في يونيه سنة 1942 وقف الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يخطب بمناسبة “يوم العلم والاحتفال بتصريح الأمم المتحدة”: “إلهنا يا مانح الحرية، إننا نضع أفئدتنا وأرواحنا اليوم رهن قضية حرية الجنس البشرى كافة، امنحنا اللهم الإيمان والفهم لنحيا ونعتز بالذين يحاربون من أجل الحرية كما لو كانوا إخوة لنا، امنحنا اللهم التآخي في الأمل، والاتحاد، لا في فترة الحرب المريرة فحسب، بل في الأيام المقبلة أيضًا، وهى الأيام التي يجب أن توحد – وسوف توحد – جميع أبناء هذه الأرض، فإذا ما ظلم إخوتنا فنحن كذلك مظلومون، وإذا كانوا جياعًا فنحن كذلك جياع، وإذا كانت الحرية قد انتزعت منهم فإن حريتنا غير مصونة، امنحنا اللهم إيمانًا مشتركًا بأن الانسان سيكون له الخير والسلم، والعدالة والبر، والحرية والأمان، وتساوي الفرص، لا في وطننا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم أيضًا”.
ما أجمل هذا الابتهال، وأعظم هذا الشعور بالإنسانية والإحساس بالآخرين وتمني السلام للجميع، في هذه الذكرى التي تمنت شعوب العالم المكلومة أن تقف هذه المنظمة للظالم والمعتدي لتأخذ الحق منه وترده لصاحبه، واستبشرت البلاد الضعيفة بأن هناك قوة أممية ستحميها من الأقوياء المتربصين بها.
الآن وبعد مضي أكثر من نصف قرن، هل نسي الشعب الأمريكي وإدارته الحالية تاريخهم القريب، وزعمائهم الأوائل؟ أم أن شيئًا قد تغير مع تغير الزمان، وتبدل مع تبدل الأحوال والأشخاص، وأن الخالفين ليسوا كالسابقين، وأن على الشعوب أن تدور حيث تدور مصالحها، وساستها أدراهم بهذه المصالح، وأن لكل زمان عصره ورجاله وقيمه ومبادئه وأخلاقه؟
لقد جرت مياه كثيرة في نهر السياسة الأمريكية، من يوم أن تحمل الأمريكان وإدارتهم العليا على عاتقهم السلام والحرية للإنسانية، والوقوف مع المظلوم ضد الظالم، ومن يوم أن ابتهلوا إلى الله أن يمنحهم الإيمان والفهم ليعتزوا بكل من يحاربون من أجل الحرية كما لو كانوا إخوة لهم.
فلقد أصمت ضربات الحادي عشر من سبتمبر 2001 آذان الإدارة الأمريكية، وغيبت عقولهم كما تغيب الخمر عقول شاربيها ، فلاح في الأفق شبح العدو الجديد المسمى “الإرهاب” فلاحت إليه عيونهم؛ ليكون الحرب عليه عنوان المرحلة، فأطل الرئيس الأمريكي جورج بوش في 29 يناير 2002 على شعبه المصدوم نفسيًا من تلك الهجمات، ليخطب حول حال الاتحاد المكلف باستئصال هذا الورم الخبيث، وأشار وقتها بشكل أحادي إلى بلدان محور الشر الثلاث “إيران، العراق، وكوريا الشمالية” مع استحالة الشك في أن تكون إحدى هذه الدول الثلاث تورطت في الاعتداءات، “هل لازالت إيران بعد الاتفاق مع الغرب حول برنامجها النووي في محور الشر”؟
ووقتها أعلن “بوش” محاربة انتشار أسلحة الدمار الشامل، وفي الوقت المناسب لتمرير ذاك التقسيم لدول العالم في مواجهة هذه الحرب الكونية “من ليس معنا فهو ضدنا”.
كان المسرح الداخلي والخارجي مهيآن لإنتاج وظهور هذا العدو الجديد المصطنع، والذي وُجد من عدم، فوُجد الخطر على الشعب الأمريكي، ومصالحه، وبزواله يزول الخطر، ويعم الأمن والأمان، هكذا فهم الأمريكان، حتى تبارك أكبر الديمقراطيات في العالم شرعية المواجهة، وما يترتب عليها من انتهاكات ترفضها الأعراف والقيم الديمقراطية التي آمنت بها دهورًا طويلة، وعلي الشعب العريق أن يغمض عينيه قليلًا عما تصاحبه هذه الحروب من تجاوزات لم يتعود الشعب أن يمررها أو يقبل تبريرها.
ومن أجل إخراج هذا العدو الجديد في الهيئة التي يريدون والصورة التي يرغبون، فعليهم أن يُخفوه ويجعلوه غير واضح أو مرئي للعيان، كأنه شبح يطول الوقت للإمساك والإيقاع به، فظهر العدو باسم “الإرهاب “أو “الإرهابي” وإذا ما سألت عن مواصفات هذا الإرهاب أو من هو ذاك الإرهابي لم ولن تجد جوابًا يشفى غليلك ويهدأ من روعك، ورفضوا وصفه بالعدو ليحارب بكل الوسائل، وفي كل الأماكن على سطح هذا الكوكب، ومن كل الأحلاف والأطراف الواقفة في طابور هذا الحلف الطويل، و”لتفادي حالة الحرب، هناك العديد من تقنيات النأي بالنفس: نتكلم عن “حوادث” حرب الجزائر، وعلى “إحلال السلام” و”حروب اجتثاث الاستعمار” وعلى “إجراءات للشرطة”، وعلى “مكافحة الإرهاب””أفغانستان”، وكذلك على “عمل استباقي” في العراق، وهذه الأعمال الحربية موجهة لمجابهة خطر ما، والحيلولة دون زعزعة الاستقرار وتهديد السلام والدفاع عن مصالح ما وتأمين حرية المرور وحماية الرعايا، لكن هذه التقنيات تفقد العدو هويته القانونية؛ إذ يصبح “ثائرًا “، و”إرهابيًا” و”متطرفًا” و” مثيرًا للقلائل”، وتضعه كل هذه الصفات في وضع الحد الأدنى للحقوق، كما يقول بيار كونيسا في صنع العدو.
فلما نسوا ما ذكروا به من أسلافهم، ورانت على أبصارهم غشاوة ، رأينا أفعالًا تقشعر منها الأبدان في أبو غريب، وجوانتانامو، وعمليات الخطف والإخفاء القسري من قِبل وكالة الاستخبارات الأمريكية، وظهرت السجون السرية في بعض البلدان الحليفة، وسمعنا عن عمليات التعذيب بالوكالة، والاستخدام المفرط في التعذيب لاستخراج المعلومات من المشتبه بهم، ودمرت الانتهاكات المختلفة لحقوق الإنسان التي كانت إدارة بوش مسؤولة عنها، بفظاظة، الضمانات القانونية التي كان بإمكان الأجانب الاستفادة منها، وفى المقابل، استفاد المواطنون الأمريكيون “التائهون” مثل الشاب جون والكرليند، الطالباني الأمريكي الذي تم توقيفه في أفغانستان عام 2002، من حق المثول أمام المحكمة في الولايات المتحدة، كما يقول كونيسا.
وأستطيع الآن أن أجهر بأن الشعارات التي نطق بها الرئيس روزفلت في العام 1942، وهذا الشعور الإنساني النبيل تجاه الإنسانية، قد تبدل وتغير بالكامل، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تسمع وترى الانتهاكات الرهيبة من بلدان العالم المستضعفة ولم تعيرها أي انتباه، أو تحرك ساكنًا من أجلها مالم تتعارض هذه الانتهاكات مع مصالحها العليا.
ولنا أن نتساءل هل من الممكن أن تتحرك الولايات المتحدة من أجل شعوب مكلومة انقلب عليها حكامها لاغتصاب السلطة بقوة الدبابة، وجثموا على جثث شعوبهم لسنوات، وعاشوا على أطلالها، وهى راضية عنهم وداعمة لهم وغاضة الطرف عن انتهاكاتهم؟ وهل تحركها الإنسانية المراقة من القتل والسحل والاغتصاب والتشريد وإهلاك الحرث والنسل وذبح الأطفال وبقر بطون الحوامل ولجوء الملايين هربًا من الموت لبلدان مجاورة ليموتوا من البرد هناك؟
هل لها أن تفعل ذلك بعدما تلطخت يداها في العراق مخلفة ملايين القتلى والجرحى والأيتام والأرامل والمشردين، والقضاء على البنية التحتية للعراق، وكذلك بنيته العسكرية والاقتصادية والثقافية والحضارية والعلمية والديمغرافية، وتمكين طوائف دينية من السيطرة عليه، وتذكية حرب أهلية لا تبقي ولا تزر، وتسليم البلد الجريح لصياد جائع – إيران – متربص به منذ سنين.
وكما في العراق، كان في أفغانستان وغيرها، ولا أرى فرقًا بين من انتهك أو سكت عن الانتهاك.
وحين تمنت الشعوب المستضعفة من الأمريكيين أن يتحركوا بعد ذلك لنجدتها، حتى من باب تكفير الذنوب؛ فلم يجدوا إلا الصمت عن أبشع المجازر، والإبادة الجماعية بحق الشعب السوري، سكتوا حيث ينبغي الكلام عن إلقاء البراميل المتفجرة يوميًا على رؤوس الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين داخل بيوتهم، حتى سكتوا عن القتل بالأسلحة النووية، والتي أثبتتها بعثتهم لتقصي الحقائق، سكتوا كل هذه السنون عن قتل مئات الآلاف من السوريين، وعن ملايين المشردين في بلاد الجوار بلا مأوى، ولا أمل في حق العودة الآمن لبيوتهم التي تساوت بالأرض، فاندثرت معها أحلامهم.
ولما تكلموا خرج على استحياء الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون في مقابلة مع شبكة سي. إن. إن التلفزيونية الأمريكية في عام 2012 ليقول “إنه يفهم موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي رفضت إدارته أي تدخل عسكري أمريكي لوقف إراقة الدماء المستمرة في سوريا”، مشيرًا إلى أن الموقف في سوريا مشابه للموقف الذي واجهه حين اندلع العنف في يوغسلافيا السابقة، وقال: “نحن الآن فيما يتعلق بسوريا في نفس الموقف الذي واجهته مع البوسنة عامي 1993 و1994، لقد استغرق الأمر عامين”.
وقد مرت على مأساة الإبادة الجماعية في سوريا وغيرها أكثر من عامين؛ إذا أراد الأمريكان الوقت لإقناع الحلفاء بالتدخل لإنهاء ووقف هذه الانتهاكات، أنا أرفض تمامًا التدخل العسكري في سوريا وغيرها من بلاد العرب، ولكن ما دون ذلك مطلوب وهو كثير.
لقد استطاع الرئيس الأمريكي بيل كلنتون إقناع إدارته وحلفائه بضرورة التدخل لوقف المذابح البشعة بحق البوسنة، فبعد 34 طلعة جوية قامت بها قوات الأطلسي في 78 يومًا من الهجمات المكثفة على مواقع الصرب، حتى استسلم سلوبودان ميلوسيفيتش في الثالث من يونيه 1999.
فإذا تشابهت المقدمات في البوسنة وسوريا، على حد فهمنا من تصريح كلينتون، فلماذا لم تتشابه النتائج من الوقوف في وجه بشار الأسد، كما وقفوا في وجه ميلوسيفيتش؟ – كان تدخل حلف الأطلسي بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات، يرى فيها العالم هول ما يعانيه أهل البوسنة من فظائع القتل والتهجير، والإبادة الجماعية -.
تجيب على تساؤلنا سامنتا باور، والتي كتبت تحت عنوان “التدخل الأمريكي في البلقان .. لم يكن لأسباب إنسانية خالصة” ونقلتها جريدة الرياض العدد 12663 بتاريخ الثاني والعشرين من فبراير 2003: إن تدخل حلف الأطلسي لم يكن على أساس إنساني خالص، المذابح التي قام بها الصرب أثارت بالطبع سخط العالم وقادته إلى تدخل حلف الأطلسي، لكن عملية قوة التحالف لم تكن قد وقعت بدون التهديد القوي لمصالح الولايات المتحدة التقليدية، وفي أول يوم للتدخل العسكري بواسطة قوات حلف الأطلسي، تحدث كلينتون من مكتبه بالبيت الأبيض، وقد أعاد إلى ذاكرة الذين استمعوا له المذابح التي قام بها النازيون ضد ملايين المدنيين الأبرياء، فقال: ماذا كان يمكن أن يحدث إذا كان أحد قد استمع إلى ونستون تشرشل، ووقف في وجه أدولف هتلر من البداية، وواصل كلينتون كلامه: تصوروا إذا كان القادة في الماضي قاموا بعمل حكيم في البداية، كم عدد القتلى الضحايا الذين كان يمكن إنقاذهم وكم عدد الأمريكيين الذين كان من الممكن ألا يموتوا؟
وقد عرض كلينتون على الشعب الأمريكي المخاطر التي يخشى منها البعض على المصالح الأمريكية، فقال: “هل مصالحنا في كوسوفا تبرر المخاطر التي من الممكن أن تواجه جنودنا؟ ثم جاء رده على السؤال الذي طرحه، فقال: “لقد فكرت طويلًا وبعمق في هذا السؤال، وقد اقتنعت تمامًا بأن مخاطر تدخلنا ترجع وتفوق في الأهمية على مخاطر عدم تدخلنا، مخاطر الدفاع عمن لا يملكون الدفاع عن أنفسهم وعن مصالحنا القومية، ومعارك الصرب، الألبان من الممكن أن تجر الولايات المتحدة إلى حرب طويلة واسعة، ولنا مصلحة بالطبع في تجنب حربًا قاسية شعواء باهظة التكاليف ولكن أطفالنا يحتاجون ويستحقون أوروبا حرة مستقرة تعيش في سلام”.
هل يستطيع الرئيس باراك أوباما أن يقنع إدارته وحلفائه بضرورة وقف الإبادة الجماعية بحق الشعب السوري الأعزل؟ وهل من الممكن سرعة التحرك من أجل الإنسان الذي تنتهك حرماته ليلًا ونهارًا؟ أو من أجل النساء والأطفال التي تهدم منازلهم على رؤوسهم؟ وهل آن الأوان أن يكتبوا الفصل الأخير لهذه المأساة – مأساة القرن – الحزينة؟
وهل لقيم الحرية والديمقراطية والإنسانية وحق العيش الكريم للشعوب، والتي ناضلوا من أجلها أن تتحرك فيهم، فتحركهم لوقف العنف في العراق، وإعادة الشرعية في مصر واليمن، تلك الشرعية المغتصبة بقوة السلاح والدبابة في البلدين؟ هل لهذه القيم أن توقظهم من سباتهم، لكبح جماح إيران الاستعمارية من الهيمنة على الشعوب العربية ودول الجوار؟ وهل ستسمعهم هذه القيم صرخات الإنسان المعذب والمعتقل والمسجون بلا جريرة أو ذنب، إلا أن لديهم حلم للحرية التي حلم بها مارتن لوثر كنج في صرخته الشهيرة الخالدة “لدي حلم” لديّ حلمٌ اليوم، لديّ حلمٌ بأنه في يومٍ من الأيام سوف يُرفع كلُّ وادٍ، وتُخفضُ كلُّ الجبال والتلال، وتُسوّى الأراضي غير المستوية، وتُقوّمُ الطرق المعوجّة، ويظهر مجد الرب حيث يراه كل البشر معًا.
هذا هو أملنا، هذا هو الإيمان الذي به أعودُ إلى الجنوب، بهذا الإيمان سوف نستطيع أن نشقّ جبل اليأس بحجرٍ من الأمل، بهذا الإيمان سوف نستطيع أن نحوّل النشاز المزعج في دولتنا إلى سيمفونيةِ أخوّةٍ جميلة، بهذا الإيمان سنستطيع أن نعمل معًا، ونصلي معًا، ونكافح معًا، ونُسجن معًا، ونقف للحريةِ معًا مؤمنين بأننا يومًا سنكون أحرارًا.
تنويه: ليسمح لنا أستاذنا الدكتور عبد الستار قاسم أن أستلهم منه العنوان بعد أن كتب “محنة العرب”.