يبدو أن تفجير سوروج، الذي وقع في مدينة أورفا في 20 يوليو 2015، كان نقطة فارقة فيما يتعلق باتخاذ قرار التدخل العسكري التركي الذي كان يُبحث في أروقة صناع القرار الأتراك في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي قالت الحكومة التركية إنه يقف خلف التفجير الذي أودى بحياة أكثر من 30 شخصًا، والذي قام به مواطن تركي ينتمي للتنظيم.
وفيما كان يدعو إلى هذا الخيار العسكري ضد داعش عدد من الكتاب والباحثين منذ وقت ليس بالقصير، لم يكن أحد يتوقع أن تفتح الحكومة التركية النار على عدة جبهات؛ من بينها جبهة حزب العمال الكردستاني ومواقعه في جبال قنديل، وكذلك الحال في الوحدات العسكرية لنظيره في سوريا، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، إضافة لحملة داخلية ضد جبهة التحرر الشعبي الثوري، والتي اغتالت المدعي العام التركي سليم كيراز في إسطنبول في نهاية مارس 2015، وضد مشتبه بهم بالتعاون مع كل هؤلاء في الداخل التركي.
وإن دل هذا العمل المتعدد الأهداف على شيء فإنه يدل على أن الحكومة التركية كانت مستعدة لهذا السيناريو، وقد كان للتفجير في سوروج دورًا كبيرًا في تفعيل هذا المخطط، وكان لعامل التوقيت دور مهم في تسريع اتخاذ القرار، فقد تجمعت وتزامنت مع التفجير عدة نقاط من ضمنها:
– تركيا تريد التأسيس لمواجهة شاملة مع كافة أعدائها، ولا تريد أن تعطى الفرصة لأحدهم أن يملأ الفراغات التي يتركها الآخر في مختلف الساحات الداخلية والخارجية.
– عدم تحمل تركيا للدور الذي تقوم به داعش، خاصة مهاجمتها للثوار وسيطرتها على مدن محاذية للحدود التركية ثم انسحابها أمام القوات الكردية، مثلما حصل في عين العرب كوباني وتل أبيض ومدن وقرى أخرى.
– تزايد الحديث عن إنشاء كيان كردي في سوريا والذي تعارضه أنقرة بشدة، وتشعر أن جهات دولية تسعى لفرضه.
– حرص تركيا على إثبات عدم وجود علاقات لها مع تنظيم داعش خاصة مع الحملات المنظمة ضدها في الإعلام الغربي.
– استغلال حزب العمال الكردستاني لعملية السلام ولعبه دور في الانتخابات البرلمانية السابقة، سواء من خلال التهديدات التي قام بها شرق تركيا أو من خلال علاقاته مع حزب الشعوب الديمقراطية.
– الاستفادة من الفرصة الزمانية القائمة، خاصة مع تقدم السعودية في اليمن، وبعد الاتفاق النووي مع إيران، والذي يتوقع أن يطلق يد إيران بشكل أكبر في المنطقة.
– الوضع السياسي الداخلي، ووجود اعتقاد بأن هذا القرار سيكون له انعكاسات جيدة على الرأي العام التركي وخياراته المستقبلية.
– إرسال رسالة لجميع الأطراف أن تركيا الحريصة قدر الاستطاعة على تجنب الخيار العسكري يمكنها أيضًا تفعيله متى رأت الحاجة إليه قائمة.
في هذا السياق أيضًا وإضافة لما سبق، فقد طفا إلى السطح، مباشرة بعد اتصال الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتعزية الرئيس التركي أردوغان بضحايا تفجير سوروج، الحديث عن توافق تركي أمريكي لمواجهة تنظيم الدولة، بعد أن كانت تركيا تشترط مواجهة الأسد ضمن إستراتيجية شاملة وكانت تعد مواجهة داعش دون الأسد خطئًا إستراتيجيًا، وهذا ربما يفسر قيامها بمواجهة حزب العمال الكردستاني وحلفائه في سوريا، ضمن خطة لمواجهة ما تسميه كافة تشكيلات الإرهاب، والتي لم يبق إلا الأسد لم تواجهه بشكل مباشر بعد، ورضيت بمنطقة آمنة محددة في شمال سوريا كحد أدنى في هذا الإطار، فهل تكون تركيا قد حصلت على ضوء أخضر من واشنطن لتوسيع العملية لتشمل الأسد مستقبلًا، أو على الأقل فتحت الموضوع أمام النقاش بعد أن كانت قد رفضته، أم أن هذا أقصى ما استطاعت الحصول عليه في ظروفها الحالية، ويبدو أن الأخير هو الأقرب للمنطق بعد مفاوضات طويلة.
يبقى أن نشير إلى أن اللقاءات الأمريكية لم تتوقف منذ إعلان واشنطن التحالف ضد تنظيم الدولة، مرورًا بزيارات جو بايدن، ووصولًا إلى مفاوضات الجنرال جون ألين؛ الذي يُتوقع أنها من غيرت الموقف التركي بعد أن كان ثابتًا لوقت طويل.
وقد أعلنت تركيا، مع تصريح رئيس وزرائها أنها لن تتدخل بريًا في سوريا، أنها حصلت على موافقة واشنطن بإنشاء منطقة محددة بعرض 90 كيلومترًا وبعمق 50:40 كيلومترًا داخل سوريا، وتحديدًا بين جرابلس ومارع، ستكون خالية من داعش وستكون نقطة انطلاق للمقاومة السورية، وهي نقطة اعتبرتها مهمة في الصراع مع الأسد، ومن جهة أخرى تعد هذه المنطقة عامل إفشال لكيان كردي، وربما هذا أرضى حكومة حزب العدالة والتنمية التي يبدو أنها قررت تخفيف حدة المواجهة مع واشنطن، والسماح لها باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية في الوقت الذي تعيش فيه حالة من عدم القدرة على تشكيل الحكومة؛ في ظل رفض كافة الاحزاب المشاركة في البرلمان ووضعها شروط وعقبات أمام ذلك، ويشار هنا أن تركيا وضعت شروطًا لم تعلن عنها حتى الآن بخصوص استخدام قاعدة إنجرليك.
يبدو أن الحكومة قد خالفت التوقعات التي رأت أنها لن تقدم على اتخاذ قرارات حاسمة وقوية في هذا الوقت المترنح بين حكومة ائتلاف محكوم بفشلها عاجلًا أم آجلًا، أو انتخابات مبكرة مجهول مصيرها، فهل يساهم هذا القرار في تحسين الأوضاع الأمنية والسياسية لتركيا، أم أن الدولة التي لطالما عملت على تجنب الهزات الارتدادية للربيع العربي بدأت بنفسها مسارًا ومرحلة جديدة في ظل تحديات كبيرة، منها حدودها الطويلة مع سوريا والعراق والأعداد الهائلة من الجنسيات المختلفة من المتواجدين على أراضيها.
ويُضاف لكل ما سبق تساؤل آخر، فمع أن العملية العسكرية التركية مازالت محدودة، وهو ما قد يجادل به البعض بأن الأمر ليس مصيريًا وحاسمًا بالدرجة التي تصورها بعض وسائل الإعلام التركية، إلا أن تركيا قد فتحت الباب بنفسها بعد وقت طويل من الطرق الأمريكي لهذا الباب، فهل أعدت تركيا نفسها لسيناريوهات الاستمرار والتراجع منها أو عنها؟