الطلبة والعمل السياسي
“دور الطلبة في العمل السياسي” مزعج هذا العنوان، قد يقول قائل ضرب من ضروب التحريض وأيضًا تغرير بالطلبة، قد يقول قائل آخر احذروا هذا الكلام، احذروا من قائله.
الطلبة هم من أهم العناصر التي لديها قابلية لتبني التغير الشامل للواقع العربي؛ فقد ثبت تاريخيًا أن الطلبة لعبوا بالفعل دورًا مهمًا في إطلاق حركات تغييرية وإصلاحية عديدة في جميع أنحاء العالم، منها توقيف الحرب على الفيتنام بإذعان الرئيس الأمريكي جونسون لمظاهرات الطلاب في أمريكا، وأيضًا ماعرفه العالم العربي من ثورات قادها الطلاب والشباب في كل من تونس، مصر، اليمن وغيرها.
العامل الآخر يتمثل في أن قطاع الطلاب يتزايد يومًا بعد يوم، أضف إلى ذلك حيوية الطلاب كشباب وتعاملهم الجاد مع الأفكار، المفاهيم، الرؤى السياسية، تحررهم من الأعباء الوظيفية والمعيشية، سهولة تنظيمهم والاتصال فيما بينهم، فالطلاب هم أكثر الفئات مقدرة على التحرر الاجتماعي من الخلفيات العائلية والطبقية، ونقصد بالتحرر الاجتماعي الإدراك بأن واقع الطلبة والمجتمع العربي هو واقع هزيل وغير عادل وضد الإنسان، وعليه فإن الذي يعمل من أجل الحفاظ على تراكيب هذا الواقع وصوره ورموزه لا يمكن أن يكون إنسانًا حرًا شريفًا.
العمل السياسي والموقف منه
كثير من الجهات السياسية والاجتماعية في العالم العربي، لا ترغب في مجرد الحديث عن موضوع “دور الطلبة في العمل السياسي”، لأن الدولة ترغب أن ترى الطالب لمدة تتجاوز العشر سنوات وأكثر في معتقله الأليف؛ المدرسة ثم الجامعة، وذلك تحت مبرر تلقي العلم.
فقد أصبحت جامعات العالم العربي وسيلة من وسائل التنشئة المتوافقة مع الخط الرسمي للدولة، ودعوة الطلبة للعمل السياسي قد تنظر إليها الدولة على أنها تؤدي إلى فشل المشروع الرسمي في التنشئة السياسية للطالب، وأيضًا من جهة أخرى فإن دعوة الطالب للعمل السياسي والمشاركة فيه تنظر إليها الدولة على أنها تعريض هذا الطالب لرياح الفكر، الموقف والانتماء الذي لا يتوافق بصفة عامة مع السياسة الرسمية في خطوطها العريضة.
لهذا نجد كثيرًا من الرسميين والساسة العرب عندما يلتقون بالوفود الطلابية يؤكدون دائمًا على أهمية التفرغ للعلم، والقصد منه هو إبعاد هذا الجسد الطلابي الحي النشيط عن دائرة السياسة وبالتالي تسهيل عملية التسلط وتيسيرها أمام الساسة العرب.
المؤسسة الدينية الرسمية تنزعج من دعوة الطلبة للعمل السياسي؛ فالإسلام بالنسبة للمؤسسة الرسمية الدينية هو الخلق القويم والهدوء وطاعة أولي الأمر، وأي دعوة للمشاركة في العمل السياسي هي دعوة للتخلي عن الخلق القويم ودعوة للفتنة والتمرد، هذا الموقف السلبي تجاه السياسة والعمل السياسي هو جزء لا يتجزأ من تركيبة الجهل والتخلف ومعوق فعلي من معوقات الديمقراطية في العالم العربي، من جانبها تقاوم الدول العربية انخراط الطلبة في العمل السياسي وتضع لذلك ميزانيات وتقيم الأجهزة وتنفق عليها أكثر بكثير من مكافحتها للمخدرات والجريمة.
والسؤال المطروح هو هل نستطيع طلبة كنا أو غير طلبة أن ننعزل عن السياسة والعمل السياسي؟
علينا أن نعلم أنه حتى لو قررنا بل وعقدنا العزم على ترك السياسة واعتزالها فإنها لن تتركنا، لأن السياسة هي إدارة العامة لشؤون الناس وهذه الإدارة إما أن تؤدي إلى عدل أو إلى ظلم.
القرار السياسي هو الذي يحدد طبيعة التعليم الذي نتلقاه، طبيعة الطعام الذي نأكله، طبيعة المسكن الذي نسكنه، طبيعة الطريق الذي نعبره، طبيعة الجريدة التي نقرأها، طبيعة المذياع الذي نسمعه، طبيعة التلفاز الذي نشاهده بل وكمية الدراهم والدنانير التي نحملها في المحفظة.
نحن في نهاية الأمر مادة القرار السياسي الذي يتخده الأمير أو الملك أو الرئيس، نحن ضحاياه أو فرسانه، فالقرار السياسي ليس شيئًا منعزلاً عنا، لا يؤثر فينا أو يتجاوزنا أو يتخطانا، إنه قرار لنا أو علينا، وهذه الجيوش الإدارية وهذه الوزارات ما هي إلا أدوات لتنفيد القرار السياسي ونقله من كونه فكرة تتأرجح في رأس الأمير أو الملك أو الرئيس إلى واقع نعيشه في البيوت، وعليه ينبغي أن ندرك بأن مصلحتنا تقتضي عدم اعتزال السياسة، بل تقتضي مراقبتها والمشاركة فيها باتجاه يضمن أن يكون القرار السياسي متماشيًا مع المصالح العليا للوطن، فالوطن هو الأمن، الخبز، الحرية والمساواة وكل ذلك في إطار من المشاركة السياسية.
لعل من أهم العوامل التي أدت إلى سقوط الأمة الإسلامية في براثن الانحطاط الحضاري والسياسي هو إعراضها وإهمالها لشؤون الحكم والمجتمع وتوجيهها، بحيث ابتعدوا عن الواقع والعمل على تصحيحه ليهتموا بعالم الأفكار والتصورات، ليتركوا الحكم وإدارة المجتمع وصيانة أمنه ومستقبله ليقع بأيدي أفراد وفئات أقل ما يقال عنها إنها غير كفؤة، انتهازية، عديمة التقوى، منافقة وذليلة؛ لذلك أصبح الناس في عمومهم يتجنبون التورط في السياسة والعمل السياسي.
إن من أخطر الانتكاسات في تاريخنا الإسلامي ابتعاد الفضلاء، الشرفاء، الأوفياء والطيبين عن الشؤون السياسية وتكالب السفهاء والأشرار والخونة عليها.
في الماضي كان دور الأمير جمع الضرائب من الرعية، وكانت القبائل والعشائر العربية ترسل له جنودًا لحراسة ثغوره وحماية عرشه من المتمريدين والطامعين، كان ذلك يرضي الملك أو الأمير، فيكف عن التدخل في تفاصيل حياة الناس، وكان الناس يعيشون على الفطرة وطبقًا للتقاليد الدينية والمحلية، ولم يكن هناك داعٍ للتدخل في السياسة؛ لأنه ليس ثمة سياسة أو عمل سياسي، أما اليوم فقد اختلف الأمر، فالدولة سواء كانت ديمقراطية أو غربية أو غيرها فإنها أصبحت تتحكم بشكل مباشر أو غير مباشر بحياة ومصير المواطن من لحظة الولادة حتى لحظة الوفاة، كل حياة الإنسان، بمعنى آخر باتت حياة الإنسان تابعة لسياسة الدولة.
مفهوم العمل السياسي
يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: تنظيم + فكر + جماهير؛ فالعمل السياسي لا يمكن أن يكون جادًا أو مثمرًا ومستمرًا إلا بناء من خلال عمل تنظيمي وعمل فكري وفي وسط جماهيري؛ تفاعل هذه المكونات الثلاثة الأساسية هو الذي يؤدي إلى مركب العمل السياسي، وتبقى مهمة توجيهها لتقوم بالآتي: تحديد علمي لمشاكل الجماهير وطرح موضوعي للحلول وقدرة علمية على مناقشة الاختيارات المتاحة وقدرة حركية على تنظيم الجماهير وتعبئة القوى وتحريكها لتنفيد الحلول.
فالعمل السياسي ليس فقط التصدي للقضايا ذات الصبغة السياسية المباشرة كالحروب والأحزاب السياسية وإصدار البيانات، بل إن أي مبادرة في اتجاه حل أي مشكلة تعاني منها الجماهير – الرأي العام – يمكن اعتبارها من صلب العمل السياسي، فشيوع المرض، الفقر، الأمية وعدم وجود أو هشاشة البنية التحتية وغيرها، وكل مبادرة في تخفيض نسبة الأمية وكل جهد صحفي أو إذاعي يهدف للارتقاء بالوعي العام، كل هذه الجهود من صلب العمل السياسي.
إن الطلبة أكثر القطاعات قدرة على فهم الجانب السلبي للواقع الذي نعيشه في العالم العربي، وبالتالي يصبحون أكثر قدرة على التحرر منه، فالطلبة اليوم هم المادة، أمل وآلة التغيير في العالم أجمع ومفتاح نهضة الأمم.
قراءة في كتاب “دور الطلبة في العمل السياسي” للدكتور عبد الله النفيسي. *