية.
[1] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1393هـ = 1973م. 2/264.
[2] انظر:
- يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عادل محمود سليمان، منشورات مؤسسة فيصل للتمويل، استانبول، 1988م. 2/443، 444.
- د. عبد القادر أوزجان: النظم العسكرية العثمانية، ضمن “الدولة العثمانية تاريخ وحضارة” بإشراف: أكمل الدين إحسان أوغلو، ترجمة صالح سعداوي، اسطنبول، 1999م. 1/417.
[3] عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1987م. 1/54.
[4] محمد جلال كشك: ثورة يوليو الأمريكية، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1408هـ = 1988م. ص18.
[5] أولج فولكف: القاهرة.. مدينة ألف ليلة وليلة، ترجمة: أحمد صليحة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1986م. ص148.
[6] انظرها عند الرافعي في كتاب “عصر إسماعيل” بجزأيْه، وانظر مختصرًا لها عند كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. ص575 وما بعدها.
[7] عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل 1/20 وما بعدها، 1/53 وما بعدها.