لا شك أن العنوان الذي اخترته لمقالي هذا صادم، وذو مغزى قويٍّ، وهذا ما أردته بالفعل، لأنني تحسست خطراً داهماً يحيق بالثورة السورية منذ مدة، وما زلت أؤجل الكتابة عنه لظنّي حينها بأنّي أتوهم وأبالغ، ولكن ما حدث الأسبوع الماضي في ريف دمشق جعل ما أظنه مؤكداً وواقعياً في نظري.
على أية حال، فالقصة لم تبدأ بما حدث الأسبوع الماضي في ريف دمشق من اشتباكاتٍ عسكرية بين جبهة النصرة من طرف وجيش الإسلام التابع لزهران علوش من طرفٍ آخر، ولكن القصة تبدأ فعلياً منذ شهر نوفمبر 2013 حين هاجم تنظيم الدولة الإسلامية لواء عاصفة الشمال الذي كان يسيطر على معبر “باب السلامة” الحدودي، كان لذلك الهجوم أصداءٌ واسعةٌ وقوية حيث أنها المعركة الأولى من نوعها والتي صُنّفت على أنها معركةً بين أطراف المعارضة، وهذا ما أكسب الحديث عن هذه المعركة زخماً كبيراً وأهميةً شديدة، يومها وقف قائد لواء التوحيد عبدالقادر الصالح والملقب “حجي مارع” موقفاً مشرفاً بمحاولاته الشديدة والمتكررة لنزع الفتيل وإيقاف المعركة بين الطرفين اللذان ما يزالان حينها محسوبين على الثورة، ونجح في ذلك بعد محاولاتٍ مضنية.
استمر تنظيم الدولة أو داعش بأفعاله الاستفزازية في كثيرٍ من المناطق المحررة في الشمال السوري وخصوصاً في ريف حلب وإدلب واللاذقية، لم تكن هجماته على جبهة ثوار سوريا ولا مقتل الطبيب “أبو ريان” هما القضيتان الوحيدتان خلال سنةٍ كاملة من الاستفزازات حتى انتقل الصراع إلى منحى آخر أكثر عنفاً، ففي شهر نوفمبر 2014 أعلنت جبهة ثوار سوريا والكثير من الكتائب المتحالفة معها حربها المفتوحة ضد داعش، وذلك بسبب الانتهاكات التي كانت تمارسها ضد الثوار في الكثير من المناطق التي يسيطرون عليها، اُعتبر ذلك الإعلان من قبل الكثيرين بمثابة طرداً لداعش من صف الثورة والثوار وتصنيفها كطرفٍ ثالثٍ في الصراع الدائر في سوريا، في البداية نجحت هذه الكتائب بطرد داعش من مناطق واسعة من ريفي إدلب وحلب وهو ما ترتب عليه أن تركزت قوات داعش في الشرق السوري مما مكنها من السيطرة التامة على مدينة الرقة التي تم تحريرها من النظام بمشاركة داعش منذ شهر مارس 2013 ثم تمّ اعتبارها بعد ذلك عاصمةً للتنظيم مما أكسبه قوة استثنائيةً ومثيرةً للجدل في المنطقة الشرقية من سوريا ولاحقاً في المنطقة الغربية من العراق.
ولقد استمرت النزاعات بين من يفترض أنهم يمثلون الثورة فيما بعد، وفي كل نزاعٍ من هذه النزاعات كنت ترى انقساماً واضحاً من أبناء الثورة بين الفريقين المتنازعين!
ففي شهر ديسمبر 2013 اندلع نزاعٌ مسلحٌ بين جبهة ثوار سوريا وقائده جمال معروف وبين الجبهة الإسلامية، جمال معروف كان متهماً بكثيرٍ من عمليات النصب والسرقة من قبل الأطراف الإسلامية وهذا ما سبب الهجوم عليه، استمر النزاع حوالي أسبوع ونتج عنه عشرات القتلى والجرحى وانتهى الأمر بعد ذلك بإعلان صلحٍ وهدنةٍ مفتوحة بين الطرفين، ثم في شهر ٢٠١٤/٧ اندلعت المعارك بين جبهة ثوار سوريا وجبهة النصرة، جبهة النصرة الأقوى وذات التأثير الأكبر استطاعت إنهاء جبهة ثوار سوريا والسيطرة على مناطقها وهذا ما دفع “جمال معروف” للفرار خارج البلاد، أما في شهر ٢٠١٥/١ فقد اندلع النزاع بين جبهة النصرة من طرف وحركة حزم من طرفٍ آخر، هذا النزاع أدّى كذلك لإنهاء حركة حزم والسيطرة على مناطقها من قبل جبهة النصرة وإجبارها على حلّ نفسها واندماجها مع الجبهة الشامية.
أما النزاع الأخطر فكان حين هجمت داعش مصحوبةً بجبهة النصرة على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في العاصمة دمشق، كان ذلك في شهر ٢٠١٥/٤، فلقد شاهدنا في هذه المعركة تعاوناً وثيقاً بين النصرة وداعش مع أنهما كانا في حكم الأعداء في الشمال السوري ! ولربما كان هذا بسبب العلاقة الوثيقة بين التنظيمين وطبيعة الخلاف بينهما، فلو عدنا إلى تاريخ تأسيس جبهة النصرة في شهر ٢٠١٢/١ لعرفنا أنها تأسست من كنف الدولة الإسلامية في العراق حين ذاك وأن الفكر الأيديولوجي للتنظيمين هو نفسه مع بعض الاختلافات حول توزيع السيطرة على الأراضي بينهما لا أكثر، وقد شهدنا قبل ذلك تعاوناً وثيقاً بينهما على جبهة القلمون أيضاً.
كل هذه المعارك الداخلية وغيرها أثّرت تأثيراً كبيراً على مجريات الأرض في سوريا، وجعلت زخم المعارك ضد النظام السوري تتناقص مقابل زيادة مطّردة في الأعمال العسكرية بين من يفترض أنهم يمثلون الثورة.
وتدلّ معظم هذه النزاعات على أن غالب الفصائل العسكرية العاملة في الأرض السورية بدأت تتحول أهدافها فعلياً وبشكلٍ مضطردٍ من إسقاط نظام الأسد إلى السيطرة على أكبر قدرٍ ممكن من الأراضي ومصادر التمويل، وما قصة آبار النفط وحرب جبهة النصرة وداعش علينا ببعيد، وكما أن حرب السيطرة على المنافذ الحدودية والمدن الصناعية بين هذه الفصائل واضحة جداً للعيان، أضف إلى ذلك أن الكثير من الفصائل العسكرية في سوريا اليوم أصبحت تُدعم من الخارج لأهداف محددة ترسمها القوى الإقليمية والدولية، وفي الحقيقة فإن هذا ما جعل نسبةّ كبيرةً من الشعب السوري يرون أن قادة الكثير من هذه الفصائل تحولوا إلى مجرد “أمراء حرب” يعيشون ويسترزقون من فوضى الحرب وحالة عدم الاستقرار التي تعيشها البلاد.
هناك اتهامات مثبتة لغالبية الفصائل بأنها تتلقى دعماً من أجل تنفيذ أجندات سياسية محددة لأطراف إقليمية ودولية، وفي الحقيقة لا يمكن أن يكون أي فصيل بمنأى عن هذه التهمة التي رأينا آثارها واضحةً للعيان من افتعال المعارك الداخلية التي يتم تحميلها دائماً على الاختلافات الأيديولوجية بين الفصائل دون الانتباه إلى أثر المال السياسي الذي أصبح يتدفق كالأنهار في سوريا، وهناك بعض الاتهامات التي تدعي كذلك أن هناك أطرافاً سياسيةً سعت حتى لدعم الفصيل ونقيضه الأيديولوجي لتوجيه الرأي العام نحو مزيد من الاستقطاب والتوتر.
هذه السياسة التي تتبعها قوى إقليمية ودولية لدعم الفصائل المسلحة في سوريا وتمرير أجنداتها من خلالها لا تهدف حقيقةً لخلق موطئ قدم لهذه القوى في سوريا مستقبلاً، فالعالم كله متأكدٌ أن مصير كل هذه الفصائل إلى زوال، فكل هذه الفصائل لا تستطيع حقيقةً أن تساهم في بناء دولة أو نظام سياسي، والحرب لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، ولكن الغرض من هذا الدعم في الحقيقة هو تحقيق مبدأ توازن القوى بين طرفي المعارضة والنظام، وذلك لإطالة أمد الصراع والحرب السورية إلى أطول فترة ممكنة، ويمكن خلال هذه الفترة إنضاج حل سياسي قائم على إعادة تقسيم الهلال الخصيب بعد أن أثبتت “اتفاقية سايكس-بيكو” فشلها الذريع حسب التصريحات التي أدلى بها “مايكل هايدن” رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق، إقرار اتفاقية جديدة أصبح ضرورياً بعد غياب أي إشارة لاستقرار حقيقي في المنطقة عندما بدأ النظام السوري يتهاوى، فبقاء النظام السوري في المنطقة كان مهماً كونه يمثل بيضة القبّان بعلاقاته الممتدة نحو تركيا وإيران والسعودية ومصر أقطاب المعادلة السياسية في المنطقة.
من المؤكد أن الدعم الخارجي للكتائب وما يتبعه من تمرير أجنداتٍ سياسية ورسم خطوط حمراء قد أصبح واقعاً لا يمكن تجاوزه في الثورة السورية، ولكم أن تستذكروا قصة “معركة كسب” التي تم إفشالها فوراً لأنها تجاوزت الخطوط الحمراء وأعلنت عن فتح “جبهة الساحل”، الأمر نفسه ينطبق على دعوات “جيش الفتح” لتحرير الساحل أو دعوات تحرير قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين في الشمال السوري التي ظلت تتكرر لشهور عديدة، وأما وضع مدينة حلب المزري وعدم رغبة الفصائل من استكمال السيطرة عليها منذ ثلاث سنوات والمعوقات الكبرى التي تحول دون ذلك مع أن كل ما حولها تمت السيطرة عليه يجعلنا نتأكد أن “حلب الغربية” هي كذلك خطٌ أحمر على الأقل حتى الآن، مدينة حماة بالتأكيد ينطبق عليها نفس ما ينطبق على “حلب الغربية”.
بجميع الأحوال .. تعيش الثورة السورية اليوم في فترة حرجة يمكن أن نسميها “فترة أمراء الحرب”، قد تطول الفترة وقد تقصر، لا ندري، ولكن ما نعرفه أن هناك رغبة دولية لإطالة أمد الصراع، وأن هذه الرغبة يتم تنفيذها بأيادي طرفي الصراع أنفسهم، فالجميع متأكد أن روسيا تلعب نفس اللعبة مع النظام السوري، بإمكان الثورة السورية تجاوز ذلك فقط إن استطاعت أن تملك قرارها وتوحد جبهتها ضد النظام، ومع علمنا بأن هذا مستحيل حالياً حسب الوقائع على الأرض فالحقيقة تقول أن الحل السياسي في ظل هذه الظروف الحالكة سيتم فرضه على الجميع بدون أن تتم استشارتهم حتى ! وحتى ذلك الحين ستبقى سوريا كدولة وشعب تعاني وتئن من قسوة ظروف الحرب إلى أن يشاء الله!