ترجمة وتحرير نون بوست
في عام 1818، تم سوق الأمير عبد الله بن سعود إلى إسطنبول لتنفيذ حكم الإعدام به، ولكن هذا الشخص لم يكن سجينًا عاديًا، بل كان زعيم التمرد الذي احتل المدينتين المقدستين في الإسلام لمدة عشر سنوات، وكان قد تجرأ على إعلان أن السلطان العثماني كافر، لذا من بين مختلف الإهانات العامة التي تم تنفيذها بابن سعود قبل إعدامه، تم إجباره على الاستماع إلى موسيقى العود، كون المذهب الوهابي الذي يتبعه الأمير وجماعته كان قد حرّم سماع الموسيقى، ولكن بشكل عام، كانت أقصى العقوبات محفوظة دائمًا لزعماء التمرد الدينيين، حيث تم وضع بعضهم ضمن فوهات المدافع ومدافع الهاون ليتم بعدها إطلاقهم وتفجيرهم إلى أشلاء.
تمرد ابن سعود أثار حفيظة العثمانيين بشكل واضح، كون هؤلاء الثوار ينتمون إلى المذهب السلفي للإسلام السني، وهذا يعني أنهم يفسرون أقدم النصوص الإسلامية بشكل حرفي وشديد التعلق بالنص، ومن جهة أخرى، كان التيار السني السائد في الأناضول في تركيا، ينتمي إلى المذهب الحنفي الماتريدي، الذي يتبع مذهب التفسير النصي للوصول إلى المعنى الحقيقي لتعاليم النبي، حيث بزغ هذا المذهب في عصر التنوير الإسلامي، أي في الوقت الذي وصلت فيه الحضارة الإسلامية إلى أوجها في الرياضيات، الطب، الفلك، والفنون، والعثمانيون اعتبروا أنفسهم ورثة هذا التطور الطبيعي للإسلام نحو حضارة أرقى، لذا لم يكن يهمهم أن يُطلق عليهم اسم الكفار.
احتلت السلفية مكانًا هامشيًا في الحياة السياسية منذ بداياتها في القرن الـ14، عندما تأثرت بشكل ملحوظ بأعمال وأتباع الباحث الإسلامي ابن تيمية، ولم تبدأ بكسب موطئ قدم لها في المنطقة، إلا عندما تراخى الحكم العثماني في القرن الـ19، وفي هذه الفترة، عقد رجل الدين السلفي ابن وهاب اتفاقًا مع عبد العزيز، وهو زعيم قبلي يتمتع بطموحات للسيطرة على شبه الجزيرة العربية، ومن خلال هذا الاتفاق استعمل ابن وهاب وعبد العزيز الفكر السلفي كسلاح من خلال تشكيلهم لقوة الإخوان، وهي قوة قتالية شديدة معروفة بحماسها الديني ووحشيتها، علمًا أنه لا يوجد أي ارتباط بين هذه المجموعة وبين المجموعة المصرية التي تحمل ذات الاسم، الإخوان المسلمين.
بدأ الإخوان بالإغارة على القرى المجاورة، حتى وصلوا في حدود تأثيرهم إلى العراق، وبحجة أن كل شخص لا يتبع العقيدة السلفية هو كافر وغير مسلم، حلل الإخوان أرواح الأشخاص وممتلكاتهم، حيث ذبحوا النساء والأطفال، ودمروا الأضرحة والقبور والأعمال الفنية، والتي تعتبر جميعها بدعة وكفر بالنسبة للعقيدة السلفية، وفي عام 1803، دخل عبد العزيز إلى مدينة مكة المكرمة، وبعد عقد واحد، أحكمت قبيلته سيطرتها على مساحة تعادل تقريبًا مساحة المملكة العربية السعودية الحالية.
نتيجة لذلك كلفت الحكومة العثمانية الجيش المصري، الذي كان تابعًا لإسطنبول حينها، بسحق التمرد، وبعد فترة استعداد ليست بالقصيرة استطاع المصريون في عام 1812 هزيمة الإخوان، واستعادوا مكة المكرمة والمدينة المنورة، وحينئذ تم إرسال عبد الله بن سعود إلى إسطنبول ليتم إعدامه.
ولكن الإخوان لم يختفوا، وبمعنى آخر، هذه الفئة هي نتاج منطقي للفكر السلفي، مدعوم بنمط تاريخي، كونها تمثل رغبة عنيفة تم قمعها ولكنها عادت لتظهر خلال عقود، حيث عاد الإخوان للمشهد مرة أخرى أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما دعم البريطانيون الثورات العربية ضد الإمبراطورية العثمانية، وساعدوا أسرة آل سعود لتأسيس المملكة العربية السعودية، ولكن الإخوان أرادوا أن يكملوا مسيرتهم نحو العراق، تمامًا كما فعل أسلافهم، بغية تطهير الشيعة، وهذا الحماس أزعج الملك السعودي، وسرعان ما أدرك أن تحالفه معهم يتعارض مع تحالفه مع البريطانيين؛ لذا ومن خلال حرب أهلية قصيرة، استطاعت قواته اجتثاث الإخوان مستعملين الأسلحة الأوروبية.
ولكن بعدها وفي عام 1979، اقتحمت مجموعة من المتطرفين المسلحين المسجد الحرام في مكة المكرمة، اعتراضًا على انحراف النظام الملكي السعودي عن منهج مؤسسيه، وإثر حصار دام لمدة أسبوعين، ومئات من القتلى، وعدد أكبر من المصابين، وبعد اعتناق ثلاثة أفراد من القوات الخاصة الفرنسية للإسلام لفترة وجيزة بغية دخول المدينة المقدسة، استسلم من تبقى من المسلحين داخل المسجد، وسلموا أنفسهم، وقالوا إنهم كانوا من الإخوان.
اليوم، وأكثر من أي مجموعة مسلحة إسلامية أخرى، داعش تمثل حقًا سيف السلفية الذي عاد للبزوغ من جديد، فالتنظيم يمارس حملات الإبادة الجماعية، تجارة الرقيق، يحتل الأراضي، ويحاول بناء دولة ضمن مناطق سيطرته، وهي ذات الممارسات التي كان الإخوان يحاولون القيام بها سابقًا.
ولكن داعش تحوز ميزة إضافية لم يكن الإخوان يمتلكونها، كون التنظيم يمتلك هوية فضفاضة ويسيرة أكثر حداثة، تسمح له بتجنيد الأشخاص من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك تركيا؛ ففي الوقت الذي كان فيه الأتراك العثمانيون في الأناضول يستبعدون فكرة الانضمام إلى الإخوان بشكل حاسم، يعمل تنظيم الدولة الإسلامية اليوم على تجنيد الأتراك بأعداد هائلة، والسبب بذلك يعود لكون طرح داعش المعادي للإمبريالية، هو طرح عالمي تقريبًا يتبناه جميع المسلمون اليوم، بما في ذلك الأتراك، حيث أظهرت استطلاعات كثيرة ومختلفة أن الأتراك يكنون مشاعر عدائية تجاه السياسة الأمريكية، وهذا العدائية عائدة بمعظمها لتدخل أمريكا في شؤون الدول الإسلامية، فضلًا عن دعمها لإسرائيل.
ولكن جزءًا من هذا الواقع تسببت به أيضًا الهيكلية الدينية الحديثة في تركيا، حيث انهار التصور العثماني القائم على وضع العثمانيين لأنفسهم كحماة للتقاليد الإسلامية الليبرالية في أسيا الوسطى، كون الجمهورية التركية، التي تأسست في عام 1923، نشأت بعيدًا عن مذهب الخلافة، ولم تقحم المذهب السني السائد في مؤسسات الدولة التركية؛ ونتيجة لذلك انخفض عدد الأشخاص الملتزمين بالطرق الدينية أو بالمدارس الإيمانية التي يرأسها المرشدون الروحيون، وأصبح الإسلام السني في الأناضول مجرد سعي وقناعة فردية، حتى أن الأسر التركية في كثير من الأحيان، يعتنق أفرادها ممارسات تابعة لفروع إسلامية مختلفة ضمن العائلة الواحدة، ورغم أن هذا ليس أمرًا سيئًا بحد ذاته، بيد أنه يمكن أن يمهد الطريق أمام نوع من مسابقات التدين، وهي المسابقات التي سوف يفوز بها المذهب السلفي المتشدد بشكل دائم.
تختلف الروايات حول الكيفية التي تعامل بها الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، ذو الأغلبية السنية، مع الوضع الراهن التركي، وإحدى الروايات تقول بأن حكومة حزب العدالة والتنمية، وفي خضم حماسها لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، دعمت، وربما لا تزال تدعم، تنظيم الدولة الإسلامية، حيث تقول هذه الرواية إن الأسد تابع للطائفة العلوية، ولذلك أيّد القادة الأتراك تنظيم داعش السني ضده، معتقدين بأنهم يستطيعون السيطرة على التنظيم.
لكن من جهتها، تنفي الحكومة التركية ومؤيديها هذا الطرح بشدة، قائلة إن المساعدات وصلت فقط إلى الجماعات المتمردة السورية الأخرى غير التابعة لداعش، علمًا أن الحكومة التركية اتخذت في الأسابيع الأخيرة إجراءات صارمة ضد تنظيم الدولة، وخاصة بعد هجوم الإثنين الماضي على بلدة سروج الحدودية التركية، ولكن هذه الجهود قد تكون أتت في وقت سبق فيه السيف العذل.
إذا كانت حكومة حزب العدالة والتنمية قد قامت حقًا بدعم تنظيم داعش، فإن هذا الدعم قائم إما على جهل مذهل بمشاعر تلك الجماعة نحو الدولة التركية، أو قائم على مغامرة جريئة للغاية على نحو غير معهود، حيث أوضح تنظيم داعش منذ فترة طويلة بأنه يعتبر تركيا دولة كافرة، وفي العدد الأول من المجلة التي أصدرها على الإنترنت باللغة التركية، يدعو التنظيم إلى “الفتح الجديد للقسطنطينية”، ويعطي القراء نصائح عملية، مثل حثهم على عدم تناول اللحوم في تركيا، لأن الكفار هم على الأرجح من أعدوا هذه اللحوم؛ لذا، فإنه مما لا شك فيه أنه كما قوض الإخوان سابقًا السلطنة العثمانية، يقوض تنظيم الدولة اليوم الشرعية السياسية لحزب العدالة والتنمية.
ولكن قيادة حزب العدالة والتنمية لا تتمتع بذات المجال الرحب الذي تمتع به العثمانيون لقطع دابر أعدائهم، كون تركيا ضعيفة للغاية تجاه داعش؛ فوجود عناصر نشطة للتنظيم داخل حدودها، يعني أن إعلان الدولة التركية الحرب المفتوحة ضد الجماعة، يخاطر بشكل كبير بإزهاق أرواح العديد من السكان المدنيين في المدن الرئيسية التركية، فحرب الـ30 عامًا التي خاضتها تركيا ضد حزب العمال الكردستاني، كانت صعبة ومكلفة لكلا الجانبين، رغم أنها كانت محصورة ضمن حدود معينة، ولك أن تتخيل مآسي الحرب ضد داعش اليوم التي من شأنها أن تغور بشكل أكثر عمقًا ضمن الداخل التركي.
أخيرًا، فإن حكومة حزب العدالة والتنمية تسير على خط رفيع يربط ما بين أمن مواطنيها وحفاظها على سلطتها الأيديولوجية، ولكن للأسف، حتى أكثر الحكومات قدرة لا يمكنها أن تأمل أن تستطيع لجم أحد أضخم الاتجاهات التاريخية مثل التيار السلفي الذي يجتاح المنطقة، ومثل ضفدع يرقد في الماء الدافئ، ستبقى الدولة التركية دون حراك في الوقت الذي تستعر فيه حرارة محيطها الذي تعيش ضمنه.
المصدر: ناشيونال إنترست