بينما تحوّل العالم من الاستعمار الكلاسيكي بقيادة الإنجليز والفرنسيين، واتجه ناحية الهيمنة بآليات السوق بقيادة الأمريكيين، انعكست تلك التحولات على كافة مناطق العالم، ولم تكن المنطقة العربية القابعة تحت حُكم عروش شتى في تلك الفترة استثناءً من تلك القاعدة، إذ رأت واشنطن آنذاك أن حتمية انتقال النفوذ العالمي من لندن إليها يستتبع البحث عن حلفاء جدد بالمنطقة أكثر مواكبة لطبيعة النظام الجديد ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما جعلها تنظر لمعظم العروش الكائنة آنذاك باعتبارها جزءًا من تحالفات الإنجليز القديمة، وتشجع مركز القوة الوحيد البديل الذي فرض نفسه بقوة كجزء من الدول الحديثة الناشئة في المنطقة: الجيوش.
بين العسكر والمجتمع
تضع بعض الأدبيات الغربية الكلاسيكية المؤسسات العسكرية بشكل عام في صورة إيجابية، وترى أن حتمية الدخول في صراعات وبناء مؤسسة نظامية تحتكر ممارسة العنف في مجتمع ما تجعل منها رُغمًا عنها عاملًا من عوامل التحديث نتيجة ما يفرضه ذلك من حتمية الانصياع لسلطة مركزية وزيادة معدلات الانضباط والنظام والاصطفاف خاصة أثناء الحروب، مما يسهل بالتبعية من عمليات التحديث، ويجعل للجيش دورًا مهمًا فيها، وهي نظرة خاصة بالسياق الأوروبي، بيد أنها أُسقِطَت على مناطق شتى من العالم حظيت فيها الجيوش وتدخلاتها السياسية بالدعم الأمريكي طوال فترة الخمسينيات والستينيات من نفس المنطلق: أن الجيوش بكفاءتها وقدرتها على ضبط مجتمعاتها تستطيع دفعها قدمًا.
بالطبع لم تكن تلك الفرضية دقيقة فيما يخص المنطقة العربية، أولًا ببساطة لأن تركيبة المجتمعات العربية وتاريخ علاقة السلطة فيها بالعنف كان مختلفًا عن أوروبا، وثانيًا وهو الأهم، لأن الجيوش الوطنية تحديدًا في تلك المرحلة كانت وليدة السياسات الاستعمارية ورؤاها المنفصلة عن المجتمعات الأصلية للبلدان التي استعمرتها، على عكس الحال في أوروبا حيث كانت المؤسسات العسكرية وطبيعة علاقتها بالسلطة والمجتمع جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي والسياسي للشعوب الأوروبية.
تباعًا، تبلورت لدى المؤسسات العسكرية العربية رؤية تحديثية مناهضة للشبكات الاجتماعية المعقدة التي حلت هي ضيفة عليها خلال العقود القليلة التي نشأت فيها، حيث أصبح جليًا أن تحقيق النظام المركزي المرجو، والذي كان يُفتَرَض أن يؤدي إلى التقدم بشكله الديمقراطي في أوروبا، يسير في نفس اتجاه تفكيك تلك الشبكات، وبالتالي نحو دولة حديثة بالمعنى التاريخي ولكن غير ديمقراطية سياسيًا، وغير قادرة على إرضاء مجتمعاتها، وبالتالي غير مرشحة لتحقيق فترة رخاء واستقرار طويلة كما في الحالة الأوروبية.
مع مرور الوقت، انحسرت أهداف الجيوش في الحفاظ على المكتسبات السلطوية التي بناها لها الاستعمار وتعزيزها قدر الإمكان، وهو ما أتى على حساب رصيدها الحداثي، أي أن تلك المؤسسات قررت التعاطي مع الواقع المركب كما هو بل واستغلاله لصالحها، ضاربة عرض الحائط كل ما يفترض أن يتأسس عليه جيش حديث ومهني ومتقدم، والأمثلة الأبرز هنا هي جيوش اليمن وسوريا وليبيا والعراق، والتي اتخذت لنفسها ركيزة قبلية و/أو مذهبية و/أو عرقية، لتتلاشى القاعدة الوطنية لها وتصبح مجرد سلطان حداثي مجرد من كل مميزات الحداثة، وتكتسب في نفس الوقت الكثير من مساوئ النظم الوسيطة Medieval، بدءًا من الجيش السوري العلوي فعليًا، والجيش العراقي السني العربي سابقًا والشيعي حاليًا، وحتى جيشي ليبيا واليمن اللذين أصبحا فعليًا كتائب لزعماء البلدين.
حروب القرن الجديد والربيع العربي
يشير يزيد صايغ، أستاذ دراسات الشرق الأوسط والباحث بمعهد كارنيجي، إلى أن الجيوش العربية إلى جانب علاقتها المعقدة بمجتمعاتها وعدم اتفاقها بالضرورة مع ما أملته الأدبيات الغربية عليها من المشاركة في خلق دولة حديثة بل وتعارضها بنيويًا مع هذا الهدف، تواجه نتيجة طبيعة الصراعات والنظام العالمي في القرن الواحد والعشرين تحديَّين جديدَين هما، أولًا، إعادة هيكلة نفسها لمواجهة القوى غير الموازية كالميليشيات والحركات المتطرفة، بما يؤدي لتحلل الكثير من سماتها كجيوش كلاسيكية ويزيد من هشاشتها البنيوية، وثانيًا، قبول الهيمنة الأمريكية الرأسمالية بما يستتبعه ذلك من تقليص حجم الدولة مع محاولة الإبقاء على هيمنة العسكر على الحياة العامة، وهما هدفان يتنافيان بشكل كبير.
بالتبعية، تلاشت في السنوات الأخيرة بشكل كامل أي سمة “حداثية” لتلك المؤسسات، كما أن موجات الربيع العربي التي هزت المنطقة، وأطلقت العنان للشبكات الاجتماعية الأصيلة في بلدان عدة، وكسرت احتكار الجيوش للعنف على نطاق واسع وعلني بشكل غير مسبوق، قد أنهت فعليًا عصر الجيوش كمؤسسات حديثة وطبيعية، ونزلت بها إلى مصاف الميليشيات ليس إلا، وهي نتيجة حتمية كما ذكرنا لانتفاء القاعدة الوطنية لها نتيجة سياساتها القبلية والطائفية.
وإن كانت تلك السياسات غير الوطنية قد تم تمريرها في السابق نتيجة وجود عدو خارجي (إسرائيل) دفع جميع الطوائف للاصطفاف خلف الجيوش (كما في الحالتين السورية والعراقية أيام صدام والأسد)، فإن برود سخونة الصراع العربي الإسرائيلي، والدخول في عصر الحروب غير الموازية، وانقلاب أولويات الشعوب ناحية التحرر الداخلي لا الخارجي بعد الربيع العربي، قد أسقط تمامًا قناع الجيوش “الوطنية”، وأجبرها على الإفصاح عن نفسها كمجرد كتائب لزعماء أو طوائف قد تقتل شعوبها حال شعرت بأن مكتسباتها تحت التهديد.
في ظل تلك الدائرة الهوبزية (نسبة لتوماس هوبز) فإن التناحر بين الميليشيات سيستمر طويلًا قبل أن ينشأ عقد اجتماعي جديد، وهو صراع لربما لم يكن ممكنًا تفاديه، أولًا لأن النزعات المذهبية والعرقية التي تم قمعها عن طريق جيوش الأسد وصدام والقذافي وغيرهم ستظل لجيل أو اثنين على الأقل مستنفرة تمامًا على حساب أي اتجاه وطني أو أممي، وثانيًا لأن الكثير من هشاشة تلك الأنظمة لم يكن نابعًا فقط من هشاشة جيوشها، بل ومن هشاشة تعريفها للأوطان التي استلمت زمامها بعد رسم الاستعمار لخطوطها، وهي خطوط لم تكن دقيقة في الكثير من الأحوال، مما يعني أن ما يجري ليس فقط هويات مستنفرة بعد سنوات من القمع السياسي، ولكن انفجار في التعبير عن روافد أصيلة جغرافية وتاريخية لم تسمح لها المنظومة الإقليمية والعالمية بالوجود لحوالي قرن.
مصر: الحالة الاستثنائية
من بين كل تلك الجمهوريات التي نجحت فيها الجيوش في إقصاء النظم الملكية القديمة، تُعَد مصر حالة استثنائية لأسباب طويلة، أولها أن محاولات تأسيس جيش حديث تسبق فيها قدوم الاستعمار، حيث بدأها محمد علي باشا بوصوله للحكم وانفصاله فعليًا عن الدولة العثمانية في مطلع القرن التاسع عشر، وثانيها أنه على مدار العقود الماضية، لم يتخذ الجيش المصري أي ركيزة عرقية أو طائفية بشكل واضح، لا سيما وأن المجتمع المصري مقارنة بنظرائه في ليبيا والشام يُعَد متجانسًا لأسباب جغرافية وتاريخية، وهو ما ينقلنا للسبب الثالث لاستثناء مصر عن الجمهوريات الأربع المذكورة أنفًا، وهو أنها ككيان ليست صنيعة الاستعمار.
بالنظر لكل ذلك، لماذا لم تتبع مصر إذن النموذج الأوروبي؟ ولماذا لم يكن جيشها وقيادته نقطة انطلاق لمشروع نهضة حديث كما تقول النظرية الكلاسيكية؟ أولًا لأن غياب المسحة المذهبية والعرقية التي أكلت جيوش الجمهوريات العربية الأخرى لا يعني بالضرورة وجود القاعدة الوطنية، فالقاعدة الوطنية للجيش المصري معطوبة لواحدة من نفس الأسباب التي ذكرناها، وهي أنه تأسس على يد محمد علي باشا، والذي أسس الجيش ليكون حديثًا بالمعنى التقني والمهني، جالبًا أحدث ما توصلت له أوروبا أنذاك، ولكنه لم يؤسس جيشًا وطنيًا ليكون جزءًا من دولة حديثة كما نعنيها اليوم على غرار ما قام به أتاتورك وبورقيبة في تركيا وتونس، بل وحمل معه الثقافة العثمانية التي وسعت كثيرًا من نطاق العسكر ونفوذه لتصبح الدولة المصرية بكامل سلطانها شديدة الضآلة مقارنة بسلطان الجيش منفردًا.
السبب الثاني، والذي تشارك فيه مصر الجمهوريات العربية الأخرى، هو أن الجيش المبني على النسق العثماني وبنعرة تركية بين قياداته في الحقيقة حتى منتصف القرن التاسع عشر، والذي تطور لاحقًا على خطوط الاستعمار الإنجليزي، لم يكن متجانسًا مع النسيج المصري الذي وفد إليه، وإن كانت قطاعات المصريين في الدلتا قد تطورت مصالحها وأنساق حياتها تحت ظل الاستعمار لتكون أكثر قدرة على التجانس معه مستقبلًا، فإن المساحات الشاسعة في سيناء والصعيد والصحراء الغربية ظلت بعيدة، وبحُكم المركزية الشديدة للنظام المصري أولًا، ووجود سلطات مستقرة في ليبيا والسودان وإسرائيل طوال العقود السابقة ثانيًا، لم تحصل أي من تلك الشرائح على فرصة حقيقية للتعبير عن نفسها.
السؤال الآن إذن يكون: ولماذا لم تنتفض تلك الشرائح بعد الربيع العربي وتفكك الكثير من دول الجوار؟ لأن التهميش ليس كالاستنفار، فالسياسات المركزية المصرية على مدار العقود الماضية قد همّشت من الصعيد والصحارى وسيناء ولكنها لم تستنفرها، مما يعني أن أهالي تلك المناطق لم يعانوا مثلما عانى الأكراد تحت حكم صدام أو السنة حاليًا تحت الحكومة العراقية ونظام الأسد، والأزمة الوحيدة والحديثة في السنوات القليلة الأخيرة هي سيناء التي بدأت تنتفض نتيجة الضغط عليها من السلطة المركزية، وإن كان الوضع فيها مرشح ليزداد سوءًا، إلا أن كونه بعيدًا عن وادي النيل، وغير متصل جغرافيًا بالشام أو ليبيا، يجعل أثره محدودًا في خلخلة الأوضاع، أضف لذلك أن سلطان الجيش مركز بالكامل في القاهرة والدلتا، مما يعني أن أقصى خسارة قد تكون جغرافية بانفصال ذلك الجزء، ولكن ليس بتفكك المركز المصري نفسه، وإن كان سيناريو الانفصال نفسه صعب بوضع إسرائيل في الاعتبار.
نعود إلى التحديَّين اللذين أشار لهما يزيد صايغ (الحروب غير الموازية والاندماج في النظام الرأسمالي)، وسنجد مرة أخرى أن الجيش المصري قد عاد إلى حالة الاستثناء التي تبقيه خارج الجمهوريات الأربع، وذلك أولًا لأنه قد نجح بذكاء على مدار عقود طويلة تحت حكم السادات ومبارك، ومؤخرًا بشكل خاص تحت حُكم السيسي، من ترسيخ وتوسيع نفوذه الاقتصادي بشكل أفاده في الحقيقة من النظام الأمريكي، حيث يمارس الجيش المصري نشاطات اقتصادية واسعة لا يملكها أي جيش في المنطقة تتيح له الإبقاء على هيمنته وإن تقلص رسميًا الدور الاقتصادي للدولة، وثانيًا لأن تحدي القوى غير الموازية يظل ضعيفًا، فهو إما مهمّش جغرافيًا في سيناء، أو ساكن نظرًا لعدم وجود مصلحة له في مواجهة النظام كما في الصعيد.
***
في المُجمَل، وبالنظر لتلك الجمهوريات الخمس الأبرز التي حلت فيها الجيوش محل العروش على مدار العقود الستة المنصرمة، يبدو وأن أربعًا منها، هي اليمن وسوريا وليبيا والعراق، قد تفككت جغرافيًا ومؤسسيًا، وأن جيوشها لا يمكنها أن تستعيد وضعها “الوطني” السابق، في حين أن مصر، وللأسباب المذكورة أعلاه، فإن جيشها ليس مرشحًا للتفكك بهذا الشكل، وإن كان ثمة مسار يمكن أن يؤدي لاستعادة الشعب السلطان التنفيذي والتشريعي الذي هيمن عليه منذ الخمسينيات ولا يزال، فإنه لا يمكن أن يكون مسارًا ليبيًا لا تتوفر مقوماته على الأرض ولا يناسب ظروف الحالة المصرية، كما أنه لا يمكن أن يكون مسارًا تونسيًا أو تركيًا تدخل فيه مجموعة قوى في اشتباك مع النظام القائم عبر منظومة شبه ديمقراطية لتنجح مع الوقت في احتواء الجيش، لأن الجيش المصري ليس طبيعيًا وحديثًا بنشأته وعلاقته ببقية مؤسسات الدولة كما ذكرنا، وهو ما يحتّم اللجوء لمسار خاص يناسب الاستثناء المصري، لازلنا بعيدين عن التفكير في ماهيته، فالكُل إما منجذب للتفكيك الجاري في الجمهوريات االعربية لأخرى، أو كان في السابق معلقًا (والبعض ربما لا يزال!) بـ”النموذج التركي.”
ماذا عن البلدان العربية التي لم تنتقل أصلًا لمرحلة الجيوش في الخمسينيات ولا تزال ملكية إلى اليوم؟ للحديث بقية