لم ينجح الأديب الأمريكي وحائز جائزة نوبل للآداب “إرنست همنجواي” في عرض وقائع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939) في مسرحيته “الطابور الخامس” كما فعل البريطاني جورج أورويل صاحب الروايتين الشهيرتين “مزرعة الحيوان” و”1984″ في روايته المنسية “حنين إلى كتالونيا”، ربما كان الأول مجرد صحافي وكاتب سيناريو ينظر للأحداث بحياد، أو هكذا يتظاهر، بينما كان الثاني مقاتلًا منحازًا لأحد الأطراف بشكل واضح.
ذهب أورويل للحرب إلى جانب الجمهوريين الحكوميين أمام قوات فرانكو الفاشية في ديسمبر 1936 متفائلًا بالنصر ومتسلحًا بيقين انتصار المساواة والعدل على التمييز والظلم، لم تنقض سبعة أشهر حتى عاد أورويل إلى فرنسا مطاردًا وفاقدًا صوته وربما عقله بعدما حُظرت المنظمة التروتسكية التي ذهب يقاتل في صفوفها من قِبل حكومة الثورة في مدريد وتم اعتبارها منظمة إرهابية تعمل لصالح الفاشيين والنازيين أعداء الثورة، هذا محزن، لكن يبدو أن وباء التقاتل بين الرفقاء هي سمة كل الثورات.
كان من حظنا أن أورويل قد وثق ما رآه وسمعه وخبره في عمل محير في تصنيفه بعد عودته بعام فقط في 1938، لا يستطيع القارئ بسهولة التقرير هل ما كتبه أورويل هو تقرير لوقائع ما شاهده أم هو رواية أدبية ممتعة لما أحسه وخبره أم هو كتاب نقدي لما كابده وعاركه؟ ربما كان هذا كله! كان أيضًا من دواعي اندهاشي هو وجود ترجمة عربية صادرة عن وزارة الثقافة السورية في العام 2003 من ترجمة وتحقيق وتقديم عبد الحميد الحسن، أنا متيقن بأن صُدفة اندلاع الثورة في سوريا بعد أقل من عشر سنوات كانت من الممكن أن تعني شيئًا لأورويل في بداية رحلته، لكنها قطعًا لن تعني أي شيء في نهايتها، كما سترى بعد قليل.
تركت الاشتباكات بين مكونات المعسكر الجمهوري من الشيوعيين في الحكومة المركزية في مدريد من جهة وبين التروتسكيين والأناركيين في كتالونيا وبرشلونة من جهة أخرى ندوبًا عميقة في جسد أورويل كما في روحه، في هذه التجربة الفريدة، ومن موقعه كمقاتل أجنبي في حرب رآها تمثل كل القيم الاشتراكية في المساواة والحرية والعدالة، شهد أورويل ما أسس لنظرته السوداوية عن الحكم والسلطة والأيديولوجية والحقيقة في روايتيه الشهيريتين “مزرعة الحيوانات” الصادرة في 1945 و”1984″ الصادرة في 1949.
أسست الحروب البينية داخل معسكر الجمهوريين الثوريين لكل البؤس والتشاؤم الذي رأيناه فيهما بما شهدته من تخوين وتشويه متبادل واغتيال معنوي ومادي وحتى التصفية والإبادة الكاملة باسم الثورة ونفس المثل التي جمعتهم في المقام الأول أمام الفاشية.
يصف أورويل في بداية روايته أجواء التسامح والعدالة المجتمعية التي سادت مناطق الثورة في كتالونيا وبرشلونة ومدريد وسائر الشمال والشمال الشرقي في نهاية 1936 وبداية 1937 من تخل عن كل ملابس البورجوازية وعاداتها وتبسط الناس وتشابهها في لباسها، ومن تخل عن علاقات الرأسمالية الطبقية والهرمية، فلم يعد أحد يخاطب أحدًا بغير “يا رفيق” بضمير المخاطب “أنت”، واختفت تحية “يا سيدي”، ومنع البقشيش وارتدى الجميع نفس الملابس الزرقاء الخشنة، “هذه أجواء يحارب من أجلها”، هكذا رأى أورويل وظن أن الجميع كذلك، لكنه كان مخطئًا.
فلم تدخل السنة الثانية للحرب إلا وتطورت الخلافات الفلسفية والإستراتيجية إلى حرب داخلية انتهت بقضاء أحد الأطراف على الآخر، تمامًا. كانت الجبهة الأولى تتكون من الأناركيين والتروتسكيين بتفضيلهم لاستمرار النهج الثوري في تمكين العمال بمصادرة الأراضي وحرق الكنائس وتدمير كل أسس البورجوازية والإقطاعية وذلك كمقدمة لازمة لكسب الحرب على الفاشيين أتباع فرانكو، على الجبهة الأخرى، رأى الشيوعيون التابعون للسوفيت التدرج في الثورية؛ حيث إن التمادي في الثورة يعني خسارة الحرب.
إن مصادرة الأراضي ينفر الملاك من الثورة ويدفعهم لتأييد فرانكو، وكذلك فإن معاداة الكنيسة تنفر الطبقة الوسطى وتخدم دعاية الفاشيين بالضرورة، رفع الشيوعيون شعار “الحرب أولًا ثم الثورة”، كانت الأولوية هي كسب الحرب عن طريق التهدئة من المسار الثوري وتحقيق مساومة مع الإقطاع للوصول إلى ديمقراطية برجوازية، بهذا يمكن القضاء على خطر فرانكو ومواصلة الثورة بعدها، لكن استمرار الثورة بهذه الوتيرة الموتورة التي ينادي بها الأناركيون والتروتسكيون يعني خسارة الحرب، ومن ثم الثورة.
لم ير الأناركيون والتروتسكيون في هذه الإستراتيجية غيرَ مراوغةٍ لقتلِ الثورة وضمانة أكيدة لعدم الانتصار في الحرب؛ فبالنسبة للأناركيين كانت سيطرة اللجان العمالية على الصناعة والحكم باللجان المحلية هي قلب رؤيتهم للثورة ومركز مشروعهم السياسي وهو ما كان يزعج الشيوعيين ذوي النزعة المركزية، كان الأناركيون يتوجسون من الشيوعيين ويرون أن الدعوة للمركزية هي إعادة إنتاج للنظام الديكتاتوري القديم ولو بوجه جديد، وهو ما قامت عليه الثورة بالأساس، وبهذا فإن دعوة الشيوعيين للمركزية بدعوى زيادة كفاءة الجيش الجمهوري في قتال جيش فرانكو المركزي والمنظم والمدرب، كانت ذات رائحة كريهة بالنسبة للأناركيين، على إثر ذلك، قاومت الميليشيات الأناركية في برشلونة الانضمام للجيش المركزي الذي أسسه الشيوعيون في مدريد بدعم سوفيتي.
كان الدعم السوفيتي الواضح للشيوعيين هو ما يقلق التروتسكيين الذين ينزعون إلى الأممية الاشتراكية ومد الثورة والتغيير إلى كل الأنحاء الممكنة دفعة واحدة مقابل النهج التدريجي للشيوعيين اللينينيين، كذلك رأى التروتسكيون في كتالونيا أن الشيوعيين في مدريد قاموا بربط الثورة الإسبانية بسياسات الاتحاد السوفيتي وهذا في الحقيقة يعد قتلًا لها وتآمرًا عليها.
لم تكن العلاقة بين الفرقاء مجردة وفكرية كما تم عرضها منذ قليل؛ فقد سادت الاتهامات والتخوين المتبادل والمناوشات، وحتى القتال، بين الجميع وضد الجميع، تدهورت العلاقة بين الأطراف لنقطة اللاعودة عند محاولة الحكومة الشيوعية السيطرة على مركز اتصال يسيطر عليه الأناركيون من أجل ضمان التنسيق في العمليات العسكرية والنصر في الحرب، أو هكذا اعتقدوا وقتها، تطور الأمر لاشتباكات أسقطت حوالي 400 قتيل ومئات من الجرحى من الطرفين، لم تمر أيام على تلك الحادثة حتى تم حظر ميليشيات التروتسكيين والأناركيين من قِبل الحكومة المركزية والقبض على أعضائها وتصفية قياداتها تحت غطاء اتهامات كثيفة بالعمالة لفرانكو والفاشية والنازية ومن ثم خيانة الثورة.
قد يبدو هذا نصرًا للشيوعيين في مدريد سيساعدهم قطعًا في توحيد الجهود ضد فرانكو ومن ثم الانتصار في الحرب، لكن هذا لم يحدث أيضًا؛ ففي غضون عامين كانت مدريد قد استسلمت بدون قتال لقوات فرانكو بعد تعدد هزائمهم ووضوح استحالة نصرهم على قواته، رفض فرانكو التفاوض مع الشيوعيين وقرر التقدم نحو المدينة، فآثروا هُم الانسحاب والاعتراف بالهزيمة والحفاظ على المدينة من الدمار المحقق، هنا تيقن الجميع أنهم قد خسروا الحرب لتوّهم ومعها الثورة للأبد، فقد استمر حكم فرانكو الديكتاتوري الفاشي بعد القضاء على الجميع من 1939 حتى توفي على سريره في 1975، يا لها من مأساة وملهاة، لكن كيف يمكن فهم ما حدث؟
قراءة أولى لمسار الأحداث قد تلقي اللوم على الأناركيين والتروتسكيين لقِصَرِ نَظرهم في تجاهلهم للمهمة القريبة وهي هزيمة فرانكو، وتركيزهم على المهمة الطويلة الأمد وهي إحداث التحول الاقتصادي – الاجتماعي العميق الذي يُغير السياسي جذريًا، هنا قد يظهر أن الشيوعيين كانوا محقين فى إيلائهم الأولوية للتنظيم والتوحد لهزيمة فرانكو على الثورة والتغيير العميق مع اللامركزية وضعف التنسيق، لكن هذا لا يصمد أمام حقيقة أن الشيوعيين لم يهزموا فرانكو في النهاية، فحتى بعد تحقيقهم الوحدة بقوة السلاح قد خسروا الحرب، وخسروا الثورة قبل ذلك.
ولدواعي الإنصاف، كان هناك شك بإمكان الفوز بالحرب مع التشرذم السابق وعدم التنسيق بين الأناركيين والتروتسكيين والشيوعيين، فقد كان الأناركيون والتروتسكيون في الحقيقة غير مدربين وعديمي الكفاءة ومنخفضي التسليح وبعيدين كل البعد عن روح وحقيقة العسكرية الحديثة التي تمتع بها فرانكو وقواته.
هنا يوضح أن المشكلة أبعد من الوحدة والتشرذم، هي في الحقيقة أقرب إلى الضعف العام الذي أفرز التشرذم في المقام الأول كما كان من تجلياته ضعف القوة العسكرية وقِدَمِ الأسلحة وهُزال التكتيك والإستراتيجية الحربية في صفوف الثورة، التشرذم هنا هو أحد نواتج الضعف العام وليس مُسَبِبَهُ؛ وبالتالي لا يجب التركيز على التلاوم بين الفرقاء بقدر ما الأولى هو التركيز على جَبرِ مسببات الضعف العام وتقوية بنية الثورة الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي العسكرية، حتى يمكن النجاح ولو في جولات قادمة، يبدو أن الثورة الإسبانية لم يكن لها أن تنجح لعوامل داخلها كما كذلك في خارجها.
لم يتركنا أورويل حائرين بخصوص تفسير ما حدث؛ فقام بكتابة تعقيب على الكتاب/ الرواية بعد نهاية الحرب بأربع سنوات ونشره في 1943، فسر أورويل انتصار فرانكو بقوة الدعم الخارجي واستمراره من قِبل ألمانيا وإيطاليا مقابل ضعف وتقطع الدعم البريطاني والفرنسي وحتى السوفيتي للثورة، فالبعد الخارجي ودوره الحاسم عامل آخر يجب أخذه في الحسبان حتى لا نقع ضحية لنقد ذاتي مُدمر.
ففي التحليل الأخير، لم يتوقع أورويل أن تنتصر الثورة لحقيقة بسيطة وهي ضعف تسليحها الفاضح مقارنة بقوة فرانكو الواضحة، والفضل في هذا كله لتماسك حلفائه وتخاذل حلفاء الثورة، هذه ثورة مخذولة، قتلتها السياسة الإقليمية قبل أن تقتلها خلافات أهلها، أو قاما بذلك معًا لو أردت أن ترى ذلك.
علاقة القضايا السابقة بالثوارت العربية لا تخفى على القارئ، ولعمق الخلافات بين فرقاء الثورة ورفقاء الميادين تجنبت الاشتباك معها مباشرة لعلّي بهذا أوفر مجالًا للتمعن والنظر بدون أي أحكام شخصية أو تشويش فكري، لم تنته تعليقات أورويل على الثورة الإسبانية عند خلافات الفصائل، بل امتدت كذلك لمناقشة تفاصيل أخرى هامة مثل دور الإعلام والمثقفين وقضايا أخلاقية وعملية مثل التعاطف مع الضحايا وحتى التساؤل عن إمكان الحياد وعدم الاصطفاف لجانب ضد الآخر في خضم الحرب الدائرة.
تشابه الحروب وتتطابق مآسيها برتابة لدرجة تكرار تَنَكُّر الإنسان لذلك، ما عَرضه جورج أورويل في روايته “حنين إلى كتالونيا” عن الحرب الأهلية الإسبانية نراه واقعًا يوميًا في حروبنا من سوريا والعراق لليبيا واليمن ومصر، بينما يصرُّ كل بلد على أن واقعه مختلف وبلواه فريدة، كما أوضحنا في الحلقة السابقة، كان التشرذم في الحرب الأهلية الإسبانية ناجمًا عن الضعف العام في بنيتها، لا منشئًا له، هذا الضعف في بنيتها المادية الداخلية لم يُغر القوى الخارجية بدعمها بجدية كما دعم حلفاء فرانكو قواته إلى النصر. ولعل الضعف أيضًا لم يُمكنها من الاستفادة مما قُدِمَ لها في مقابل قُدرَةِ فرانكو على تنظيم قواته والاستفادة من موارده المحلية ما كان حريًا به أن يستفيد من المساعدات الأجنبية بأكثر منهم، الأهم في ملاحظات أورويل، هو أن الضعف لم يكن ماديًا فقط؛ بل كان معنويًا وخلقيًا أيضًا لدى جميع أطراف الحرب داخل معسكر الثورة كما داخل معسكر فرانكو.
آمن أورويل بالثورة ومبادئها وأخلاقها وكان يعيش ذلك في كل لحظاته، حتى في أحلكها، يَحكي كيف أنه خرج ذات صباح لقنص أحد الفاشيين من مسافة قريبة، ولكنه بعد أن رآه يجري وهو يمسك بنطاله بكلتا يديه خوفًا من أن ينزلق فتنكشف عورته، أنف من إطلاق النار عليه، “هذا ليس فاشيًا، من يجري ويمسك بنطاله بيديه ليس فاشيًا، إنما هو مخلوق، مثل سائر المخلوقات أمثالنا، فلا يسرك إطلاق النار عليه”، هكذا قال أورويل.
هذه لحظة تُصور الجو الأخلاقي الذي كان يعيشه أورويل هو ومن معه من المقاتلين من أجل الحرية، أو ما تخيلوه كذلك وقتها، هذه الحساسية لكل ما هو أخلاقي أبرزها أورويل في تعليقاته على الإعلام ودور المثقفين وكيفية التعاطي مع الضحايا والسؤال الأخلاقي المتعلق بالحياد وإمكانه.
دور الإعلام في الحروب معروف وقديم، ولكنه كريه بذات الوقت، اشتكى أورويل من لا أخلاقية ولا مهنية الصحافة ونعى تقلبها الفج والدوري في مواقفها من أطراف الحرب، فمن التهكم الواضح على أمجاد الحرب وعدم المبالاة بالفظائع المرتكبة من قوات فرانكو ونعت الثورة بأنها “جريمة” تحولت إلى التأييد المطلق لحق الجمهوريين في الثورة التي نعتتها بأنها “مجيدة”، هكذا كانوا ينتقلون من تَنبيلِ الثوار إلى تجريمهم بدون نُتفةِ تبرير، كذلك كانت الإنتلجنسيا وطبقة المثقفين الإنجليز الذين أيدوا الحرب “من منازلهم” بدون أن يعرفوا أهوالها ولم يذوقوا مراراتها ولم يتنشقوا رائحة الموت في طرقاتها.
كانت دوافع هذه الطبقة من المُحَرِضين اللامسؤولين هي “الأموال والسلامة الشخصية”، هؤلاء لم يقاتلوا بأنفسهم، لكنهم قَتلوا بأقلامهم، لم يمسك أحد من هؤلاء بندقية، ولم تتعفر رجله في خنادق الصفوف الأولى، ولم يعان من نقص غذاء ولا دواء، كما أن أحدهم، بالتأكيد، لم يفقد عزيزًا أو قريبًا أو يخسر يدًا أو تفقأ له عين.
يشكك أورويل في تاريخ الحروب الذي يشوه بيد الجميع حتى قبل نهاية الحرب، ويعتمده المنتصر بعدها؛ ففي عز الحرب والمعمعة تقرأ عن أحداث لم تحدث وأهوال لم يرها أحد وعن بطولات هي في خيال كاتبها فقط؛ ففي إسبانيا قرأ أورويل عن معارك عظيمة في أماكن لم يجر فيها أي قتال من الأساس، في حين كان الصمت المطبق هو سلوكها تجاه مقتل مئات الجنود في مناطق أخرى، هناك أيضًا قرأ كيف أن هؤلاء المقاتلين الصناديد في الحقيقة تم تصويرهم كجبناء رعاديد في الصحيفة، بينما دُبجت مقالات التمجيد في آخرين لم يطلقوا ولو طلقة واحدة، “هنا كان التاريخ يكتب ليس كما يقع، لكن كما كان يجب أن يقع، بموجب الخطوط الحزبية”.
كان سلوك المتحاربين اللاأخلاقي مفهومًا في سياق الحرب، لكن كيف نفهم لا أخلاقية مؤيدي الطرفين من غير المحاربين؟ هذا ما حار فيه أورويل عندما عبر عن استيائه من كيفية تسييس التعاطف مع الضحايا تبعًا للمواقف السياسية للأشخاص؛ حيث كان تصديق أو تكذيب الفظائع والجرائم المرتكبة من الطرفين بناء على التعاطف السياسي، من جهته، لم ينكر أورويل أن الثوار قد ارتكبوا بعض الفظائع، لكنه يراها صغيرة لا تقارن بما ارتكبه فرانكو، ليست القضية هنا من ارتكب أكبر قدر من الجرائم، القضية هي استبعاد كل مؤيد وإنكاره لأي احتمال لارتكاب جرائم من قبل من يؤيده؛ ففي أثناء الثورة بين 1936 و1939 كان الإنجليز ينكرون أي جرائم لفرانكو وحليفته ألمانيا النازية طمعًا في التحالف معها، لكن مع تحول ألمانيا إلى عداء إنجلترا وقيام الحرب العالمية الثانية ظهرت كل الفظائع التي ارتكبها الألمان مع فرانكو في إسبانيا، في الوقت الذي كانت فيه مُنكرة تمامًا منذ سنوات قليلة فقط.
بعد قرابة نصف عام حافلة غادر أورويل الثورة في منتصف 1937 هاربًا بعد إصابته في عنقه برصاصة مرت إلى جوار شريانه الرئيس ببضعة مليمترات كما أخبره الطبيب وقتها، حينها كانت ميليشيا POUMs التروتسكية التي قاتل فيها قد حُلت من قبل حكومة الشيوعيين في مدريد بعد صراعات على مسار الثورة انتهت بهزيمة الجميع في 1939، رأى أورويل الأهوال والمكائد والاضطهاد وسوء التفاهم من قبل رفقاء الدرب قبل الأعداء، لكنه لم يفقد أبدًا إيمانه بعدالة قضيته وصواب قراره.
هنا يتركنا أورويل أمام أنفسنا وقلوبنا لنقرر في أي جانب نقف ولأي فريق ننحاز، لا يتسامح أورويل مع من يقول بأن “كل جانب هو أسوأ من الآخر؛ لذلك فأنا محايد”، فبنظره “لا يمكن عمليًا أن يظل المرء محايدًا، وليس ثمة حرب لا فرق من ينتصر فيها، فدائما تقريبًا يقف أحد الجانبين إلى صف التقدم، قليلًا أو كثيرًا، ويقف الآخر إلى جانب الرجعية”، هنا يحسم أورويل رأيه بأنه مع الثورة، لا لإمكان انتصارها من عدمه، لكن لما أثارته في نفوس الفاشيين والفاسدين والمستبدين من حقد وكراهية وفزع. هو مع المستقبل إذن، وأنا معه.
نُشر هذا المقال في جزئين على موقع: التقرير