يأتي الاتفاق النووي الإيراني بعد سلسلة من المفاوضات دامت لسنوات، استخدم فيها كلا الطرفين ما لديه حتى يمكنه الخروج بأكبر المكاسب، ولقد استطاعت إيران أن تستخدم عامل الزمن من أجل كسب الكثير من المساحات لتمرير مشروعها النووي وإحراز شيء من التقدم في تطويره واستكماله، وأبرز البنود التي استند إلىها الاتفاق: رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران والإفراج عن الأرصدة المجمدة، وفرض قيود على البرنامج النووي واستمرار تخصيب إلىورانيوم بنسبة مخفضة لا تسمح لطهران بامتلاك القنبلة النووية وخفض عدد أجهزة الطرد المركزي إلى الثلثين أي نحو 5060 جهاز طرد، وكذلك السماح لمفتشي الوكالة الدولية بالتفتيش على كل المواقع الإيرانية المشتبه بها، وفتح آفاق التعاون في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، ولا شك أن هناك تداعايات جيو سياسية واقتصادية ستتبع هذا الاتفاق، ولعل التداعيات الجيو سياسية ستتضح أكثر مع مرور الوقت ولا يمكن الجزم كليًا بها، إلا أن الواقع يعطي عددًا من المؤشرات تجاهها، فموازين القوى العالمية تشهد نوعًا من التغيرات بين صعود قوي جديدة وانحصار قوى أخرى وقيام تحالفات جديدة تؤثر على العالم بأثره.
لقد شكل الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب على إيران أداة قوية في سير عملية المفاوضات، وانعكاساته على الداخل الإيراني وعدم قدرة إيران على الاستفادة من مخزونها النفطي، وعدم قدرتها على التمدد اقتصاديًا في محيطها الإقليمي، إلا أن الغزو الأمريكي للعراق كان بمثابة العتبة التي أخرجت إيران جزئيًا من عزلتها الدولية، فمع سقوط نظام صدام – الغريم المباشر لطهران – وتفكيك الجيش العراقي، استطاعت طهران أن تتمدد في الداخل العراقي وتفرض وجودها خاصة في ظل وجود حكومة المالكي بصبغتها الطائفية، فالتمدد الإيراني داخل العراق كان بمثابة إعلان تغيير في موازين القوى والإعلان عن طهران كقوة إقليمية تقوم بملأ الفراع الذي تتركه أمريكا خلفها، ويمكن قراءة آثار الاتفاق على مستويات عدة:
المحور السعودي – الخليجي
مركزية السنة في مواجهة مركزية الشيعة، تعتبرالسعودية بمثابة الغريم الأساسي لطهران في المنطقة والتي ترى في نفسها مركزًا للسنة في مواجهة مركزية الشيعة التي تمثلها إيران، ومن ثم تحاول أن تقوض وجودها سواء على المستوى السياسي أو المذهبي الحاضر في معظم التوجهات ضد إيران، ولعل الحرب اليمنية الأخيرة التي قادتها السعودية على حدودها الجنوبية ضد التمدد الإيراني من خلال دعم جماعة الحوثي، وإعلان قرار الضربة الجوية قد تم من واشنطن، حينما أعلنه وزير الخارجية السعودي عندما كان سفيرًا للمملكة بواشنطن آنذاك، وهذا يعكس مدى ارتباط السياسة السعودية بالسياسة الأمريكية، لذلك بعد التقارب الإيراني الأمريكي هل نشهد هناك تقاربًا سعوديًا إيرانيًا برعاية أميركية ومن ثم محاولة تسوية النزاع داخل اليمن والوصول إلى تسوية، هذا ما ستجيب عنه الأيام.
في الجانب الآخر نجد آثار الاتفاق النووي مع طهران سينعكس على الجانب الخليجي وسيفتح أبواب التنافس الاقتصادي خاصة في المجال النفطي بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطي في الغاز الطبيعي عالميًا، وهذا ما يفسر لنا الانفتاح الغربي مباشرة على إيران بعد التوصل للاتفاق، فقد كان نائب المستشارة الألمانية أول الزائرين وتصريحاته بالتطلع إلى إبرام صفقات اقتصادية جادة وقوية مع طهران، في المقابل فإن العلاقة بين دول التعاون الخليجي – ماعدا سلطنة عمان – وبين إيران بها كثير من المشاكل والتعقيدات، ومن المعروف أن أمن الخليج مرتبط بالسياسة الأمريكية ويشكل أحد سمات نفوذها الخارجي، وبالتالى هل سيتبع هذا التقارب الأمريكي الإيراني وساطة أمريكية لتحسين العلاقات بين دول مجلس التعاون وبين إيران، مما يعني وجود سياسات مختلفة في المنطقة وخلق تحالفات جديدة وتغيير الخريطة السياسية في الشرق الأوسط بأكمله.
المحور التركي
كان للنظام التركي مواقف مشهودة مع النظام الإيراني في أزمته مع الدول الغربية، ففي عام 2010 لعب دور الوسيط لحل الأزمة وقد اقترح حينها أن يتم تخصيب اليورانيوم خارج إيران، وهذا ما أكد علىه وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو مجددًا خلال تعليقه على الاتفاق الذي تم إبرامه، مما يعني أن الحكومة التركية مصرة على ما اقترحته من قبل، وخلاف ذلك يعني المضي قدمًا في المشروع النووي التركي السلمي الذي بدأته أنقرة وإجراء عمليات التخصيب داخل أراضيها. في الجانب الآخر يأتي الخلاف الإيراني التركي حول بشار الأسد، فأنقرة تري أنه لا بد من رحيل الأسد للبدء في عملية حل الأزمة السورية، بينما تقف إيران ضمن مشروع روسي صيني يدعم الأسد ويؤيد بقاءه، صحيح أن الموقف الإيراني مرهون بالموقف الصيني والروسي، إلا أن الإيرانيين متورطين في الداخل السوري على غرار الداخل العراقي واللبناني واليمني من خلال وجود مقاتلين لحزب الله في المناطق السورية، وقتاله ضد قوات الأسد، وخوضه معارك ضد تنظيم داعش، كما أن تباين الموقف التركي من داعش وعدم فتح القواعد الجوية أمام قوات التحالف هو ما حدا بالصحف الغربية بتوجيه أصابع الاتهام للنظام التركي بدعمه لداعش، وإن كان الاتفاق النووي الإيراني الآن قد غير من الموقف التركي تجاه تنطيم داعش وهو ما كان سيأتي في لحظة معينة، إلا أن تفجير سوروج قد عجل بهذا التغيير كمبرر للحكومة التركية في شن هجمات ضد التنظيم، وفتح القواعد الجوية أمام التحالف الدولي لاستخدامها.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيتغير الموقف التركي من النظام السوري في ظل تغير موقفه من داعش، وهل سيلعب الجانب الإيراني الروسي دورًا في ذلك، أم سيكون هناك تقارب تركي أمريكي أكثر سينسحب بطبيعة الحال على الساحة الخليجية وتكوين تحالف بين السعودية وتركيا ودول الخليح العربي برعاية أمريكية.
لا يمكن ذكر الاتفاق النووي دون الحديث عما يسمي بمحور المقاومة الذي تشكل قبل الربيع العربي والذي مثل كلاً من إيران وسوريا والفصائل المختلفة (حزب الله، وكذلك الفصائل الفلسطينية) التي تتلقي دعمًا من إيران والنظام السوري، وبالتالى انعكاساته على المقاومة وآلية عملها، فهل ستقوم الحكومة الإيرانية باتخاذ خطوات إلى الوراء في ظل الدعوات الغربية التي انطلقت من هنا وهناك لعمل وساطة بين الجانب الإيراني والجانب الإسرائيلي الذي يعارض الاتفاق مع إيران ويمارس ضغوطه على الإدارة الأمريكية لوقف هذا الاتفاق، حيث إن الجانب الإسرائيلي يري في إيران داعمًا للإرهاب في المنطقة وهي وجهة نظره التي تتفق مع وجهة نظر عدد من الدول العربية.
هناك من يري في الاتفاق النووي الإيراني خطوة تراجع من قِبل الإيرانيين وأنهم قاموا بفتح منشآتهم أمام الوكالة الدولية ومراقبيها كما فعل العراق من قبل، وهناك من يري أن الإيرانيين قد ربحوا من هذا الاتفاق، وأصبح لديهم فرصة للبدء في عملية إنعاش الاقتصاد الإيراني الذي أنهكه للحصار المفروض علىه، وبالتالى إعادة ترتيب الأوراق والبدء في عملية مفاوضات جديدة لكسب مساحة جديدة. الاتفاق النووي الإيراني سيفتح سباقًا نوويًا في المنطقة؛ فالسعودية الآن ومن قبلها تركيا وعدد من الدول بدأت في البدأ لتدشين لمشروعها النووي السلمي لتوليد الطاقة. المنطقة بعد الاتفاق النووي الإيراني ستكون مختلفة وستظهر تحالفات جديدة وموازين قوى أخرى تفرض نوعًا جديدًا من العملية السياسية، ولو تم سير الاتفاق على النحو المرجو له فإننا بصدد شرق أوسط جديد مختلف.