مثلت حادثة منع رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، من التحصل على أرشيف قصر قرطاج يوم 26 ديسمبر/كانون الأول، أولى المؤشرات للصعوبات التي ستواجه مسار العدالة الإنتقالية في ظل المشهد السياسي الذي أفرزته الانتخابات الثانية بعد الثورة في تونس.
وقد أثار مشروع القانون الذي قدمه الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، بخصوص عقد “مصالحة اقتصادية” مع رجال الأعمال المورطين في الفساد خلال فترة حكم النظام السبق، جدلا واسعا بين من اعتبره ضرورة لإنقاذ الإقتصاد الذي لم يتعافى بعد، وبين من اعتبره عملية تبييض مقننة لمن أجرموا في حق البلاد ومُقدّراتها.
وفي السياق ذاته، صادقت لجنة المالية والتنمية والتخطيط بمجلس نواب الشعب، الاثنين، على مشروع القانون المتعلق برسملة كل من الشركة التونسية للبنك وبنك الاسكان (تمشي بنكي يقضي بضخ سيولة للبنكين العموميين لإنقاذهما من الإفلاس)، وهو ما أثار جدلا آخر باعتبار أن عملية الرسملة هذه والتي ستستهدف تدريجيا البنوك العمومية الثلاث ستحتاج حسب التقديرات الأولية إلى مليار دولار ستدفع من ميزانية الدولة.
قانون “المصالحة” يُنهي ضمنيا مسار العدالة الإنتقالية
وقد اعتبرت هيئة الحقيقة والكرامة، وهي الهيئة المُكلفة حسب الدستور التونسي بتفعيل مسار العدالة الانتقالية، في بيان لها، أن مشروع “المصالحة الاقتصادية” يُفرغ منظومة العدالة الانتقالية من محتواها ويؤدي إلى التخلي عن أهم آلياتها في كشف الحقيقة والمساءلة وإصلاح المؤسسات، خاصة وأنه سيفتح الباب أمام تكريس ثقافة الإفلات من العقاب التي أوصلت تونس لما وصلت إليه قبل الثورة.
ويقضي مشروع القانون الذي تقدم به السبسي بإيقاف التتبع أو المحاكمة وتنفيذ العقوبات في حق الموظفين العموميين وأشباههم من أجل الفساد المالي، باستثناء من تعلقت بهم قضايا في الرشوة والاستيلاء على الأموال العمومية، كما أقر إمكانية إبرام الصلح لكل شخص حصلت له منفعة من الفساد المالي وعفوا عن تراتيب الصرف مقابل إعادة المداخيل والمحاصيل والمكاسب من العملات إلى تونس.
ومن الملفت للإنتباه؛ أن هذا القانون الذي يدخل في نطاق العدالة الإنتقالية تم إعداده دون استشارة ولا تشريك الهيئة المعنية بهذا الملف، كما أن اللجنة التي تحدث عنها القانون والتي ستنظر في “ملفات الصلح” هي لجنة مُعيّنة من رئاسة الجمهورية ولن تكون مُنتخبة ولا مُستقلة وهو ما يتعارض مع مبدئ الشفافية الذي يجب أن تتحلى به مثل هذه الهيئات، وهو ما من شأنه أن يمس من صورة تونس من حيث مؤشرات الفساد التي تصدرها مختلف المؤسسات الدولية والتي ستنعكس بالضرورة على جاذبية الإستثمار في البلاد.
وبالإضافة للجدل الذي أُثير حول دستورية مشروع القانون باعتبار أنه يسحب من هيئة دستورية بعض صلاحياتها، اعتبر جزء هام من الطيف السياسي والحقوقي عزم الرئيس التونسي المُضي في هذه المُصالحة اعتداء على حقوق الشعب التونسي معتبرين أن المحاسبة يجب أن تسبق المصالحة.
وفي هذا السياق، أطلق حزب التيار الديمقراطي، وهو حزب معارض، على صفحته الرسمية في “فيسبوك” حملة بعنوان ” كي نتحاسبوا تو نتصالحوا” مُطالبا الأطراف المعنية بضرورة محاسبة كل المتورطين في الفساد قبل الدخول في مصالحة معهم، معتبرا تأجيل المعركة مع الفساد قد يكون مكلفا جدا لتونس.
كما أصدرت تسع جمعيات بارزة بيانا مشتركا عبرت فيه عن رفضها لمشروع قانون المصالحة الذي اقترحه الرئيس التونسي، معتبرة أنه يتناقض مع الدستور الذي يلزم الدولة التونسية بتطبيق مسار منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها “ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة والعقاب بمرور الزمن”.
رسملة البنوك تغطية عن سرقات سابقة
ولم تكن ردود الأفعال لتختلف حول موضوع تمويل البنوك العمومية التي تتجه نحو الإفلاس بعد عجزها عن استرجاع أموال أقرضتها على مدى أكثر من 20 سنة، فرغم تأكيد وزير المالية التونسي، سليم شاكر، على أن حرص الحكومة على مساندة البنوك يعود لدورها الهام في بناء الإقتصاد الوطني، وفق تعبيره، اُعتبر هذا المشروع، الذي انطلق الحديث حولها إثر الثورة مباشرة، محاولة تغطية على التمويلات التي تحصل عليها رجال الأعمال دون إرجاعها من خلال تعويض خسائر البنوك من ميزانية الدولة، أي من جيب دافع الضريبة.
وقد تم رصد 757 مليون دينار م د لفائدة الشركة التونسية للبنك و110 م د لفائدة بنك الاسكان، وسط تعالي أصوات تنادي ببحث أسباب هذا العجز وتحميل المسؤوليات قبل مواراته بتمويل حكومي خلال ظرف اقتصادي واجتماعي صعب.
من جهتها، أطلقت منظمة I watch حملة مناهضة لهذا التمشي تمحور حول ضرورة استرجاع هذه البنوك لأموالها من الأطراف التي دفعتها نحو العجز، كما بادرت بنشر صور أبرز رجال الأعمال الذي اقترضوا أموالا طائلة من هذه البنوك دون استرجاعها، وفق مصادرها.
اقترضت تونس من الإتحاد الأوروبي ما يعادل القروض التي تحصل عليها 126 رجل أعمال من البنوك العمومية دون إرجاعها pic.twitter.com/Org2rsMWkX
— I WATCH Organization (@IWatchTN) July 24, 2015
علاش تتسلف فلوس الناس…و فلوسك عند الناس
القائمة مازلت طويلة…#رجع_الفلوس #TnARP #TnGov #Tunisia pic.twitter.com/PipX4Asuyx— I WATCH Organization (@IWatchTN) July 26, 2015
لا لرأسمالة البنوك العمومية بدون الإطلاع على نتائج التدقيق !
القائمة مازلت طويلة…
#رجع_الفلوس #TnPR #TnARP #TnGov pic.twitter.com/4aVtnSkK2r— I WATCH Organization (@IWatchTN) July 27, 2015
ورغم أن الأهداف المعلنة لكلا التمشيين، مشروع قانون المصالحة ورسملة البنوك العمومية، تمحورت حول إنعاش الإقتصاد الراكد، إلا أن عديد الأصوات الناقدة اعتبرت أن الحزب الحاكم ، نداء تونس، يبتغي بهذه الإجراءات رد الجميل لرؤوس الأموال الذي دعمته خلال الحملة الإنتخابية الماضية.
كيف أجرت جنوب إفريقيا مصالحتها الإقتصادية؟
وبالرجوع إلى تجارب دول أخرى مرت بمسار للعدالة الإنتقالية في جانبها الإقتصادي، يجلب انتباهنا النموذج الجنوب الإفريقي الذي يُعد أحد أهم التجارب في السنوات الأخيرة، رغم الإختلاف الحاصل في تقييمها.
كرس نيلسون مانديلا جهده أولا للمصالحة وخلق هوية وطنية جديدة لجنوب أفريقيا، تاركا مسؤولية الاقتصاد إلى وزير ومحافظ البنك المركزي من البيض قبل تكليف ثابو مبيكي، وبدأت حكومة الوحدة الوطنية، في عام 1994، في تنفيذ “برنامج التعمير والتنمية” لمكافحة الآثار الاجتماعية والاقتصادية للفصل العنصري، مثل الفقر ونقص عام في الخدمات الاجتماعية.
وقد بُنيت أكثر من مليون ومئة ألف منزل بتكلفة منخفضة يمكن الحصول عليها بمساعدة حكومية، لإسكان خمسة ملايين جنوب أفريقي من أصل اثني عشر مليون ونصف المليون يعانون من إيواء سيئ، بين عامي 1994 وأوائل عام 2001، وفقا لحكومة جنوب أفريقيا.
كما حصل 4.9 مليون شخص، يعيش معظمهم في أكواخ تقليدية، على مياه شرب صالحة للشرب وتم ربط 1.75 مليون مسكن بشبكة الكهرباء، وارتفع نسبة الأسر الريفية المزودة بالطاقة 12 من 42٪، بين عامي 1994 و 2000. وبحسب الأرقام الرسمية، استفادت 39 ألف أسرة من برنامج الإصلاح الزراعي بتقاسم 3550 كيلومترا مربعا، بالإضافة إلى عديد الإجراءات الأخرى أهمها توفير فرص عمل ل 240 ألف شخص خلال خمس سنوات.
كل هذه الإجراءات ساهم فيها بارونات المال الذين ثار عليهم الشعب الجنوب الإفريقي، وكانت مفتاحا لتحقيق المُصالحة التي لا يُمكن أن تتحقق وسط شعور بالضيم.
المُصالحة هي حجر أساس في تحقيق تنمية الشعوب والأوطان التي تعرضت لثورات كالتي عاشتها تونس، وبالنظر للتمشي الذي يعزم النظام الحاكم اتخاذه لطي صفحة بعض الملفات الثقيلة في البلاد، يبدو أن هنالك غياب للوعي بأن ذاكرة الشعوب المُضطهدة غير مثقوبة، وأن الشعور بالظلم الذي كان يُنتظر من التغيير السياسي أن يُعالجه لا يُمكن أن يُمحى بمثل هذه الإجراءات .
نجحت المُصالحة جزئيا في جنوب أفريقيا لأنها قدمت ما يشبه التعويض عن سنوات الظلم، ويبدو أنها سائرة للفشل المحتوم إزاء شعور بالسخرية خاصة مع مشروع رسملة البنوك التي أفلسها الفاسدون، لتُنعش بأموال التونسيين.