ذهب الكاتب اليساري تييري كوفيل فى كتابه “إيران .. الثورة الخفية” إلى أن المجتمع الإيراني يفور على فوهة بركان منذ بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية؛ وأن هذا المجتمع الواقع تحت وطأة الضغط الشديد من النظام أصبح في طريق التحديث المحتوم بلا شك وتعاظم المطالب الديموقراطية يتناغم مع التوطد المتصاعد فى قضايا النساء والشباب والمظالم المجتمعية وهكذا تشهد إيران شكلا من ثورة خفية يصعب استشراف مآلها..
وأرجع الكاتب ما رآه من المجتمع الإيراني الذي بدا أصلب مما توقع معارضوه و اجتاز الاضطرابات الثورية و العقوبات الإقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة وحرب العراق وأزمات شتى مع المجتمع الدولي خلافا للشرعية الدينية والقومية إلى وجود عدة تيارات وتنوعات داخل النظام؛ وخلافا لما توجس منه الخميني فلم يكن لهذا التنوع مفعول تدميري على النظام الإيراني بل زاده صلابة واتزانا..
لا يمكن فصل الإتفاق النووي عن الثورة بحال من الأحوال سواءً اعتبره البعض خطوة تكميلية فى طريق الثورة أو ارتداداً عن مبادئها وأسسها التي قامت عليها؛ ولابد لحدث كهذا أن يساعد على إعادة رسم الخريطة السياسية الداخلية لإيران
لذلك نحاول فى سياق التقرير التركيز على التغيرات السياسية المتوقعة فى الداخل الإيراني جرّاء هذا الاتفاق ..
أولاً.. تعزيز نفوذ الإصلاحيين على حساب المحافظين!
بعد الثورة الإيرانية لم يحتدم الصراع السياسي فى بداية عهد ما بعد الثورة لطغيان التوجه الثوري على عمل النظام الذى اعتمد طيلة هذه الفترة على حزب سياسي واحد وهو “حزب الجمهورية الإسلامية” الذى تأسس فبراير 1979 على أيدي بعض رجال الدين من أتباع الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية؛ الحزب الذى آل إلى الحل بقرار الإمام 1987 بعدما شهد انقسامات من داخله أضعفته وأصابته بالشلل التام.
برز هذا الانقسام فى الانتخابات التشريعية الأولى والثانية وشهدت رؤاهما اعتدالاً فى الطرح وتوازنا فى ظل الحضور القوي للخميني الذى امتلك كاريزما سمحت له بالسيطرة على كل الأطراف.
هذه الحالة بدأت فى التغيير مع نهاية الثمانينات لسببين رئيسين؛ أولهما انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء حالة الاستقطاب الدولي وتقلص تأثير الخطاب الأيديولوجي على الساحة الداخلية والثانية وفاة الإمام الخميني 1989؛ ونتج عن هذا أن تولى هاشمي رفسنجاني الرئاسة فى إيران 1989-1997 لتبدأ مرحلة جديدة تتحول فيها إيران من الثورة إلى الدولة.
وهذا الوضع يشبه لحد ما الوضع الذى تعيشه إيران فى الوقت الحالي إذا ما دخل الاتفاق النووي حيز التنفيذ لاسيما أيضاً وخامنئي ربما على مشارف الموت!
قبل أسابيع من إتمام الاتفاق النووي صرّح نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون الدولية والقانونية بأن «الإلغاء التدريجي للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران»، سيترتب عليه القبول بـ«تفتيش المواقع العسكرية»؛ وما أن صدر التصريح الذي نقلته وسائل الإعلام الإيرانية حتى هبّ المحافظون ضد الرجل، فاضطر إلى التراجع قائلا إن التصريحات المنسوبة إليه «عارية عن الصحة تماما».
لكن أصداء التصريحات لم تتوقف، ففي اليوم التالي عُقد في مقر وكالة «مهر» للأنباء التي تتبع الجناح الأكثر تشددا في المحافظين مؤتمر صحفي تحت عنوان «تمرين الغيرة.. التفتيش والاستجواب ممنوع»، حول موضوع البرنامج النووي الايراني بحضور عدد من الشخصيات السياسية الإيرانية. ونقلت الوكالة عن المشاركين في المؤتمر الصحفي، وهم من العيار الثقيل في التيار المحافظ، تأكيدهم على «خطورة ما يطرح حول تفتيش المراكز العسكرية الإيرانية واستجواب العلماء النوويين للبلاد».
هذا المشهد يؤكد أن الحالة السياسية الداخلية الإيرانية دخلت جولة جديدة من جولات الصراع الثنائي ما بين الإصلاحيين والمحافظين على فرض الرؤى وتملك السلطة بعد عدة جولات كان آخرها وأكثرها ضراوة ما حدث أثناء وعقب الإنتخابات الرئاسية 2009 -فاز فيها أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية واتهم الإصلاحيون مجلس صيانة الدستور بالتلاعب بالنتائج لصالح أحمدي نجاد- والتي تأزم فيها الوضع وتعقد ودخلت البلاد فى مرحلة أشبه بثورة على المحافظين حتى استقرت الأمور نسبياً ليطفو الصراع على السطح من جديد مع فتح ملف المفاوضات النووية..
التيار المحافظ لاشك يلاقي فى ظل هذا الاتفاق ضربةً عنيفة تهدد مشروعه السياسي لاسيما بعد فك الحظر عن الأنشطة الإقتصادية الإيرانية وهو يدرك أن نجاح الإتفاق يعنى نجاح الإصلاحيين لذلك من المتوقع أن يخوض المحافظون معركة جديدة فى أعقاب الإتفاق الغرض منها تبديد المكاسب وتصفير عداد الصراع لتبدأ المعركة فى جولة جديدة!
سيسعى المحافظون ولاشك لدفع فاتورة مشروعهم الحالم بالتمدد وتسديد النفقات لرفقائهم فى الخارج حزب الله وجماعة الحوثي وغيرهم وسد كلفة النزيف الهائل فى العراق وسوريا واليمن مؤخراً؛ بينما يسعى الإصلاحيون للتقرب من الجماهير ليظهر أثر هذا الإتفاق الذي نجحوا فيه مؤخراً على حياة الشعب ورفاهيته والإنتخابات البرلمانية على مشارفها في مارس 2016..
مشروع المحافظين الآن فى مأزق كبر وسيتأزم موقفهم أكثر برحيل خامنئي الذي ربما بات وشيكاً فقد بددوا مقدرات إيران لتحقيق مشروعهم التوسعي الحالم؛ ودفعوا عشرات المليارات فى المشروع النووي الذى تعطل بموجب الإتفاق!
ثانياً.. تراجع الدور المنوط بالحرس الثوري الإيراني!
أنشئ الحرس الثوري الإيراني بدايةً للحفاظ على مبادئ الثورة الإيرانية وشعاراتها المناوئة للاستكبار العالمي وإيجاد حالة من التوازن فى القوة مع الجيش الوطني الإيراني الذى ظنّ الخميني عقب الثورة أن ضباطه مازالوا على ولائهم للشاه الهارب ولذلك فإن الاتفاق النووي يُعد خلخلة أيديولوجية لما نشأت عليه هذا القوة!
الجنرال محمد على جعفري قائد الحرس الثوري: “مؤسسة الحرس ستسكت أمام هذا الأمر؛ لأننا لا نريد أن نعطي المجال أو الفرصة لأي أحد للعبث بالداخل الإيراني” (1)؛ يُعتبر الحرس الثوري أحد أشد المعارضين لهذا الإتفاق إلا أنه حتى الآن لم يتدخل بتوجيهات المرشد الأعلى لهم بالتزام الصمت وهى بالمناسبة المرة الأولى التي يأمر المرشد الأعلى الحرس الثوري بعدم التدخل فى الشأن السياسي الإيراني؛ ربما يرجع سلوك المرشد الأعلى فى دعمه لحكومة روحاني وكبحه جماح معارضيهم فى الحرس الثوري لحاجة إيران لهكذا موقف من ناحية ورغبته الجامحة لفرض عباءته على الفرقاء السياسيين من ناحية أخرى؛ ولذلك لم يرد أن يكبح جماح حكومة الرئيس روحاني رغم عدم تفاؤله ربما بنتائج المفاوضات على المدى البعيد!
الجنرال محمد على جعفري
لماذا إذاً ننتظر تراجعا للدور الذي يلعبه الحرس الثوري إذا ما دخل الاتفاق حيز التنفيذ؟
للإجابة على هذا التساؤل يجب بداية أن نعرف ما الدور الذي يلعبه الحرس الثوري وبالتالي سيتأثر فى إيران ما بعد الإتفاق النووي..
أولاُ؛ الدور السياسي
لعب الحرس الثوري منذ نشأته على ثلاث محاور؛ (ذراع إيران الخارجي المنوط بتصدير الثورة فى المحيط الإقليمي؛ الضامن الأول لبقاء النظام وحفظ الأمن الداخلي؛ معادلة كفة الجيش النظامي)
لعب الحرس الثوري دوراً واسعاً لإرساء المشروع التوسعي الإيراني الذى مآله إلى الجمود لانشغال الإصلاحيين -القادمين- عنه بالشأن الداخلي وبناء جمهوريتهم الحديثة أو التراجع فى ظل هدنة دولية بعد الإتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى لاسيما والخصوم الإقلميين يشددون على ذلك فى خطابهم الموجه للغرب المتصالح مع إيران مؤخراً؛ أهم هؤلاء الخصوم المملكة العربية السعودية والكيان الصهيوني وكلٌ له أسبابه؛ كما لعب الحرس دوراً ملحوظاً في العمل الشُرطي لضبط الأمن الداخلي واستقرار النظام الحاكم وكبح جماح أي تحرك ثوري مناهض للسلطة والمرشد الأعلى وبدا ذلك فى أوضح صوره فى احتجاجات 2009 التي أعقبت الانتخابات الرئاسية.
هذا الدور سيتقلص إذا ما دخل الاتفاق النووي حيز التنفيذ لأن الإصلاحيين غير ملزمين بالطبع بدفع فواتير الحرس الثوري الخارجية نتيجة تورطه فى العراق وسوريا واليمن ومن ناحية أخرى سيتجه النظام السياسي بشكل أكبر فى اتجاه الدولة الحديثة التي تهتم لشئونها الداخلية بالمقام الأول.
الحرس الثوري راهن طيلة الفترة الماضية على مشاريعه التوسعية والمشروع النووي وتراجع أى منهما أو كليهما يعنى انخفاط أسهمه فى الشارع الإيراني لأدني مستوياتها لاسيما وأنه الظرف الحالي داخل إيران مغاير للظرف الذى نشأ هو فيه والتغيرات الديموجرافية شاهد على ذلك -الانتخابات البرلمانية القادمة مارس2016 ستكون ول انتخابات يكون أغلب المصوتين من ولدوا بعد الثورة، وأغلب السكان من الذين ولدوا بعد الحرب التي كان لها دور حاسم في تشكيل تفكير النخبة الحاكمة الآن-.
ثانياً؛ الدور الإقتصادي
“الدولة فى وقت السلام يجب أن تستفيد من الأفراد والتجهيزات الفنية للجيش فى أعمال الإمداد والتعليم والإنتاج والبناء؛ مع رعاية الموازين الإسلامية وبما لا يمس الجاهزية القتالية” المادة 147 من الدستور
بموجب هذا النص الدستوري اقتحم الحرس الثوري الحياة الإقتصادية ولا تكون مبالغة إذا ذكرنا أن الدور الإقتصادي للحرس الثوري يفوق دوره السياسي وربما العسكري أيضاً إذ يسيطر على الصناعات العسكرية ودخل سوق الحاجات اليومية بمؤسساته التجارية المنتشرة فى أنحاء إيران وانتقل منها إلى مؤسسات اقتصادية عملاقة فى مجال النفط والغاز والبنى التحتية وغيرها ما تبلغ قيمته عشرات المليارات من قيمة الناتج المحلي الإيراني.
تعاظم هذا الدور بلاشك مع احتدام القطيعة الإقتصادية التي فُرضت على إيران فى عصر أحمدي نجاد ونتج عنها ارتفاع التضخم إلى 30% بحسب بيانات البنك المركزي الإيراني وكذلك نسبة البطالة ل13%بحسب إحصاءات رسمية؛ ولأنه يضير الاقتصاد الإيرانى ما يضير الاقتصاديات القائمة بالأساس على تصدير مادة خام وحيدة، وهو ما يعتبر اختلالا وظيفيا بنيويا يتأثر بالأسعار وانقطاع التصدير انخفضت عائدات النفط من 100 مليار دولار فى 2011 ل35 مليار فى 2013!
تعاظم هذا الدور كان بمثابة دور تعويضي (Compensatory Mechanisms) عن العقوبات المفروضة على إيران وها هي العقوبات الإقتصادية ترفع مع الإتفاق إذا ما دخل حيز التنفيذ! فهل سيحافظ الحرس الثوري بصمته حيال تحركات روحاني الخارجية بلا اشتراط أو امتعاض! أم ثمة صدام يلوح فى الأفق؟