كان الموقف التركي المتحفظ من المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، واحدًا من أكثر مواقفها إثارة للجدل، لكنه كان في حقيقته تعبيرًا عن عزلة تركيا في المنطقة بعد أحداث دراماتيكية أفقدت تركيا محورها المشكل للإطاحة بنظام الأسد في سوريا، جاء ذلك الموقف بسبب اختلاف الرؤى مع الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع قضايا المنطقة؛ فالرؤية التركية كانت قائمة على معالجة قضايا المنطقة كحزمة واحدة، وعلى وجه الدقة فهي ربطت معالجة خطر داعش بمعالجة قضية نظام بشار الأسد، على عكس الولايات المتحدة التي تحمل رؤية مختلفة في التعامل مع ذلك الصراع بشكل عام؛ فهي تنظر إلى تنظيم داعش على أنه تنظيم إرهابي يهدد مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة بشكل مباشر، لكنها ترى في قضية نظام بشار على أنها حرب أهلية، وبالتالي فإن معالجتها تكون بطرق مختلفة.
كما أن تركيا كانت مكبلة بعوامل داخلية دفعتها لاتخاذ هذا الموقف كانت أهمها الانتخابات التي أُجريت في يوليو 2015 والتي كان ينظر إليها حزب العدالة والتنمية الحاكم بوصفها انتخابات مصير؛ وبالتالي لم يشأ لعب أدوار إقليمية غير محسوبة العواقب بدقة قد تنعكس بالسلب على وضعه في تلك الانتخابات.
لكن تفاعلات المنطقة القائمة على “إن لم تأت إلى الشرق الأوسط سيأتي هو إليك” دفعت تركيا هذه المرة لتكون في واجهة الأحداث الدينامية في المنطقة، فبعد الهجوم الذي تبناه تنظيم داعش على مدينة سروج الحدودية الذي راح ضحيته 30 شخصًا، ونتيجة لتغيرات إقليمية؛ دخلت تركيا رسميًا في مسار الحرب ضد تنظيم داعش، في مسار مزدوج وبالتزامن مع انتكاس عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، وهو ما يثير تساؤل حول تداعيات دخول تركيا على مسار الحرب ضد تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني، والتحديات التي تواجهها جراء ذلك الموقف.
التداعيات على الحرب ضد تنظيم داعش
إن دخول تركيا على خط المواجهة مع داعش سيُحدث تداعيات مهمة في صالح الحرب ضد التنظيم، أولى هذه التداعيات تتمثل بطبيعة قدرات تركيا ذاتها، فتركيا يمكن عدها الدولة الإقليمية الكبرى التي لا تنافسها في المنطقة من حيث القدرات إلا إسرائيل، كما أنها تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة ومجهزة بقدرات تكنلوجية وعسكرية هائلة، لذلك فإن تنظيم داعش سيكون ولأول مرة في مواجهة جدية مع قوة تمتلك تفوقًا إستراتيجيًا هائلاً من حيث سلاح الجو أو القوات البرية أو القدرات التكنلوجية المتطورة وحتى منظومة متطورة من الوسائل الاستخابراتية.
يضاف إلى ذلك أن تركيا عضو في أقوى حلف عسكري دولي وهو حلف شمال الأطلسي والذي تنص المادة (5) من ميثاقه على أن أي عدوان مسلح على أي عضو فيه يُعد عدوانًا على أطراف الحلف جميعًا ويستلزم الدفاع عن كل أعضاء الحلف، وتقديم المعونة العسكرية المطلوبة من دون تأخير، وإذا ما قرر التنظيم مهاجمة تركيا عسكريًا، فإن قدرات الحلف كلها ستكون موضوعة لها في مواجهة التنظيم وتغير ميزان القوة ضده وبشكل كبير جدًا.
كما أن دخول تركيا على خط المواجهه قد سمح للتحالف الدولي من استخدام قواعدها العسكرية الجوية ومنها قاعدة إنجرليك القريبة جدًا من الحدود العراقية والسورية، وهو ما سيعزز قدرات التحالف، في سرعة التحرك وضرب أهداف وتحركات التنظيم.
بالإضافة إلى هذه العوامل فإن تركيا يمكن لها أن تلعب دورًا مهمًا للغاية في تعزيز جهود التحالف الدولي؛ إذ إنها تحظى بالقبول من أطراف داخلية في العراق وسوريا؛ ففي العراق تُعد تركيا دولة ذات مقبولية عالية لدى السنة العرب بالإضافة إلى شراكتها الإستراتيجية مع إقليم كردستان، وسيساهم ذلك بشكل كبير في إنجاح جهود الولايات المتحدة المعلنة في تسهيل اندماج السنة العرب في الحرب ضد تنظيم داعش، وبالتالي تسريع خطوات إستراتيجية التحالف.
أما في سوريا فإن الرؤية التركية التي اشترطتها في تشكيل منطقة عازلة من شأنها أن تؤدي إلى تغيير موازين القوى العسكرية فيها، إذ إنها ستقتضم جزءًا مهمًا من المساحة التي يسيطرعليها تنظيم داعش، وتهدد معقل التنظيم هناك، وستكون أرضية تعزز من دور فصائل المعارضة السورية التي توصف بالمعتدلة، بالإضافة إلى أنها ستؤمن الحدود التركية كما أنها ستؤدي بالضرورة إلى إنجاح الجهود في تقليص المساحة السياسية التي يستغلها التنظيم لتعزيز وجوده.
يضاف إلى ذلك أن تنظيم داعش كان يستغل الحدود التركية في تهريب النفط والأموال والأفراد الوافدين إليه، ومن شأن قيام منطقة عازلة داخل الأراضي السورية أن يؤدي إلى قطع تدفق الإمدادات البشرية إلى داعش وهي من العناصر النوعية التي يستفيد منها التنظيم، وتفعيل قرار مجلس الأمن 2170 القاضي بمنع تدفق المقاتلين ورؤوس الأموال إلى داعش سيؤدي بالضرورة إلى دخول داعش في حالة اختناق حقيقي.
التداعيات على الداخل التركي
إذا كانت تركيا ستلعب دورًا مهمًا في الحرب ضد تنظيم داعش سيغير من قواعد التوازن إلا أن تركيا ستواجه تحديًا ثلاثيًا في إطار خوضها للحرب ضد تنظيم داعش متمثلة بتغير أشكال الصراع في المنطقة والتحدي الأمني والعامل الداخلي المتمثل بالاستقرار السياسي، فواحد من أكثر الأمور تعقيدًا التي تواجه تركيا هو أن شكل الصراع في المنطقة قد تغير، إذ إن الحرب الدائرة ليست حرب جيوش نظامية بل إن الأخيرة انهارت نزولاً عند تحولها إلى وضع أشبه بالمليشيات، وتحول الجيش النظامي إلى أحد الفواعل العسكرية في ساحات الصراع وليس حتى العامل الرئيس اتبعه بالنتيجة تغير قواعد الاشتباك على الأرض، هذه الحقيقة يعززها أن تركيا وغيرها من القوى الإقليمية تخلفت عن إدراك هذه الحقيقة، فباستثناء إيران، ليس لأي قوة إقليمية في المنطقة أطراف أو فواعل على الأرض السورية أو العراقية تمثل قوة يمكن أن تكون لها شريكًا حقيقيًا تؤثر من خلاله على مجريات الصراع، أمام ذلك وفي إطار هذه الحقيقة الموضوعية فإن انخراط تركيا في الصراع واحتمال تطوره للتدخل بريًا سيشكل عامل استنزاف شديد الخطورة بالنسبة لها مع تغير قواعد الاشتباك على الأرض، فيما غياب طرف يمكن أن يكون شريكا تعتمد عليه، ويمكن أن يتحول دورها إلى وضع كالوضع السعودي في اليمن.
يضاف إلى ذلك التحدي تحدٍ آخر متمثل بالتحدي الأمني الداخلي وقيام تنظيم داعش بعمليات تستهدف الأمن الداخلي التركي، فاقم ذلك إعلان حزب العمال الكردستاني انتهاءعملية السلام مع الحكومة التركية، وشروعه بعمليات وتفجيرات داخل المدن التركية، وإذا ما أحدث التنظيم اختراقًا بالتزامن مع عمليات حزب العمال الكردستاني، فإن ذلك يُعد إيذانًا بضرب الاستقرار الداخلي لتركيا وانعكاسه سلبًا على الاقتصاد التركي.
ضلع التحديات الثالث الذي يواجه عمليات تركيا وشروعها في الحرب ضد تنظيم داعش، يتعلق بالاستقرار السياسي وحسم ملف تشكيل الحكومة وهو تحد يتعلق بحزب العدالة والتنمية على وجه التحديد، فتزامن ضرب داعش والعمال الكردستاني سيكون له تداعيات سياسية مهمة، تتعلق بضيق البدائل أمام حزب العدالة والتنمية في تشكيل الحكومة، فالتحالف مع حزب الشعوب الديمقراطية غدا أمرًا مستبعدًا جدًا، وإذا كان التحالف مع حزب الشعب الجمهوري هو الآخر صعب فليس أمام العدالة والتنمية سوى التحالف مع حزب الحركة القومية، لكن الأخير كان يتعارض مع العدالة والتنمية من جهة عملية السلام مع الكرد، والتي ينظر إليها كأحد الخطوط الحمراء التي لا يمكن التنازل عنها، وأمام انتكاس هذه العملية التي كان أيضًا يتمسك بها العدالة والتنمية واعتبارها كخط أحمر، بالنتيجة فإن تشكيل الحكومة من قِبل الحزبين سيعني أن على العدالة والتنمية أن يسير في عملياته ضد العمال الكردستاني، حينها ستكون الحكومة أمام تحد مزدوج؛ فإذا ما تم فتح قنوات اتصال لعملية السلام مع الكرد من جديد فإن ذلك يعني انهيار التحالف المشكل للحكومة، وإذا ما رضخ العدالة والتنمية إلى خيار الحركة القومية فإن ذلك يعني مزيدًا من التصعيد والتعقيد بدلاً من حل القضية الكردية في تركيا، وهو ما يعني ضرب أحد أهم الأهداف الإستراتيجية للعدالة والتنمية، وحتى إذا ما تم إجراء انتخابات مبكرة فإن تصاعد التشنج القومي والتركي هو الذي سيستحوذ على الخطاب الانتخابي الذي من المؤكد لن يكون في صالح العدالة والتنمية؛ يعني ذلك أن تركيا وإزاء المتغيرات ستكون أمام استقرار سياسي يمتاز بالهشاشة والضعف.
وإذا كانت قواعد اللعبة ستتغير في الحرب ضد تنظيم داعش إلا أن هذه التحديات وإذا لم يطور العدالة والتنمية بدائل تحتوي هذه التحديات ستضرب الاستقرار الأمني والسياسي في تركيا والذي يُعد ماكينة النجاح التي أحرزها حزب العدالة والتنمية وهاجسه الأكبر منذ اندلاع أحداث الربيع العربي.