في مثل هذا اليوم، 31 يوليو 1981، انفجرت طائرة عمر توريخوس رئيس بنما، في واحدة من عمليات الاغتيال الناجحة التي دبرتها المخابرات الأمريكية ضد المعادين لسياستها.
قصة عمر توريخوس يمكن إيجازها ببساطة في قصة “قناة بنما”، وهي قصة سنحتاج أن نعرج إليها في حديثنا عن قصة قناة السويس.
(1)
أثار مقالي الأخير على نون يوست انتقادًا وهجومًا كبيرًا، لا سيما بعدما حقق معدلًا عاليًا من القراءات وأعاد نشره عدد من المواقع، لم يكن هذا مفاجئًا بطبيعة الحال، وإنما سارت سنة الناس أن يندفعوا لمهاجمة ما يثير استغرابهم، وفي مصر – ومنذ نحو قرن ونصف القرن – لم تسمح السياسة بمناقشة حقيقية لفوائد وأضرار قناة السويس، بل على العكس؛ صارت القناة منذ أنشئت واحدة من “المقدسات الوطنية” التي لا ينبغي الحديث عنها إلا بالإعجاب والتقدير، وينسى الجميع أن منذ حُفِرت القناة ونحن تحت الهيمنة الأجنبية المباشرة، كما في عصر الاحتلال الإنجليزي، أو غير المباشرة، كما في عصر الأسرة العلوية ثم عصر العسكر، وأن كل الحكومات الوطنية التي حكمت مصر منذ عهد الفراعنة وحتى عصر الخديوي عباس رفضوا تمامًا فكرة إنشاء قناة تربط البحرين الأبيض والمتوسط، لما لها من أضرار بالغة على مصر وأهلها.
وفي جلسة مع بعض الأصدقاء الذين لم يُخفوا مفاجأتهم مما حكيتُ عن تاريخ القناة، كان السؤال الأبرز: فما العمل الآن؟ يستحيل طبعًا أن نفكر في ردم القناة، فكيف يكون الحل؟
وقبل أن أجيب على هذا السؤال سأعود إلى قصة الجنرال عمر توريخوس رئيس بنما!
(2)
أصل القصة أن دولة بنما في أمريكا اللاتينية، وهي الشريط البري الواصل بين الأمريكتين، أخرجت الرئيس الوطني عمر توريخوس، كان عسكريًا وقاد انقلابًا عسكريًا وصل به إلى زعامة البلاد، ولكنه لم يكن من تلك الانقلابات التي دبرتها المخابرات الأمريكية، كان وسطًا بين الإصلاحية والثورية، لم يحاول أن يلبس ثياب جيفارا أو كاسترو أو يجهر بمعاداة أمريكا، واستضاف شاه إيران عندما كان وجوده في أمريكا يثير المتاعب مع ثورة الخميني، ولكنه في ذات الوقت لم يَرضَ أن يكون تابعًا لها ولا رجلها في بنما، وكان يقظًا لمحاولات سيطرة الشركات العالمية على موارد بلاده، فلم يسمح باتفاقيات مجحفة بالفقراء وإن سمح بنوع اتفاقيات أفضل كثيرًا (كما روى ذلك جون بركنز، رجل الاقتصاد الذي أعجب به ونفذ معه عددًا من الاتفاقيات ممثلًا لشركة MAIN العملاقة، في كتابه (الاغتيال الاقتصادي للأمم).
إلا أن أهم إنجازات عمر توريخوس هو إصراره على استعادة بلاده للسيطرة على قناة بنما، التي تمر في أراضيها ولكنها تحت السيادة الأمريكية، وإغلاق المدرسة الحربية الأمريكية التي تقع على ضفاف هذه القناة ويجري فيها تدريب العسكريين الذين يُصَنَّعون فيها كعملاء لأمريكا، ليكونوا فيما بعد حكامًا مستبدين لبلادهم، وفيها تتدرب فرق الموت للقيام بالعمليات القذرة ضد المعادين لسياسة أمريكا، والقاعدة العسكرية الأمريكية “قاعدة الكوماندوز الجنوبية في المركز الحربي الاستوائي”.
وقد خاض عمر توريخوس معارك سياسة مع أمريكا – مع الفارق الضخم في القوة – واستطاع أن يتوصل إلى اتفاق مع كارتر لإعادة القناة وإغلاق المدرسة العسكرية الأمريكية، بعد أن هدد أنه ربما يضطر إلى تفجير سد جاتون على قناة بنما لتتوقف الملاحة في القناة، وعمل على حفر قناة جديدة بالتعاون مع اليابانيين، إلا أن ريجان -الذي خلف كارتر – لم يرق له ما قد كان، فأصر على عودة الأمور كما كانت، وبالطبع كان هذا مستحيلًا لدى توريخوس، فكانت نهايته بالاغتيال في تفجير طائرته في مثل هذا اليوم. وتنصيب عميلهم “نورويجا” الذي لم يستطع هو الآخر تحقيق كل مطالب الأمريكان ولا النزول الكامل من السقف الذي وصل إليه توريخوس، فلم يتردد ريجان عن قصف بنما بالطائرات واختطاف نورويجا ومحاكمته في أمريكا، في مشهد يكون به عبرة لكل من يفكر في الوقوف أمام الغول الأمريكي.
(3)
نعود إلى سؤال: ما الحل؟ وما العمل؟
لقد رأينا كيف هدد عمر توريخوس بتفجير سد جاتون على قناة بنما ووقف الملاحة فيها إن لم تعد لسيادة بنما، ولم يجادل أحد في أن هذا عمل ثوري ووطني؛ فما من بلد وما من حركة جهاد وتحرر إلا وهي تنظر لمواردها في ضوء انتفاعها بها، فإن لم يكن نفعها لعدوها لم تبال بتدمير هذه الموارد، وهذه سنة مضطردة لا تتخلف (انظر هنا بعض التجارب التاريخية المتنوعة)، وقد سخر عبد الرحمن الرافعي – مؤرخ مصر الحديثة – سخرية مريرة من خدعة أن قناة السويس “خدمة للإنسانية”، وقال بأنه لا توجد أمة تفرط في استقلالها وكرامتها خدمة للإنسانية، فكيف وحقيقة الأمر أنها خدمة للأجانب الأعداء وليس للإنسانية؟!
وتلزمنا أمانة البحث العلمي أن نقول ما نراه وافيًا في موضوع الحل وإن كان بعضه يبدو بعيد المدى.
وأول مراحل حل هذه المعضلة هي: التوعية
إذ يجب أن يُزال هذا التراكم التاريخي الزائف حول منافع قناة السويس لمصر، وإبراز الحقيقة التاريخية الأصيلة التي نطق بها مؤرخون لا شك في وطنيتهم بل ومؤرخون أجانب لا مصلحة لهم من أن قناة السويس عمل يضر بمصر ضررًا بالغًا:
– على المستوى الاقتصادي بحرمانها من أن تكون مقرًا للتبادل التجاري وجعلها مجرد ممر بدلًا من ذلك.
– على المستوى العسكري بإيجاد مانع مائي يفصل بين أراضيها ويعزل أرض سيناء عن أرض الوادي، وهو الضرر العسكري الذي عانت منه مصر واقعيًا في ثلاثة حروب على الأقل (1956، 1967، 1973) حتى صار الإنجاز العسكري المصري الوحيد في تاريخ جيشها هو النجاح في “عبور القناة”، ويزيد هذا الخطر العسكري في ظل وجود إسرائيل واحتياجها لمنطقة عازلة (على نحو ما فصلناه في المقال الماضي).
– على المستوى السياسي الذي جعل مصر مركزًا للتنافس الاستعماري منذ نشأتها، وجعل كل مفاوضات الاستقلال، ثم كل اتفاقيات ما بعد الاستقلال، ثم معاهدات الحروب تتوقف أو تتعثر أو نتنازل فيها عن صميم حقوقنا من أجل القناة وضمان أمان الملاحة فيها وإتاحتها لكل أنواع السفن، مهما كانت تابعة لدولة معادية أو تهدد المصالح المصرية أو العربية والإسلامية، أو تحمل مواد ضارة بالبيئة أو بالثروة المصرية.
لا يليق بحال أن تشرب الصفوة المصرية خدعة فائدة القناة وأن تتمسك بها باعتبارها مقدسًا وطنيًا، بل يجب أن يكون الشعب وقادته على وعي بخطورة هذه القناة وأضرارها وإن عجزوا عن الحل الشافي أو النهائي لها، وأن ينتشر الوعي بوضع القناة وتاريخها وتأثيرها على البلاد بين الناس وفي المقام الأول بين ممثلي الشعب ونخبته وقادته.
وثاني مراحل الحل هي: التنمية
وذلك ما سعى إليه الدكتور محمد مرسي أثناء فترة ولايته، فلئن كان العجز قائمًا في تلك اللحظة عن إزالة القناة فلا بد من تعظيم وتكثيف الوجود البشري والعمراني والاقتصادي حولها، فهذا التعمير للقناة هو الذي يقلل أضرار وجودها ويعيد الاتصال بين سيناء والوادي، ولهذا السبب تحديدًا يقف في وجه مشروع القناة كل كاره لمصر ومصالحها، بدءًا بإسرائيل؛ التي تلزمها قواعد الأمن أن تحافظ على سيناء جرداء خالية وصحراء معزولة، وقد حدثني أحد أعضاء لجنة الأمن القومي بالبرلمان المنتخب أن العسكريين المصريين كانوا يرفضون صراحة أي تنمية لمحور قناة السويس وأي زيادة في الوجود العمراني والبشري في سيناء بزعم أن هذا يعيق حركتهم العسكرية، إن كان ثمة احتلال إسرائيلي لسيناء، وهذا كذب فج أبله، فإن أول ما يعيق الاحتلال هو الكثافة البشرية، خصوصًا إذا كان الجيش معروفُا ومشهورًا بالهزائم والانسحابات بدون قتال، حتى أن مساحة سيناء العظيمة يبتلعها الإسرائيليون في ساعات!
ولهذا يجب أن يخشى المصريون جميعًا من أي محاولات توسيع للقناة أو زيادة لتفريعاتها، فإن هذا يزيد من حجم المانع المائي والانفصال بين الأراضي المصرية، ويصعب أكثر إمكانية عبور القناة في أي وقت قادم، لأن كل زيادة في عرض القناة تساوي استحالة أكثر لإمكانية عبورها وتحقيق مفاجأة كالتي كانت في لحظة العبور الأولى في 1973، وهذا التوسيع وزيادة التفريعات هو ما يفعله عبد الفتاح السيسي الآن!
ولمزيد من بيان خطورة هذا العازل المائي يكفي أن تنظر إلى إسرائيل التي تستطيع إقامة قناة في أراضيها بين البحرين المتوسط والأحمر، لكنها رغم كل ما تشيعه عن نواياها في هذا الشأن لم تفعله أبدًا.
إلا أني أعود وأقول بأن محور التنمية هذا لن يتم إلا بعد امتلاك المصريون لسيادتهم على بلادهم وأن يكون رئيسهم وطنيًا ومنتخبًا ومعبرًا عن مصالحهم، لا عسكريًا انقلابيًا جاء بدعم الخارج، فهو يعبر عن مصالح العدو ويستميت في الحفاظ عليها، وبيننا وبين الوصول إلى هذا الرئيس المنتخب وامتلاك السيادة الحقيقية على البلد ثورة مريرة وجهاد طويل ومعاناة لا محيص عنها، فإن الحقوق تُنتزع، وإن الغرب لن يفرط في الهيمنة على مصر بسهولة.
وثالث مراحل الحل هي: إزالة القناة وردمها
وهذا حل تسوق إليه المعطيات التاريخية، وأول وآخر تفكير فيه كان للبطل أحمد عرابي، وهو آخر قائد وطني حقيقي للجيش المصري، وكل من تولى القيادة العامة للجيش المصري منذ ذلك الوقت وحتى الآن إما كان عميلًا أو مغفًلا أو ضعيفًا، وقد حال السادات دون وصول رجل كسعد الشاذلي إلى قيادة الجيش وأتى برجله الضعيف أحمد إسماعيل ليكون طوع أمره وقد كان، وساهم في تدمير الجيش المصري في أكتوبر حتى انتهى النصر العسكري الذي تحقق أول أيام الحرب إلى نصف نصر عسكري وهزيمة سياسية كاملة.
ويكاد يتفق المؤرخون أن عرابي لو أغلق القناة لما استطاع الإنجليز احتلال مصر بحال، ولو تخيلنا تاريخ مصر بدون القناة فلا شك في أن دماء غزيرة كانت ستُحقن وأموالًا طائلة كانت ستُصان ووضعًا سياسيًا واقتصاديًا آخر كان سيكون!
وتلزم أمانة البحث أيضًا أن أقول، إن هذا الحل تسوق إليه المعطيات التاريخية، فهو حل من وجهة نظر تاريخية فحسب، ولكنه يحتاج بحثًا جادًا متعدد التخصصات؛ السياسية، العسكرية، الأمنية، الاقتصادية، والإستراتيجية لمناقشة الفائدة أو الضرر من بقاء القناة أو إزالتها.