خلال الأسابيع الماضية، قررت تركيا خوض معركتها الخاصة مع داعش والسماح لطائرات التحالف الأمريكي باستخدام قواعدها لضرب التنظيم في سوريا، بعد أن كانت تنتهج سياسة غض الطرف عن التمدد الداعشي، وفي نفس الوقت، احتد خطاب القيادات التركية تجاه الحركة الكردية بشكل يضع عملية السلام مع الأكراد على المحك، حيث تقوم الآن نفس الطائرات التركية بضرب معاقل حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا والعراق بعد أكثر من عامين من وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهو ما دفع البعض للتساؤل عما إذا كانت تلك الحرب الجديدة مدفوعة بالفعل بالحسابات الإستراتيجية التركية بعد هجوم داعش الأخير على قرية سوروج التركية، أم بحسابات حزبها الحاكم ورئيسها الذي خسر أغلبيته البرلمانية بسبب الملف الكردي.
هجوم سوروج: نقطة التحوّل؟
منذ بدء الصراع في سوريا وظهور داعش بقوة خلال العامين الماضيّين، كانت الحسابات التركية تعتبر أن الأولوية على الأرض هي لإسقاط نظام الأسد لتحل محله القوى الثورية الجديدة القريبة من أنقرة في المستقبل، وكذلك لتحجيم الحراك الكردي الذي قاده حزب الاتحاد الديمقراطي وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، والذي يخالف الكثير من مواقف حكومة كردستان العراق التي اعتبرتها تركيا الشريك الكردي الأساسي في عملية السلام، ولم ترد بالتبعية أن تعقّد من ذلك الملف بظهور منافس لأكراد العراق.
أما داعش، فكان الرأي السائد في أنقرة هو أنها غير مرشحة لتشكيل خطر على تركيا نظرًا لعدم قدرتها على اختراق المجتمع التركي البعيد عن الأيديولوجيات المتطرفة والجهادية، كما أنها في نفس الوقت، وبالنظر للضعف والتشرذم الذي تعانيه القوى الثورية والإسلامية الأخرى في سوريا، تُعَد حاجزًا أمام النفوذ الإيراني، وعاملًا جديدًا يُحدِث توازنًا بين نظام الأسد في جنوب سوريا والحكومة العراقية وكلاهما حليف إيران.
لذلك، يمكن القول إن مصلحة أنقرة كانت تقتضي الابتعاد عن المشهد على المستوى العسكري، والمشاهدة من بعيد بينما قامت تلك الأطراف باستنزاف بعضها البعض، على عكس الحسابات الأمريكية والإيرانية والتي رأت بالطبع أن صعود داعش، لأسباب كثيرة وواضحة، هو الخطر الأساسي في تلك المنطقة، بشكل يستوجب غض الطرف من جانب واشنطن ولو لحين عن خطر نظام الأسد، وكذلك عن أي خلافات مع حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره الولايات المتحدة إرهابيًا، وقد يشكّل قلقًا داخل إيران صاحبة الأقلية الكردية المعتبرة في شمالها الغربي.
تغيّرت الحسابات التركية كما رأينا بعد حادث سوروج، والذي حمل درسًا أمريكيًا نوعًا ما مفاده أن غض الطرف عن الحركات الجهادية أو حتى دعمها ليس مانعًا من التفافها على هذا الدعم وقيامها بهجمات داخل الأراضي التركية، وأن غياب القدرة على اكتساب الأتباع والأنصار داخل المجتمع التركي لا يعني عدم قدرة داعش على شن هجمات في جنوب تركيا، فالولايات المتحدة وهي مجتمع ليس مسلمًا أصلًا ويقع على الناحية الأخرى من الأرض لم تسلم من قدرة الجهاديين على اختراقها في يوم من الأيام.
تباعًا، وبعد الهجوم الأخير تحولت الإستراتيجية التركية إلى القلق من كافة الأطراف الموجودة على الساحة بشكل لا يمكن معه الاستمرار في سياسة المشاهدة عن بُعد بينما تستنزف الأطراف بعضها بعضًا، ولكن المشاركة لإضعاف الأطراف القوية غير المرغوب فيها، مثل داعش من ناحية وحزب العمال الكردستاني من ناحية، في مقابل الضغط لتحقيق مطلب المنطقة العازلة، والتي ستحاول تركيا بث نفوذها فيها لتكون نقطة انطلاق للقوى الثورية والإسلامية السورية، وسدًا منيعًا أمام قدرة أكراد سوريا على التمدد غربًا تجاه حلب، وفاصلًا بين المنطقة الكردية الصغيرة القريبة من سلطان كردستان العراق، وممر حلب الهام استراتيجيًا بالنسبة لتركيا.
هي حرب تركية إذن كما تقول الحسابات الإستراتيجية أليس كذلك؟ لا يمكن أبدًا إنكار المصالح الإستراتيجية العديدة التي تدفع أنقرة للقلق من التمدد الكردي ووجود داعش في نفس الوقت، ورغبتها في تعزيز قوى الثورة السورية كحليف لها على حساب نظام الأسد كحليف للنظام الإيراني، لا سيما وأن النظام الإيراني قد بدأ في إحراز الانتصارات الدبلوماسية بعد اتفاق فيينا، وهو ما استتبع أن تتخذ تركيا خطوات تحسّن من صورتها وتوثق من تحالفها مع الغرب على حساب التقارب مع إيران، بعد أن كان التوتر قد شاب علاقاتها بالغرب في الآونة الأخيرة.
على الرُغم من ذلك، تبقى هناك الكثير من سمات الخطاب التركي، وتفاصيل سياساتها على الأرض، والتوقيت الذي قررت تركيا فيه خوض هذه المعركة، ثم الانقلاب على داعش والحديث بحِدة عن عملية السلام بشكل يهدد استمرارها، التي تشي بأن ما يجري تشوبه الحسابات الحزبية التركية، وأنه لا يخلو بالطبع من تأثير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحساباته السياسية في الداخل.
الحسابات الأردوغانية
كانت صدمة للكثيرين أن يخرج أردوغان منذ أيام ليعلن انتهاء وقف إطلاق النار بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، حيث صرّح بأنه “لم يعد ممكنًا الاستمرار في عملية السلام مع من يهددون الوحدة الوطنية”، وهي كلمات أتت في إطار حملة اعتقالات لمواجهة الإرهاب تشنها الحكومة ضاربة بها عصفورين بحجر، حيث تقوم باستهداف كل المرتبطين بداعش، بالإضافة للنشطاء ذوي الصلة بحزب العمال، وهم في أغلبهم من المرتبطين في نفس الوقت بحزب الشعوب الديمقراطي الجناح السياسي له، والذي حقق انتصارًا كبيرًا للحركة الكردية في الانتخابات الماضية.
لاحقًا، عبّر أردوغان صراحة عن رغبته في رفع الحصانة البرلمانية عن أعضاء حزب الشعوب، قائلًا بأنهم يجب أن يدفعوا ثمن ارتباطهم بالمجموعات الإرهابية، وهو طلب رد عليه الحزب بذكاء حيث قام بنفسه بتقديم طلب برفع الحصانة عن نوابه الثمانين، وقال بأنه لا يرى قيمة لتلك الحصانة أصلًا، وأن أعضاء البرلمان الآخرين يجب أن يحذوا حذوه ويفعلوا الشيء نفسه، كما اتهم بالأمس صراحة أحد مستشاري أردوغان بتدبير قضية لإغلاق الحزب، تحت ذريعة علاقاته “بالإرهاب”، في تقويض صريح لنتائج الانتخابات.
تُعَد تلك الأحداث أسوأ فترة تشهدها العلاقة بين حزب العدالة والتنمية والحركة الكردية منذ دخول الأول للسلطة، وهو توتر يهدد عملية السلام الكردية التي دشنتها الحكومة منذ سنوات بالتنسيق مع القيادات الكردية في شمال العراق بعد أن سطع نجمها في المنطقة، حيث التقت المصالح بين رغبة تركيا الطبيعية في أن تكون عاصمة القوة الكردية خارج حدودها، مع طموح أكراد العراق في فعل الشيء نفسه: أن يجعلوا من أربيل قلب الوجود الكردي بالشرق الأوسط.
باندلاع الأزمة السورية بالطبع تعقدت تلك الحسابات، وظهر مجددًا جناح أوجلان على حساب البرزاني على الساحة، وبالوصول إلى معركة كوباني، والتي رأت تركيا عدم خوضها، كان رصيد العدالة والتنمية قد تضاءل لصالح حزب الشعوب في الولايات الكردية بجنوب شرقي البلاد، لتخرج نتيجة الانتخابات بخسارة الحزب لحوالي مليون صوت كردي، في حين عبر حزب الشعوب حاجز الـ10% المطلوب لدخول البرلمان ليصبح أول حزب كردي في تاريخ البرلمان التركي.
في نفس الوقت، كان حزب العدالة قد فقد ضعف تلك الأصوات تقريبًا (حوالي مليونين) لصالح حزب الحركة القومية التركي، والذي جذب المحافظين من قلب الأناضول ممن رأوا أنه تهاون أكثر من اللازم مع الأكراد، وأن الحركة الكردية أخذت مساحة أكثر مما ينبغي، وهي رؤية قومية صفرية بالطبع وليست بالضرورة صحيحة، لكنها انتشرت على أي حال، لتساهم في تقليص نسبة العدالة والتنمية في الانتخابات.
بين مطرقة الأكراد الغاضبين من تخلف تركيا عن معركة كوباني، وسندان الأتراك المتخوفين من الحركة الكردية، يبدو وأن الحزب قد قرر، ولحسابات انتخابية، استعادة الشرائح التركية المحافظة، والتي تمثل عاموده الفقري، لا سيما وأن استعادة ثقة الأكراد يُعَد أمرًا شبه مستحيل نظرًا لميل أكراد تركيا الآن تجاه القوة الكردية الموجودة في شمال سوريا، والتي تتعارض بشكل واضح مع مصالح تركيا، بعد أن كان ميلهم قبل الثورة السورية لصالح النموذج الكردي في أربيل.
بيد أن هناك حدودًا بالطبع لترجيح الحسابات الانتخابية على الاعتبارات الإستراتيجية طويلة المدى، وعلى مشروع أردوغان السياسي نفسه بالانتقال إلى جمهورية جديدة، والذي لا ينفك عن عملية السلام الكردية، فاستعادة الشرائح المحافظة على حساب الأكراد في لحظة يجري فيها تفكك بلدين مجاورين (سوريا والعراق) يهدد بشكل حيوي وحدة الأراضي التركية ربما أكثر من حزب العمال نفسه، وتصعيد الخطاب ناحية الأكراد قد ينزلق بالبلاد إلى مستنقع التسعينيات من جديد حين كانت تركيا تخوض حربًا داخلية ضد أوجلان، وهي حربًا لن تكون داخلية فقط هذه المرة.
علاوة على ذلك، وإذا طالت مدة ذلك التصعيد بين الطرفين، فإن الجيش التركي قد يجد نفسه منجرًا بسهولة إلى معركة خارج أراضيه، وهي معركة لا يريدها ويدرك جيدًا أنها خاسرة للجميع، له وللحزب ولتركيا كلها، كما أنها ستوسّع من دور الجيش على الساحة مجددًا جالبة ذكريات التسعينيات مرة أخرى، والتي استخدم فيها الجيش ذريعة الحرب مع أوجلان للإبقاء على نفوذه في الحياة السياسية، وبالنظر لتراجع حزب العدالة في الوقت الراهن، والتوتر الجاري داخل البلاد وخارجها، أقل ما يُقال إنه لن يكون مستبعدًا إذا ما ساءت الأوضاع أكثر من ذلك أن يكون للجيش دور سياسي جديد يضغط فيه على العدالة والتنمية.
هل المخاطرة محسوبة؟
لطالما توفرت المسببات الإستراتيجية لشن الحروب، على سبيل المثال تمتلك إسرائيل أسبابًا واضحة لمهاجمة إيران غدًا، كما امتلكت مصر أسبابًا واضحة لمهاجمة إسرائيل عام 1973، وامتلكت كل من إيران والعراق أسبابًا لخوض حربهما الطويلة في الثمانينيات، بيد أن اللحظة التي يتم فيها ترجمة تلك الحاجة الإستراتيجية إلى فعل سياسي وعسكري لا يمكن أبدًا أن تخلو من حسابات سياسية، وهو أمر لم يسلم منه حتى النظام الأمريكي الديمقراطي، كما توضح بجلاء حروب واشنطن في العراق وأفغانستان خلال العقد المنصرم.
لذا، ومع وجود أسباب تركية ملحة للتدخل جويًا في سوريا، وضرب مراكز داعش وحزب العمال في آن، والعودة إلى التحالف مع الولايات المتحدة في المنطقة لتحجيم تقاربها مع إيران والأكراد من ناحية، والاستفادة منها من ناحية أخرى، يبدو وأن اللحظة التي قررت فيها تركيا خوض المعركة كانت اللحظة التي تلح فيها الحسابات السياسية والحزبية على أردوغان أن يتراجع خطوات عن خطابه المفتوح مع الأكراد، واستعادة أرضيته لدى الأتراك المحافظين، وربما رفع احتمالات الائتلاف مع حزب الشعب العلماني.
في النهاية لا يسعنا أن نقول سوى أن الدخول إلى الساحة السورية بقوة، والذي لا يزال الجيش التركي يتحفظ عليه نوعًا ما مفضلًا أن يمضي فيه على أقل تقدير بالتنسيق مع واشنطن، هو مغامرة من جانب القيادة التركية، وأنه إما سيساهم في تعديل الكفة لصالحها بعد أن خسرت الكثير مؤخرًا إذا ما حققت أنقرة أهدافها على الأرض، وإما سيؤدي إلى جر أنقرة لصراع طويل قد يهدد المشروع السياسي المستمر فيها منذ 2002، والذي يقوم على تجاوز القومية وتحقيق السلام الدائم مع الأكراد بالإضافة لتجاوز العلمانية (وهو الهدف الذي تم تحقيقه بشكل شبه كامل).
مربط الفرس هنا هو ما إذا كان باستطاعة النظام في تركيا أن يحقق مكاسبًا سريعة دون الانخراط بشكل موسّع في تلك الحرب، ودون استمرارها لفترة طويلة تقوّض تمامًا من عملية السلام، والضرورية للوصول للجمهورية الجديدة، وتفادي الانزلاق لفخ التسعينيات الذي يمكن أن يأخذ تركيا في الداخل إلى مواجهة مع أفكار الجمهورية المؤسسة في وقت لا يناسب العدالة والتنمية بشكل يؤدي لمزيد من التوتر، وهو توتر سيطيح على أقل تقدير بمعسكر أردوغان من داخل الحزب والذي يعاني ضغوطًا خلال السنوات الأخيرة بسبب سياساته، حيث يحمّلها الكثيرون مسؤولية الهزيمة الانتخابية من الأساس، مما يجعل ترجيحها للحسابات الانتخابية قصيرة الأجل وتصعيد خطابها مع الأكراد ربما سياسة قصيرة النظر.
هل المغامرة التي تخوضها تركيا الآن، مع الأخذ في الاعتبار أن أي معركة هي بشكل أو آخر مغامرة، محسوبة جيدًا أم لا؟ وهل تملك تركيا تسيير دفتها بشكل يتيح لها تحقيق أهدافها منها؟ وهل سيجني منها أردوغان ما يريد داخليًا وخارجيًا؟ أم ستكون تلك المعركة الخطأ الأكبر لرئاسته؟ كل ما علينا هو متابعة المشهد عن قرب خلال الأشهر القادمة لمعرفة الإجابة عن تلك الأسئلة.