مسيرة حياةٍ محفوفةٌ بالغموض، قضى الملا محمد عمر جزءًا منها قائدًا لحركة طالبان الأفغانية، ومع تواتر أنباء عن وفاة الرجل، استمر الغموض بشأن مصيره.
من حين لآخر تحدثت وسائل الإعلام عن مقتل الزعيم اللغز، وأحيانًا عن وفاته قضاءًا وقدرًا، لكن “طالبان” على الدوام كانت تنفي صحة هذه الأنباء، أما هذه المرة فإن الأمر أصبح في دائرة الاهتمام الحكومي، مع إعلان المتحدث باسم الرئاسة الأفغانية، أن السلطات بصدد تقارير تتحدث عن وفاة الملا الغائب عن الأنظار منذ ثلاثة أعوام، ومن بين هذه التقارير، ما أشار إلى أن ابن الملا عمر خلَفه في قيادة الحركة.
الحديث عن وفاة زعيم طالبان، يتواتر في وقت تخوض فيه مفاوضات تسوية مع حكومة كابل، واللافت في الأمر، أن الحركة نشرت بيانًا منذ عدة أيام باسم زعيمها الملا محمد عمر، يبارك فيه محادثات السلام، ويصفها بالشرعية.
نادرة جدًا الصور الرسمية للملا عمر، الزعيم الروحي لطالبان، التي حكمت أفغانستان من عام 1996 حتى عام 2001، قُبيل الغزو الأمريكي، إذ يُعرف عنه أنه حذر يحيط تحركاته بالكتمان؛ فهو أحد أشهر المطلوبين للولايات المتحدة، زعيم حركة طالبان الأفغانية، شارك في مقاومة الاحتلال السوفياتي لبلاده، وذاع صيته بعد سيطرة الحركة على مختلف مناطق أفغانستان، جمع بين السلطتين الدينية والسياسية، وكان يلقب بـ”أمير المؤمنين”.
انقطعت أخباره بعد دخول القوات الأميركية إلى أفغانستان. ونشرت الحركة يوم 5 أبريل 2015 سيرته الذاتية. وبعد ذلك بأشهر راجت معلومات تفيد بوفاته.
وقد نشرت حركة طالبان أفغانستان الأحد 5 أبريل 2015 سيرة ذاتية مفصلة لزعيمها الملا عمر في خطوة مفاجئة اعتُقِد أنها تهدف مواجهة تزايد نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية بين عناصرها.
كما شهدت حركة طالبان انشقاق عدد من عناصرها وانضمامهم إلى تنظيم الدولة حيث أعرب بعض المنشقين عن استيائهم من زعيمهم الذي لم يشاهد منذ 2001. ونشرت الحركة السيرة الذاتية على موقعها احتفالًا بمرور 19 عاما على تولي عمر زعامة الحركة.
ولد الملا محمد عمر عام 1954 بمدينة ترنكوت عاصمة ولاية أورزغان، وقد مات والده وهو صغير فرباه أعمامه وتحمل مسؤولية إعالة أسرته في وقت مبكر.
لم يكمل دراسته وأصبح شيخ القرية قبل الانضمام إلى المجاهدين وقتال الاحتلال السوفياتي، وكانت قدراته المعرفية متواضعة ومخاطبته للجماهير ضعيفة، ولذلك ليس له خطب جماهيرية ولا مقابلات صحفية وليست لديه خبرة في المجال السياسي والتنظيمي.
ينتمي -كما كل زعماء حركة طالبان- إلى المدرسة “الديوبندية”، وهي اتجاه سني في المذهب الحنفي تأسس في مدينة ديوبند بالهند، يتميز بآرائه المتشددة تجاه المرأة والعديد من الشعائر الإسلامية، وبعد قيام باكستان زاد عدد المدارس الدينية الديوبندية والتحق بها عدد كبير من الأفغان، شكل الكثير منهم حركة طالبان.
أمضى الملا عمر فترة الجهاد ضد القوات الروسية قائدًا لمجموعة مسلحة في جبهة القائد ملا محمد، التابعة للجمعية الإسلامية بزعامة برهان الدين رباني بولاية قندهار، فقد عُيِنَ خلال الجهاد ضد الاحتلال السوفياتي ما بين 1989-1992، وانتقل من منظمة إلى منظمة حتى استقر آخر الأمر قبل ظهور حركة طالبان في “حركة الانقلاب الإسلامي” التي تزعمها مولوي محمد نبي.
وبعد دخول المجاهدين إلى كابل أراد أن يكمل دراسته في مدرسة “غيرة” بمنطقة سنج سار بمديرية ميوند بولاية قندهار، ومن هناك بدأ التفكير في محاربة الفساد، فجمع طلاب المدارس الدينية لهذا الغرض في صيف عام 1994، وبدأوا العمل بمساعدة بعض التجار والقادة الميدانيين.
سطع نجم الملا عمر عندما اختارته حركة طالبان الأفغانية أميرًا لها في أغسطس 1994، وبعد وصول الحركة إلى مشارف كابل، عُقِدَ اجتماع عام للعلماء شارك فيه حوالي 1500 شخص في أواخر مارس وأوائل أبريل 1996، وانتخب بالإجماع أميرًا لحركة طالبان ولقب بـ”أمير المؤمنين”.
ومنذ ذلك التاريخ اعتبرته الحركة أميرًا شرعيًا لها، له في نظر أتباعها جميع حقوق الخليفة، فلا يجوز مخالفة أمره، وأعطت هذه الصفة صبغة دينية للرجل الذي حجب عن أنظار عامة الناس لإعطائه هيبة وسط العامة، وإخفاء جوانب شخصيته، حيث لم يكن يشارك في الاجتماعات العامة. واعتبره خبراء في الشأن الأفغاني أكثر الزعماء غموضًا حيث لا توجد له صورة فوتوغرافية واحدة واضحة المعالم.
عاش الملا عمر إبان حكم طالبان مع أسرته في بيت متواضع في مدينة قندهار، وكان يستخدم سيارة واحدة للتنقل العادي داخل المدينة، لا يهتم كثيرًا بالحراسة الشخصية، وكان الحاكم الحقيقي لأفغانستان حيث صدرت جميع القرارات المهمة بتوقيعه، وكان يدير أمور الحركة وأمور الحكومة في كابل والولايات عن طريق الهاتف واللاسلكي من قندهار.
الاختفاء
منذ سقوط نظام طالبان عام 2001، لم يعرف مكان اختباء الملا عمر، فقد طاردته الولايات المتحدة الأميركية وخصصت جائزة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يدل عليه أو يساعد على اعتقاله لتقديمه للقضاء، دون أن تصل لشيء.
ومع استمراه تواريه عن الأنظار، توقع متابعون للشأن الأفغاني أن يكون متخفيًا في الأراضي الباكستانية.
ونفت حركة طالبان في يوليو/تموز 2011 وفاته، بعدما وُزِّعت رسائل نصية صادرة من هواتف استخدمها بعض قيادييها أرسلت إلى وسائل الإعلام تعلن وفاته، واتهمت الاستخبارات الأميركية باختراق هواتف مسؤوليها.
ورغم اختفائه صدرت عنه بين الفينة والأخرى مواقف سياسية باسم الحركة من قبيل إعلانه بتاريخ 13 أكتوبر 2013، رفض الاتفاقية الأمنية الثنائية المقترحة بين أفغانستان والولايات المتحدة، فهي بحسبه “لن تكون مقبولة لدى الشعب الأفغاني”.
كما أصدر بيانًا أشاد فيه بصفقة تبادل خمسة معتقلين من حركة طالبان في سجن غوانتانامو مقابل إطلاق الحركة سراح جندي أميركي في آخر مايو 2014، ووصفها بأنها “نصر عظيم”.
وكان الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي قد دعاه في يوليو 2012 إلى الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2014 شرط إعلانه التخلي عن السلاح، وقال: “إذا انتخبه الناس فهذا جيد ويمكنه أن يقود البلاد”.
وفاته
في 29 يوليو 2015، أعلنت مصادر حكومية أفغانية وفاة الملا عمر من غير إيراد أي تفاصيل بشأن ظروف الوفاة.
وقال مسؤول حكومي أفغاني لوكالة الأنباء الألمانية إن الملا عمر، توفي منذ عامين في باكستان بعد مرضه، مضيفًا أن لديه تأكيدات من السلطات الباكستانية ومصادر في طالبان بأنه توفي هناك قبل عامين جراء إصابته بمرض.