التقويم الهَجْري
في اللّغة : هاجَر يُهاجر هِجرةً : إذا ترك مكانه وخرَج منه إلى غيره.
وهَجَرَ يَهْجُر هَجْرًا : أي تركه وأعرض عنه. وأمرٌ هَجْر – بفتح فسكون – أي مهجور، كتقويمنا تماماً !.
كتلاعب الحركات بالمعاني يتلاعب من هبّ ودبّ بأعياد هذه الأمّة ومناسباتها ، بل بتقويمها وأجندة أيامها ولياليها، على يد المؤسسات الدينية تارة والجمعيات الفلكيّة تارة أخرى ، وحسب الرغبة والحسابات السياسية تارات ومرّات . فمسلسل الاختلاف في تحديد بدء الأشهر القمرية وأيام الأعياد وغيرها ما زالت تتكرر حلقاته الكوميديّة السوداء عاماً بعد عام ، شاهداً لواقع أمّة لا يُحتاجُ لإثبات تردّيه وتشرذمها .
يوماً بعد يوم تتزايد الحاجة إلى تقويم هجري واضح وثابت ، ليتسنى استعماله بشكل عملي وحقيقي، في الوقت نفسه يزداد بُعد المسلمين عن استخدام تقويمهم الهجري، فكثير منّا لا يعرف اليوم والشهر الهجري الذي نحن فيه فضلاً عن السنة – في أيّ سنة هجريّة نحن !! – . وليس من الإنصاف إن نوجّه سهام اللّوم إلى الأفراد ، فهذا عمل منوط بالمؤسسات والدُوَل . إذ لا يُعقل بحال أن يركنَ أيٌّ فردٍ كان إلى الاعتماد على تقويم متغيّر وغير مستقر ، فكيف لتقويمٍ ” هُلامي ” أن يجدَ مكانًا له في زمن البيكومتر والنانوغرام والفيمتوثانية، وكيف يمكن لحياة عمليّة أن تستخدم تقويمًا ينتظرُ حتى آخِر ليلة من الشهر ليُفاجئك أن بداية الشهر هي بعد غد وليس صبيحة الغد، أو بمعنىً آخَر فإن راتبك سيتأخر يومًا إضافيًّا ، ولا تتفاجأ إن حجزت صالة لعرس أو حددت موعدًا لاجتماع في 4 شوال ، دون أن تعرف مسبقًا ما إذا كان 4 شوال هو يوم الاثنين أم يوم الثلاثاء ، وشيكاتك التي تتداولها ستبقى حتمًا تترقّب لحظة إعلان ” الشيخ ” رؤية الهلال لتثبيت مواعيد صرفها واستحقاقها .
التجليّات لهذا الخلل والإشكال متعددة وواسعة ، من الدولة وعلاقاتها بمن حولها وتحديدِ أيام عملها وعطلها الرسميّة، مرورًا بالمؤسسات والأفراد والتزاماتهما المختلفة ، بل وصولاً إلى ممارسة الشعائر الفرديّة ، إذ أذكر في تجربة شخصيّة قبل عدّة سنوات أنّني باشرت صيام الستة أيام من شوال في يوم 25 شوال متأملاً كون الشهر 30 يومًا بناء على ” رزنامة التقويم ” المثبتة في مطبخ البيت ، وكان غيرَ ما تأملت، إذ اكتفى شهر شوال بـ 29 يومًا في عامه ذاك .
على الجانب الآخر فإنّه مما لا شك فيه أن علم الفلك اليوم قد وصل درجة متقدمة تجعل من الاعتماد على الحساب الفلكي أمرًا دقيقا وموثوقا. فإذا أردنا أن نملك بين أيدينا تقويمًا هجريّا قابلاً للتطبيق في أرض الواقع فليس أمامنا من خيار سوى تثبيت التقويم مسبقًا اعتمادًا على الحسابات الفلكيّة ، هذا التثبيت المسبق يدفع بنا خطوة إلى الأمام في استئناف تفعيل التقويم الهجري في الحياة العملية في البلاد العربية والإسلامية. بل ويسهم في دعم الجاليات والأقليّات الإسلامية في الدول الأوروبية والغربية ، إذ إنّ جهودهم الدائمة في سبيل سحب الاعتراف من حكوماتهم بأعيادهم ، وجعلها عطلة رسميّة، تواجه بالرفض بذريعة عدم ثبات يوم العيد وعدم إمكانيّة معرفته مسبقًا ، فتذهب هباءً منثوراً .
تنقسم الدول العربيّة والإسلاميّة فيما بينها في اعتماد الرؤية أم الحسابات الفلكيّة في تحديد أوائل الشهور الهجريّة ؛ فالسعوديّة بطبيعة الحال تعتمد الرؤية فقط ودون مراعاة أي اعتبار للحسابات الفلكية ولو كانت تُحيل رؤية الهلال، وإنّ سبب هذه الأخطاء الفادحة هو قبول شهادة الشهود في المملكة العربية السعودية حتى لو دلّت الحسابات الفلكية أن الهلال غير موجود في السماء.[1]
دولٌ أخرى كتركيّا وتونس تعتمد على الفلك بشكل كامل، لكنّها في الوقت ذاته تقع في حرج كبير خصوصاً في عيد الأضحى لارتباطه بمناسك الحج والوقوف بعرفة ، الأمر الذي يعود تحديده فقط للسعودية دون غيرها، ولك أن تتخيّل الحرج الذي يمكن أن يلحق بدولةٍ تُعلن أنّ اليوم هو أوّل أيام عيد الأضحى ، في الوقت الذي يكون الحجّاج على صعيد عرفة في السعودية!
في نفس السياق فإن الأردنّ مثلاً يحاول أن يكون أكثر دبلوماسيّة ومرونة ، فهو يعتمد الحساب الفلكي جنبًا إلى جنب مع الرؤية مما يُعطيه مساحة حريّة أكبر في متابعة السعودية ، بل إنّه أحيانا يكتفي برؤية السعودية للهلال ويتابعها عليه كما حدث في إثبات هلال شوّال عام 2007 ، ولكنّ هذه الدبلوماسيّة ” والمتابعة ” للسعوديّة كان لها ضريبتها، ففي بحث تحت رعاية المشروع الإسلامي لرصد الأهلّة تم رصد الأخطاء في رصد الأهلّة في الأردن فقط من عام 1954م وحتى العام 1999م لـ 47 شهر رمضان ، وكانت نسبة الأخطاء بناءً على القياس الفلكي فادحة، إذ وصلت إلى 60%، ويقدّم البحث ملخصًا يرصُد فيه أخطاءً كارثيّة حدثت خلال هذه الأعوام، وأي محاولة للتغطية عليها هي كمن يحاول أن يغطيَ الشمس بغربال ، ومنها :
– كانت عدة شعبان 28 يوماً فقط في : 5 سنوات.
– كانت عدة شعبان 31 يوماً في : سنة واحدة.
– كانت عدة ذي القعدة 28 يوماً فقط في : سنة واحدة.
– كانت عدة ذي القعدة 31 يوماً في : 3 سنوات . [2]
في السنوات الأخيرة ازداد تضافر الجهود وتوالى عقد المؤتمرات في عدة دول إسلامية كالمغرب والأردن وتركيا في سبيل الوصول إلى تقويم موحّد لجميع الدول الإسلاميّة، ولعلّ آخرها هو ” مؤتمر توحيد الشهور القمرية والتقويم الهجري الدولي” والذي سيعقد في إسطنبول في شهر آذار 2016 ، علمًا أن الاجتماع التحضيري الأوّل للمؤتمر عُقد في شباط 2013 . ونظرة واحدة على فرق الـ 3 سنوات بين الاجتماع التحضيري للمؤتمر وموعد المؤتمر نفسه – والذي تأجل مرّات – يُشير إلى حجم العوائق والتحديات التي تواجهه .
يحاول مؤتمر إسطنبول أن يقدّم حلولاً عمليّة ، ولذا تراه من خلال دعوته للمشاركة في المؤتمر يغلق باب الأبحاث والأوراق النظريّة ويفتح باب تقديم الاقتراحات والحلول العمليّة والتي يمكن تطبيقها على أرض الواقع ، ويشارك فيه نخبة متخصصة من علماء وفلكيي العالم العربي والإسلامي [3] ، ولكن تبقى المعضلة الأساسيّة أن السعودية – وهي رأس الحربة في هذا الموضوع – ترفض بشكل قاطع المشاركة في مثل هذه المؤتمرات، انطلاقا من رفضها المسبق الاعتمادَ على الحساب الفلكي، ولا ترى غير الرؤية وسيلة شرعيّة في تحرّي ثبوت الهلال ، ولذا يبقى نجاح هذه المؤتمرات أمرًا صعبًا بل غير متوقع .
إخيرًا فإنّ أي حل يستثني السعودية ، أو بمعنىً أصح، لا يخرج من تحت عباءة السعوديّة، وبموافقتها ورضاها الكاملين، سيبقى حبرًا على ورق. وأيّ مؤتمر ليست السعودية فاعلةً فيه ، فضلاً عن أن تكون الداعية والمنظمة وصاحبة صفة الرئاسة فيه، لن يُجاوز أروقة القاعات التي عُقد فيها، ولذا فالمخرج إنّما يكون في صفقة – دينيّة سياسيّة – تحقق للقيادة السياسية السعوديّة مكاسب وزعامة ترى أنّها جديرة وتستحق أن تمارس الضغط على مؤسستها الدينية الداخلية من أجلها .
[1] الهلال بين الحسابات الفلكية والرؤية، م. محمد شوكت عودة . بحث مقدم لاجتماع الخبراء لدراسة موضوع ضبط مطالع الشهور القمرية عند المسلمين ، الرباط – المغرب ، 09-10 تشرين ثاني/نوفمبر 2006م.
[2] المشروع الإسلامي لرصد الأهلّة . بحث تقويم نسب الخطأ في تحديد أوائل الأشهر الهجرية في الأردن ، م. محمد شوكت عودة . كانون أول 1999 ، روجع في أيلول 2004.
[3] للاستزادة حول برنامج المؤتمر والضيوف المشاركين ، موقع رئاسة الشؤون الدينية التركية https://bit.ly/1I6lmhD