البوندِستاغ، مبنى البرلمان الألماني العريق، والذي كان سابقًا الرايخستاغ، معروف بقبته الزجاجية التي أضفت على عراقته لمسة معمارية حداثية، بيد أن هناك بعض المعالم المثيرة لهذا المبنى التي قد تحتاج ربما إلى التدقيق، أبرزها الجرافيتي المكتوب بالروسية على بعض جدرانه من الداخل، والذي كتبه الجنود الروس بعد اقتحامهم للمبنى ودخولهم برلين عام 1945، وهو العام الذي تلقت فيه ألمانيا النازية الهزائم الواحدة تلو الأخرى لتنتهي فيه الحرب العالمية الثانية ونظام هتلر الفاشي، وتبدأ من بعدها عمليات إعادة البناء، والأهم من ذلك، جلد الذات على ما ارتكبه الفاشيون الألمان باسم ألمانيا، وهي عُقدة ذنب لا تزال مع الألمان حتى اليوم.
يحتفل الألمان كل عام بذكرى هزيمتهم في تلك الحرب، وهو أمر غريب ربما أن يحتفل شعب بهزيمة ساحقة له في حرب عالمية، إلا أن الألمان متفردون في هذه المسألة، فهُم يقدّرون تمامًا الهزيمة التي تعرضوا لها ويعتبرونها عقابًا على السلطة النازية التي كانت تحكمهم آنذاك، ورُغم أنهم ألمان على المستوى القومي، إلا أن عواطفهم تتجه ناحية الجيوش التي هزمتهم نظرًا لوقوفها بوجه ألمانيا النازية، والتي انفصل إدراكهم لذواتهم كألمان عنها تمامًا وكأنها بلد آخر، بل وكأنها العدو نفسه.
يمكن القول أن الألمان هم أول شعب نجح في تجاوز الرؤية القومية لذاته بشكل شبه كامل، رُغم أن تعريف الألماني لنفسه لا يزال تعريفًا قوميًا بحكم التجانس الكبير بين الألمان وعدم وجود أقليات تُذكَر، بالإضافة إلى عدم الحاجة إلى مهاجرين حتى وقت قريب، فالألمان تعدادهم حوالي 80 مليون موزعين على مساحة تبلغ ثُلث مساحة مصر صاحبة نفس التعداد تقريبًا، إلا أنهم على العكس من كافة شعوب أوروبا، قد أزالوا الفكرة القومية العرقية كأساس لتعريف الدولة حتى أن البعض قد اقترح ألا تُكتَب الكلمات الشهيرة الموجودة الآن في مدخل البرلمان، “من أجل الشعوب الألمانية،” وأن تكون من أجل الشعب فقط، إلا أن الكلمات نُقِشَت في نهاية الأمر وباستخدام صيغة الجمع، في إشارة إلى افتراض تعددية الشعوب الألمانية، وأنهم ليسوا شعبًا واحدًا كما يذهب التعريف النازي.
على الرُغم من ذلك، يبدو وأن شبح النازية يحوم هذه الأيام حول ألمانيا، حيث تشهد البلاد تحولات سياسية واجتماعية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، أولها عودتها إلى موقعها المهيمن على أوروبا عن طريق مؤسسات الاتحاد الأوروبي نتيجة قوتها الاقتصادية الهائلة في القارة، وثانيها حاجتها لأول مرة في تاريخها إلى فتح باب الهجرة بسبب تضاؤل نسبة الشباب، وثالثها تلاشي أصوات الأجيال الكبيرة سنًا، والتي عاصرت أيام النازية المريرة، لصالح الأجيال الأصغر التي تشعر الآن بثقة أكبر في التعبير عن هويتها الألمانية دون أن تقع بالضرورة في فخ النازية، غير أن موجة اليمين المتطرف التي تضرب أوروبا قد وصلت على ما يبدو إلى ألمانيا، وبدأت تطال بعض الحركات اليمينية التي تستهدف الآن اللاجئين بهجمات عنصرية، وترفض وجود المسلمين في البلاد، بل وترفع راية النازية صراحة.
من ألمانيا الشرقية
قبل أسابيع قليلة من استقبال مجموعة من اللاجئين في إحدى البنايات بمدينة مايسِن في ولاية ساكسوني الشرقية، وجد إنغولف بروم، مالك المبنى، على الباب الرئيسي ورقة تقول بالألمانية والإنجليزية أن الوافدين الجدد يجب أن يرحلوا من مايسِن في أقرب وقت، ليقوم بالاتصال فورًا بالشرطة للتحقيق في الأمر ومعرفة المجموعة المسؤولة عن هذا التهديد، وهي جهود لم تُتاح لها فرصة على ما يبدو، إذ أكلت النيران المبنى خلال أيام مسببة خسائر بمائتي ألف يورو اضطر معها بروم إلى إحداث تجديدات شاملة.
لم تكن تلك المرة الأولى في ساكسوني، المدينة الواقعة في ألمانيا الشرقية سابقًا، والتي يقول الكثيرون أنها تُعَد معقلًا للنزعات المعادية للمهاجرين واللاجئين، فقد تم الإبلاغ عن العشرات من الجرائم المشابهة التي ارتكبتها المجموعات اليمينية المتطرفة، والتي تتضمن قتل تسعة أتراك خلال العقد المنصرم، وهي مجموعات يرعاها الحزب القومي الديمقراطي الذي تعتبره هيئة حماية الدستور الألماني حزبًا عنصريًا ومعاديًا للسامية ورجعيًا، وهو يحصل على الأصوات رغم ذلك التصنيف من سكان الولاية، وخسر الانتخابات المحلية الماضية بفارق ضئيل.
“هوليجانز ضد السلفية” مجموعة تجمع متعصبي كرة القدم لمواجهة صعود السلفية في ألمانيا
في نفس الولاية، وبمدينة درِسدِن المعروفة، كانت ألمانيا على موعد منذ أشهر مع أكبر تجمع مناهض للمسلمين قامت به حركة بيجيدا PEGIDA، حيث قام المتظاهرون بالتعبير عن قلقهم من تزايد أعداد اللاجئين والمهاجرين بشكل عام، ومن تنامي وجود المسلمين بشكل خاص، والذين يعتبرونهم خطرًا على الغرب الذي يشهد معدلات “أسلمة” مرتفعة هذه الأيام كما يقولون، وقد حمل البعض لافتة ساخرة لصورة المستشارة الألمانية أنغلا مِركِل وهي ترتدي الحجاب تهكمًا على تعاملها المفتوح مع المسلمين.
“المجرمين ليسوا من قاموا بحرق فنادق اللاجئين، بل مسؤولي الحكومة الألمانية الذين بنوها في المقام الأول،” بهذه الكلمات أطلق ستيفان سيمون العنان لهجومه العنصري على سياسات الحكومة واللاجئين، وهو أحد المعروفين بين نشطاء النيو-نازية، وظهر مرارًا وتكرارًا في تظاهرات حركة بيجيدا، ويتكلم في مناسبات عدة عن نهاية ألمانيا المرتقبة على يد السياسات المفتوحة ناحية المهاجرين واللاجئين خاصة المسلمين منهم.
النيو نازية
لا تقتصر الحركات النيو-نازية على معاداة المهاجرين واللاجئين فقط، بل تتجه أيضًا للأقليات التي أراد هتلر والنازيون حرقها يومًا ما، مثل اليهود والغجر وعرقية الـ”روما”، حيث تقوم مجموعات منهم بشن هجمات على الروما منذ أشهر في مدينة هالِه الشرقية، طبقًا لهيئة حماية الدستور، كما قاموا بجرائم طعن وصعق في الشوارع لمن لا يعجبهم من المهاجرين أو غير الألمان.
منادين بحرية التعبير، تطالب تلك المجموعات بالسماح لها بالعمل السياسي والتعبير عن رأيها، بيد أن هناك بالطبع فارق كبير بين التعبير عن الرأي والتحريض، كما يقول كريستيان شنايدر، مسؤول مكافحة التطرف السياسي في إحدى المواقع، مشيرًا إلى تزايد نشاط النيو-نازية على وسائل التواصل الاجتماعي لبث الفزع بين غير الألمان في ألمانيا، “هذه المجموعات الحقيرة من اليهود والمسلمين تستحوذ على بلدنا، ويجب علينا أن تفعل ما بوسعنا لاستعادة ألمانيا ولو تطلب ذلك حمل السلاح، فلنتخلص من هذه الطفيليات!” هكذا كتب أحدهم على مجموعة الفيسبوك الخاصة به دون مواربة.
مسؤول ألماني يُمسِك بعلم ألمانيا النازية بعد أن تحفظت عليه الشرطة من مجموعات نيو-نازية
بين الطبقات الوسطى أيضًا، والذين يُفتَرَض أن يكونوا أكثر تفتحًا وقبولًا للآخر، يبدو وأن اختلاط الخوف مما يجلبه المهاجرون من مخاطر اجتماعية وأمراض مع الميل نحو الأجندة اليمينية قد دفع البعض إلى رفض وجود المهاجرين، كما يقول هويفِلدر صاحب أحد الحانات، والذي تلقى شكاوى من زبائنه بعدم رغبتهم في التبول بحمامات الحانة جنبًا إلى جنب مع أي شخص أسود اللون، أو الاصطدام بهم في المكان المخصص للتدخين، “لقد أصبت بالصدمة من هذه الشكاوي القادمة ممن يفترض أن يكونوا أشخاصًا متعلمين ومن خلفية جيدة،” هكذا يقول هويفِلدر.
على الناحية الأخرى بالطبع، وبين الألمان ممن يرفضون النيو-نازية، بدأ الحراك المضاد، حيث بدأت تظاهرات ترحب بالمهاجرين والمسلمين، وتتوعد أي شخص يحاول جر ألمانيا إلى مستنقع النازية من جديد، وهي آراء لا تزال تعبر عن الغالبية العظمى من الألمان الذين تتجه أصواتهم إما للاتحاد المسيحي الديمقراطي الذي يرعى سياسات الانفتاح الثقافي نسبيًا أو الحزب الديمقراطي الاجتماعي البعيد تمامًا عن أي أجندات يمينية، وهي مجموعة حريصة على أن تجتث جذور الحراك النيو-نازي المتصاعد، وفي نفس الوقت معالجة أي شكاوى حقيقية قد تجذب الناس إليه، وهو ما يخشى البعض أن يأتي يومًا على حساب اللاجئين وحقوقهم أو حرية المهاجرين في التعبير عن ثقافتهم بحرية كضريبة لبقائهم في ألمانيا.