في 1994، نشر أوليفييه روي، عالم السياسة الفرنسي البارز، كتابا لافتا للانتباه تحت عنوان “فشل الإسلام السياسي”. ولم يلبث الكتاب، سيما في نسخته الإنكليزية، أن أثار جدلا واسعا في دوائر صناع السياسة ودارسي الإسلام الحديث والشرق الأوسط، سواء في المحافل الأكاديمية أو مراكز البحث. وضع روي عمله على خلفية من فشل التنظيمات الجهادية الأفغانية في إقامة بديل مقنع لنظام الحكم الشيوعي الموالي لموسكو، وتحول أفغانستان إلى ساحة للحرب الأهلية وبارونات المخدرات والعصابات من المجاهدين السابقين؛ وعلى خلفية من انهيار التجربة الديمقراطية القصيرة في الجزائر ودخول البلاد حقبة عنف أهلي غير مسبوقة؛ وعلى خلفية من انفجار العنف الإسلامي المسلح في مصر.
اليوم، وبالرغم من أن السياق مختلف قليلا، وفي ظل تراجع حظوظ حركة النهضة الانتخابية في تونس، والإجهاض العسكري للتجربة الديمقراطية في مصر وإطاحة الرئيس الإسلامي المنتخب، وسياسة الملاحقة شبه القانونية التي يتعهدها النظام في الأردن ضد الإخوان المسلمين، وتعثر عملية الانتقال الديمقراطي في اليمن وتحولها إلى ساحة صراع إقليمي، يعود السؤال من جديد حول ما إن كنا نشهد نهاية الإسلام السياسي في مهده العربي.
كان الإسلاميون أكبر المستفيدين من حركة الثورة العربية والتغيير الديمقراطي؛ وبنجاح حركة الثورة المضادة في تقويض العملية الديمقراطية وتحويل الإسلاميين من قوة حكم إلى جماعات مطاردة، بين المعتقلات والمنافي، ليس من الغريب أن تبرز توقعات “نهاية الإسلاميين” من جديد.
نشر كتاب روي بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب الباردة وانهيار جدار برلين، وفي سياق غربي من الانتصار وما إن كان هذا هو الانتصار النهائي للرأسمالية الليبرالية و”نهاية التاريخ”. ولكن المدهش، بالرغم من الانتصار الغربي الكبير، أن جدلا من نوع آخر ولد على هامش انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية، جدل ما إن كان العدو المقبل للكتلة الغربية سيكون الإسلام أو الصين، أو قوة أخرى غير محددة بعد.
أولئك الذين بشروا بأن الإسلام هو العدو المقبل، وأن “تخوم الإسلام كانت دائما دموية”، وأن الإسلاميين كلهم صنف واحد، نظروا إلى كتاب روي بشيء من عدم الاكتراث. أما أولئك الذين اعتقدوا دائما أن الإسلام السياسي ظاهرة إيجابية وأنه القوة الوحيدة القادرة على الوقوف أمام الأنظمة الفاسدة والتوتاليتارية في العالم الإسلامي، فقد ولد الكتاب لديهم شيئا من الارتباك. في كلا الحالتين، لم تجر محاولة تحليل ونقد صارمة للأسس التي قامت عليها أطروحة روي، وجرى التعامل مع الكتاب من زاوية السياسي الراهن، وما إن كان ثمة دلالة لمقولة “فشل الإسلام السياسي” على السياسة المتبعة تجاه هذه الدولة أو تلك من دول العالم الإسلامي، سيما دول الشرق الأوسط.
المهم، أنه لم تكد تمضي سنوات قليلة على نشر كتاب روي حتى نسي العالم أطروحة “فشل الإسلام السياسي”، ولم تعد محل أي مستوى لافت من النقاش.
انتهت حرب تنظيمات الجهاد الأفغاني الأهلية بالصعود السريع والمدهش لطالبان ونجاحها في توحيد البلاد؛ حصل حزب العدالة والتنمية التركي، ذو الجذور الإسلامية، على أغلبية ساحقة في برلمان 2002، بعد عام واحد فقط من تأسيسه؛ توقف العنف في مصر، وكاد الإخوان المسلمون أن يحققوا فوزا كبيرا في انتخابات 2005 البرلمانية لولا إجراءات القمع وتزييف الأصوات الصارخة في المرحلتين الثانية والثالثة من الانتخابات؛ وفازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثانية في 2006.
وما كادت رياح حركة الثورة العربية تجتاح المجال العربي حتى اتضح أن ليس ثمة قوة سياسية تقف في مواجهة مؤسسة الدولة وأحزابها سوى التيار الإسلامي. فأين كانت المشكلة في تقديرات منتصف التسعينات، وأين هي اليوم؟
ينظر عادة إلى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر في 1928، ودخولها الساحة السياسية بعد ذلك بعشر سنوات، باعتبارها لحظة ولادة التيار الإسلامي السياسي. ويشار إلى أن بروز الإخوان المسلمين جاء على خلفية من سقوط الخلافة، مظاهر التغريب الواسعة في المدن المصرية، وعقد مؤتمر للمبشرين في مصر. بمعنى أن ولادة الإخوان كانت تعبيرا عن شعور التهديد للدين والهوية الذي أخذ في التصاعد بين صفوف المسلمين.
الحقيقة، بالطبع، أن هذه الأسباب الآنية والخاصة بالسياق المصري في العشرينات لا يمكن أن تفسر انتشار جماعات الإسلام السياسي السريع في مختلف البلاد العربية وغير العربية، ولا بقاء التيار الإسلامي وصعوده المثير حتى بعد ما يقارب تسعين عاما على لحظة الولادة واختفاء الأسباب التي أحاطت بهذه الولادة. ثمة ما هو أبعد وأعمق خلف وجود التيار الإسلامي.
بعد مرور مائة عام على انطلاق حركة التحديث في العالم الإسلامي، في أربعينات القرن التاسع عشر، كانت بنية الدولة والمجتمعات الإسلامية قد تغيرت بصورة كبيرة، كما تعرضت علاقة الدولة بالمجتمع لانقلاب غير مسبوق. ليس ثمة شك أن عملية التحديث وما رافقها من مظاهر تغريب مفاجئة وحادة أنتجت شعورا بأن الدين بات مهددا، وأن مسألة الهوية أثيرت كما لم تثر من قبل.
ولكن ذلك لم يكن سوى تجل واحد لأزمة متعددة الجوانب. الأكثر أهمية، كان ولادة الدولة الحديثة، بالغة القوة والسيطرة والتحكم، وتعاظم قوة وسيطرة وتحكم هذه الدولة مع مرور الزمن. في النظام التقليدي، ما قبل التحديث، لم تكن ثمة حاجة لصاحب دعوة أو مشروع إصلاحي للسيطرة على مقاليد الحكم من أجل نشر فكرته أو مشروعه؛ لأن الدولة أصلا كانت محدودة الصلاحيات والنفوذ. في العصر الجديد، سيطرت الدولة على المجال العام برمته، وتدخلت بصورة متزايدة في المجال الخاص؛ وبتعاظم قوة ونفوذ الدولة تعاظم بالتالي الصراع على أدوات الحكم.
ولأن الدولة الحديثة وجدت، سواء من حيث القانون أو الهيكلية أو القيم، على أساس من نموذجها الغربي، نشأت حالة من الاغتراب بين الدولة وشعبها، وأخذت الهوة الفاصلة بين قيم الدولة وقوانينها، من جهة، وقيم المجتمع وموروثاته، من جهة أخرى، في الاتساع؛ وافتقد خطاب الدولة الجديدة المستقبلات الضرورية لدى الشعب.
ما جعل أزمة المجتمعات الإسلامية في حقبة ما بعد التحديث أكثر تفاقما، أن عملية التحديث، وبدرجات متفاوتة من دولة إلى أخرى، استبعدت الإسلام من المجال العام. بمعنى، أن النظام الجديد ولد من البداية على أساس من فرضيات جديدة وغريبة، ومن أن الدين يتعلق بمسائل خصوصية بحتة، أو أنه حتى لا دور له في الحياة كلية. وبالرغم من التوتر الهائل الذي واكب عملية التحديث وما بعدها، طوال القرنين الماضيين، ومن ردود الفعل الاجتماعية على النظام الجديد، فإن المجتمعات الإسلامية لم تجد إجابة بعد على سؤال دور الإسلام وموقعه في المجال العام.
بكلمة أخرى، التيار الإسلامي السياسي هو نتاج تاريخي لهذا السياق بالغ التعقيد، نتاج تعاظم قوة الدولة، اغترابها عن المجتمع، وسؤال دور الدين وموقعه في المجال العام، ومصير قواه السياسية يرتبط بمصير هذه المسائل الكبرى في المجتمع الإسلامي، وليس بتقلبات السياسة المتسارعة في هذا البلد أو ذاك.