أعلنت سلطنة عُمان عن تحركات وساطة لها مؤخرًا في الجزائر لإنهاء أزمة طائفية مكتومة في بلدة جزائرية تدعى “غرداية” ذات الأغلبية الإباضية، تلك الطائفة المنتشرة في السلطنة أيضًا ما يجعلها الأقرب للتدخل في حل مشاكل الإباضيين في الجزائر.
أزمة الطائفة الإباضية في الجزائر تعود إلى عدة سنوات حيث المواجهات الطائفية بين الإباضيين الأمازيغ وبعض العرب المنتسبي للمذهب المالكي، حيث أسفرت هذا المواجهات أكثر من مرة عن أعمال تخريبية وخسائر في الأرواح، ومع تجدد هذه المواجهات قررت عُمان ممارسة دورها المفضل في المنطقة وهو حل الأزمات دبلوماسيًا ولو كان على المدى البعيد.
وصل وزير خارجية السلطنة العُمانية إلى الجزائر وتحدثت الصحف الجزائرية بأن مباحثات الوزير العماني ستتطرق على الأرجح لموضوع أحداث العنف في غرداية، وبحث سبل إعادة الهدوء والسلم بين أبناء المدينة الواحدة، وفي هذا الصدد لم تكن هذه الوساطة الأولى لسلطنة عُمان في مشكلة الإباضيين في الجزائر.
النظام الجزائري يُفضل الدبلوماسية العُمانية بوصفها لا تنحاز لطرف من الأطراف، ودور عُمان في المشكلة الطائفية هذه في الجزائر كان إيجابيًا إلى حد كبير من قبل عندما عرضت تحمل إصلاح خسائر البلدة المادية في مواجهات طائفية سابقة لنزع فتيل الأزمة.
مثل هذه الحادثة والدور العُماني بها تفتح ملف الدور الذي تعلبه سلطنة عُمان ودبلوماسيتها في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة خاصة وأنه دور صامت لا يتحدث عن نفسه كثيرًا لكن آثاره تُفضي إلى نتائج تُغير من وجه المنطقة بل وبدون مبالغة نقول أن دورها له آثار عالمية كبرى.
دور سلطنة عُمان في الاتفاق النووي الإيراني الغربي الأخير
عندما نتحدث عن آثار الدبلوماسية العُمانية بوصفها تحدث تغييرات إقليمية وعالمية فإن أوضح مثال هو دور السلطنة الغير متحدث عنه كثيرًا في الاتفاق النووي الأخير الذي وقعته الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع مجموعة (5+1)، وهو اتفاق يُعتقد أنه سُيغير وجه المنطقة بآثرها إذا ما سار في اتجاه التنفيذ الفعلي.
لعبت سلطنة عُمان دورًا محوريًا في هذا الاتفاق والترتيب له منذ أكثر من ست سنوات، ظهر ذلك جليًا في تسريبات ويكيليكس التي أدت على أهمية الدور الذي لعبته سلطنة عمان في تسوية الملف النووي الإيراني، إذ عُقدت عدة اجتماعات سرية، في العام 2009، بين الأمريكيين والإيرانيين على ساحل مسقط. هذا التفاهم المبدئي بين الولايات المتحدة وإيران يُعتبر هو نواة الاتفاق النووي الأخير.
وحسبما ذكر موقع “بازفيد” فإن دور مسقط أكبر من مجرد طرف يسهل عملية التفاوض بين الولايات المتحدة وإيران، ففي لحظات تعثر التواصل بين الولايات المتحدة وإيران كان الدور العماني يتنامى من مجرد توصيل الرسائل إلى وسيط موثوق فيه بين الطرفين الأمريكيين والإيرانيين، وذلك نظرًا لعلاقة السلطنة القوية الوطيدة بإيران، وكذلك تتمتع مسقط بعلاقات قوية بالولايات المتحدة وحلفائها من الدول الخليجية، باعتبار عُمان أحد أعضاء مجلس التعاون الخليجي.
تحدث محللون غربيون عن أهمية دور السلطان قابوس شخصيًا في تسهيل هذه المفاوضات إلى أن وصل الأمر لتثمين التدخل الشخصي للسلطان قابوس وتسهيله للمحادثات السرية والمباشرة بين الأطراف، حيث من دونه لكانت المواقف تجمدت، وعلى سبيل المثال، أوصل السلطان قابوس رسالة خطية من الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، إلى الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بعد تسلم الأخير لمنصبه العام قبل الماضي.
وعلى الصعيد الإيراني أكد مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية والأفريقية “حسين أمير عبداللهيان” في تصريحات سابقة أن سلطان عُمان السلطان قابوس بن سعيد “لعب دورا أسماه إيجابيًا في بناء في استئناف وتعزيز مسيرة المفاوضات النووية”.
وأما عن مفاوضات الجولة الأخيرة بفيينا حيث كان من المفترض التوصل إلى توقيع اتفاق في فترة ما، كان وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي بن عبد الله موجودًا، وبدلًا من التوقيع، تم اتخاذ قرار بتمديد المفاوضات سبعة أشهر أخرى، مع الإشارة لدور سلطنة عُمان في هذا الأمر بعد ظهور بوادر خلافات بين الأطراف، كما أن الجولة قبل الأخيرة عقدت في العاصمة العمانية مسقط.
وفي الدور العُماني ككمثل عن دول الخليج في مثل هذا الاتفاق تقول “سوزان مالوني”، الباحثة بمركز سياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينغز: “لقد اشتكت دول الخليج، دائمًا، من حاجتها إلى وجود آلية تمكنها من القيام بدور مباشر في مثل هذه المفاوضات، التي لها آثار بالغة على أمن الخليج”.، وقد كانت بالفعل هي عُمان هي الممثل الخليجي في هذا الاتفاق، وقد طلبت إيران مرارًا ضم سلطنة عُمان إلى دول المفاوضات لكن ثمة شئ عرقل هذا الطلب، فربما قيل أنه قوبل بالرفض من الدول الغربية، وثمة تحليل آخر يقول أن سلطنة عُمان هي التي فضلت أن تبقى في الظل.
وعقب إبرام الاتفاق والتوقيع المبدئي كان رد الفعل الإيراني حاضرًا تجاه السلطنة من السفير الإيراني المعتمد لدى السلطنة “علي أكبر سيبويه” الذي ثمن الدور البارز الذي لعبته الدبلوماسية العمانية في مباحثات الملف النووي الإيراني وصولا إلى الاتفاق النهائي مع الغرب، وقال السفير الإيراني في تصريح لــ “عمان أوبزيرفر”: “يرجع الاتفاق لاستضافة عمان في بدايات المشوار لعدة اجتماعات في مسقط، وكذلك لحكمة ودراية السلطان قابوس، وأكد السفير أن للسلطنة النصيب الأبرز في تحريك دفة المفاوضات منذ بدايتها، لأن السلطنة قامت بجهود كبيرة تشكر عليها في تقريب وجهات النظر بين المسؤولين سواء في إيران أو أمريكا ودول 5+1”.
دور سلطنة عُمان في الملف اليمني
كان لعمان موقفًا ممیزًا من الحرب علی الیمن ووقوفت موقف الرافض لقرار الحرب والممتنع عن المشارکة فیها رغم مشاركة كافة دول مجلس التعاون الخلیجي، هذا الموقف أدى إلى إشادة حوثية، فالتوجه العماني في القضية اليمنية ظهر جليًا منذ فترة مع بداية التحول النوعي في مسار الأزمة اليمنية بعد سيطرة الحوثيين عل صنعاء إذ قامت دول مجلس التعاون -باستثناء سلطنة عمان- بنقل مقر سفاراتها من صنعاء إلى عدن، وهو ما يعني قرار السلطنة الدائم بعدم الانحياز إلى طرف مهما كلف الأمر.
تحاول سلطنة عُمان منذ اندلاع الحرب في اليمن أن تلعب دورها المفضل كوسيط، فقد كثر الحديث الإعلامي عن وجود مبادرة جديدة ستكون عبارة عن وساطة، ستلعب سلطنة عمان فيها الدور الأكبر، وسترتكز هذه المبادرة على تحقيق هدنة على الأرض، ومن ثم الانتقال إلى المفاوضات بين الأطراف اليمنية لإنهاء الأزمة الحاصلة، وما يعزز ذلك تأكيدات الولايات المتحدة للمرة الأولى أن دبلوماسية أميركية أجرت محادثات مع ممثلين لجماعة الحوثي في مسقط، لكن حتى الآن لا يبدو وأن ذلك سيتحقق قريبًا من وجهة نظر عُمان، فمنذ البداية صرح وزير الخارجية العُماني أن هناك عدم استعداد لدى بعض أطراف النزاع للحوار في الوقت الحالي.
وكانت وزارة الخارجية العمانية قد كشفت عن قيامها بدور الوساطة لتسليم جثة الطيار المغربي الذي سقطت طائرته في محافظة صعدة، وقد أكدت عُمان أنها لبت طلب الحكومة المغربية المساعدة في معرفة مصير الطيار المغربي المفقود في اليمن.
وباالفعل تمكنت عُمان من التوصل لاتفاق مع ما يسمى بـ “اللجنة الأمنية العليا في اليمن” التي تسيطر عليها جماعة الحوثي لتسليم جثمان الطيار المغربي المفقود إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
طريقة تعامل السلطنة مع الملف اليمني تختلف عن باقي دول الاتحاد الخليجي، فقد كانت عمان أول من رعى المفاوضات التي أنتجت اتفاق “السلم والشراكة” في اليمن سابقًا، وحاليًا تعرض عُمان على السعودية خطة سياسية للخروج من الأزمة الواقعة حاليًا بعد ثبوت عدم جدوى الحرب، وقد رأت عُمان أن نقل الحوار اليمني إلى السلطنة على اعتبارها أرض محايدة وغير متحيزة لأي من الأطراف المتحاربة هو بداية الحل لأن الرياض لا تعد طرفًا محايدًا، وكن يبدو أن هناك تصلبًا في الموقف السعودي تجاه تلك الخطوة.
وتبذل السلطنة حاليًا مساع أخرى رسمية لإقناع الرئيس اليمني “عبدربه منصور هادي” بقبول خطوة نقل الحوار بين الأطراف السياسية اليمنية إلى العاصمة العمانية مسقط، خاصة وأن جماعة أنصار الله الحوثي لم تبد اعتراضًا على هذه الخطوة.
وعلى هذا المنوال تحاول سلطنة عُمان جمع أطراف يتشاركون معها وجهة النظر في قضية اليمن لتمثيل ضغط على المملكة العربية السعودية، ومن أبرز المرشحين لذلك دولة الجزائر التي امتنعت عن خوض غمار الحرب مع التحالف العربي في اليمن، كما تحاول عُمان استمالة الموقف المصري رغم مشاركة مصر في الحرب، إلا أن ثمة بوادر ظهرت لدى مصر تؤكد على ضرورة الحل السياسي وهو الأمر الذي تتبناه عُمان.
وقد تحدث وزيرالخارجية العُماني يوسف بن علوي في هذا الشأن بقوله: ” أن الجميع مهتم بالبحث عن آلية وأرضية يمكن فيها تطوير مبادرة تكون من الأمم المتحدة وبدعم من جميع الأطراف والدول المجاورة إضافة للدول المهتمة بالشأن اليمني، فيما أكد أن كل الأطراف بما فيها عُمان على اتصال مع الأمانة العامة للأمم المتحدة للتنسيق ومحاولة الخروج بحل سريع للأزمة اليمنية”.
الاختلاف العُماني الخليجي خاصة مع ملف إيران
سلطنة عُمان وإيران بينهما علاقات مختلفة عن علاقة إيران ببقية دول الخليج بسبب المصالح المشتركة التي كونتها عوامل عدة جعلت كلا الدولتين تنظر بعين مختلفة إلى الأخرى، بالرغم من أن علاقة إيران وسلطنة عُمان لم تكن قوية تاريخيًا أو على مايرام.
فدول الخليج بقيادة السعودية تنظر بعين العدواة إلى المشروع الإيراني وهو أمر لا تختلف عُمان جذريًا معه، لكنها تُفضل التعامل بواقعية شديدة مع دولة كبيرة بحجم إيران تمثل تهديدًا استراتيجيًا لأمن الخليج، لكن سلطنة عُمان على عكس دول الخليج لم تتطرف في هذا الطرح وقررت عدم خوض معركة خاسرة مع إيران باستعدائها للأبد، فاحتفظت بعلاقات أكثر مرونة مع إيران استفادت منها دول مجلس التعاون الخليجي بلا استثناء بل وباتت نموذج يحتذى به، ويُعتقد أن التجربة العُمانية في التعامل مع إيران مستلهمة الآن بين دول أعضاء مجلس التعاون الخليجي لا سيما قطر والإمارات التي قررتا التعامل بنوع من البراجماتية مع المشروع الإيراني، فيما لا تزال السعودية محتفظة بوجهة نظرها المتحفظة المتحفزة تجاه إيران.
فبشكل عام تُفضل سلطنة عُمان سياسة الانشغال بالداخل وعدم توريط نفسها في صراعات خارجية كما تفعل دول الخليج وعلى رأسها السعودية وقطر الإمارات، وتحتفظ السلطنة بالتعاطي الحذر مع أيًا من المتغيرات الإقليمية الحادثة، وهو ما يُعطي مسقط قرارًا مستقلًا بعض الشئ مع الاحتفاظ بود كافة أطراف نزاعات المنطقة.
وعلى الصعيد الخليجي موقف عُمان ثابت من الجميع بالنأي بنفسها عن الخلافات البينية الخليجية المعقدة وهو ما ظهر في امتناعها عن سحب سفيرها من الدوحة أسوة بباقي دول الخليج التي تكتلت أمام قطر، وقد سعت بشكل جدي لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء، هذه المواقف الحيادية تغضب بعض الدول أحيانًا التي تحاول بسط النفوذ إقليميًا كالسعودية، وذلك أدى إلى تعرض عمان لعدة ضغوطات لمحاولة تغيير مواقفها شبه الثابتة.
لكن السياسة العُمانية المرنة ذات الباع في المواقف المعقدة تمكنت من امتصاص كل تلك الضغوط ومنع تأثیرها علی مواقفها السیاسیة، وهذا الأمر وفر لعُمان ثقة دولية وإقليمية مكنتها من تحمل مخاطر التزام الحياد في الأزمات الإقلیمیة المتوالية على المنطقة.