يحتل الحديث عن مؤسسات المجتمع المدني حيزًا واسعًا من الجدل بين النخب الفكرية، ويغيب “حُسن الظن” عن ذهن كثير من الباحثين بالمنظمات الغربية الداعمة للمشاريع الفكرية والإنمائية والمهتمة بحقوق المرأة ونشر الديمقراطية وغيرها.
نحاول في هذا الملف تقديم صورة أكثر وضوحًا لدور التمويل الغربي في مؤسسات المجتمع المدني ومراكز الدراسات العربية من خلال العودة إلى بعض ما نشر من ورقات بحث متخصصة وتقارير صحفية ومقالات في هذا المجال.
الهيمنة الناعمة
يرى الكاتب محمد فرج في ورقته المقدمة لمؤتمر مجابهة التمويل الأجنبي الذي أقامته رابطة الكتاب الأردنيين في 2 فبراير 2013 ونشرتها مجلة راديكال في العدد الحادي والعشرين أن الغايات المعلنة التي تروجها هذه المنظمات تحاط بعناوين التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بتحضير إستراتيجية جديدة للعمل، يسميها فرج بـ “إستراتيجية الهيمنة الناعمة” تتم من خلال آليات تتمكن بواسطتها احتلال العالم بنعومة عبر وجه “ديمقراطي جميل وحريص على الحرية الفردية”.
ويلفت فرج إلى أن العمل على التأسيس للهيمنة الاقتصادية ابتدأ من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالة التنمية الدولية تحت شعار تنمية الدول الفقيرة ومساعدة الدول المتضررة من الحرب في إعادة بناء مؤسساتها، وأما التأسيس للهيمنة الثقافية والاجتماعية فمن خلال منظمات المجتمع المدني “التي ستنشل الشعوب المتخلفة من وحل تخلفها وتدفنها في مزيد من التخلف، والهيمنة السياسية من خلال تصدير مفاهيم الشرعية الدولية لتشرعن الإجراءات السياسية التي تدمر الدول ومؤسساتها”.
وينوه إلى أن أخطر الأوساط التي هاجمتها المنظمات الأجنبية هي الكتاب والصحفيين والمثقفين والمحامين والسياسيين، بهدف ترجمة الأفكار الدولية من خلال توطينها كون هذه الفئة هي الأكثر قدرة على الاتصال والتواصل”.
ويبين أن القضايا المستهدفة هي الديمغرافيا، النقابات ودورها المهني والسياسي، جرائم الشرف، المرأة والأسرة والمجتمع، التربية، الإثنيات، القوميات، الحدود، الموروثات القطرية، الجندر، التنمية الريفية، تنمية الأحزاب السياسية، رعاية الانتخابات والإشراف عليها، المشاريع الصغيرة وبناء المشروع الخاص، القيادات الشابة، الحريات الصحفية، العمل على زيادة المشاركة في الانتخابات، العمل على إنتاج حكومات شفافة وفعالة، تطوير عملية دخول الجامعات، ضحايا العنف، السكان الأصليين، وحقوق الأقليات.
ويضيف “بمنطق الطفل البسيط، هل كل هذا الدعم لوجه الله والإنسانية؟ كم هي حنونة أمريكا التي تمول العالم بأكمله من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة وحماية حقوق الطفل والمرأة، ولكنها بالتأكيد ليست أمريكا نفسها التي قتلت الأطفال والنساء في العراق وأفغانستان وبنما وفيتنام، وهي ليست ذاتها التي اعتقلت نشطاء وول ستريت منذ اليوم الأول، وهي ليست ذاتها التي اعتقلت وعذبت في أبوغريب وغوانتنامو.
لا يمكن في مسألة التمويل الأجنبي اللجوء إلى التجزئة لغايات التبرير، ومن ذلك: المسألة تعتمد على الطرف الذي يتلقى التمويل ومدى قدرته على فرض شروطه ومدى نزاهته، أو أن هناك اختلافًا بين التمويل الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية عن التمويل الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي، لا يوجد أي مبرر لكل هذه الجهات في تقديم الدعم سوى بسط الهيمنة، وفي المقابل ليس هناك من حل سوى المغادرة النهائية لهذا التمويل ورفضه ومقاطعته ومحاربته بشكل واضح وصريح.
وينهي فرج ورقته بتساؤل لماذا لا تقدم المنح لخدمة أغراض البحث العلمي المستقل في مجالات الفيزياء والكيمياء والفضاء والذرة والحاسوب والطب مثلًا؟
أهداف شخصية وسياسية
في عرض لموقع الجزيرة نت 14 يوليو 2010 لكتاب “المجتمع المدني والتمويل الأجنبي .. آفاق أم تحديات؟” للكاتب الأكاديمي ماهر الجعبري الذي يركز على الواقع الفلسطيني ويتضمّن إطلالة على واقع وتشريعات المجتمع المدني ببقية العالم الإسلامي، حيث اعتبر المؤلف “هذه الظاهرة عامة تتطلب لفت الانتباه في البلاد الأخرى”.
ويشدد على ضرورة التمييز بين الأهداف المعلنة وأهداف القائمين على تأسيسها (الشخصية)، وكذلك الأهداف الحقيقية (الفكرية والسياسية) التي تسعى لها الجهات التي تقف خلفها، ويعتبر أن الأهداف “الإنسانية” وتحسين جودة الحياة للإنسان هي الغلاف الذي يغلف الحقيقة، أما الهدف العام الذي يعبر عن حالة العديد من القائمين على هذه المؤسسات فيتمثل في النفعية المادية أو الوصول إلى المواقع المؤثرة، ومن ثم الظهور كشخصيات عامة في محاولات للتحول إلى قيادات مستقبلية.
ويرى أن الأهداف الحقيقية تصب في الغالب الأعم في المصالح السياسية لجهات أجنبية وفي خدمة الفكر الغربي، مستقرئًا جوانب سياسية وفكرية تستهدفها الجهات المانحة منها: تحسين صورة الدولة (أو الدول) التي تقف وراء المنح، ونشر الأفكار الغربية من خلال دعم برامج وحملات ترويج فكرية، والترويج للسياسات والأهداف السياسية والمصالح الغربية.
وذكر من الأهداف أيضًا: تجنيد الرجال وكسب ولاءات الشخصيات العامة من القائمين على بعض المؤسسات لدول أو توجهات معينة، وبسط الدول للنفوذ والسيطرة والتواجد على الساحة السياسية والمزاحمة حول الموقف الدولي، والحصول على معلومات إستراتيجية من خلال الدراسات التي يتم إعدادها حول الناس والأرض والموارد والتوجهات، وبرهن على تحليلاته من خلال توثيق البحث بعشرات المصادر لكتّاب من مختلف الخلفيات الفكرية والسياسية.
ودعا المؤلف إلى “تحرك المخلصين من أبناء الأمة للقيام بدورهم في القوامة على فكر المجتمع وحسه، وبالتالي مراقبة ومحاسبة التيار الذي يحرّك هذا المجال الأهلي ويتحرك فيه”.
بعيدًا عن التعميم
الباحث الإسلامي السنوسي محمد السنوسي في مقاله “منظمات المجتمع المدني وسياسة القُفازات والمخالب” المنشور في شبكة الألوكة في 15 مارس 2012 يستثني منظَّمات المجتمع المدني التي تَلتزم بالثوابت الإسلاميَّة وبالمصلحة الوطنيَّة للبلاد العربيَّة.
ويقرر بأن فكرة “العمل التطوعي والحقوقي” فكرة أصيلة في ثقافتنا وحضارتنا، وكانت مُدرجة ضمن أعمال الحِسْبة، ووظائف الأوقاف التي كان يُوقفها أصحابها لخدمة الفقراء والمَرضى، وطَلَبَة العمل، إلى غير ذلك من مناشط الحياة، بطريقة “تطوُّعيَّة” تتوازَى وتتكامل مع الجهود “الرسميَّة” للدولة وخُططها.
وألمح السنوسي إلى أن هذه القفازات والمخالب قد تكون عبرَ بعض المُفكرين والمُثقفين الذين يتبنَّون الدعوة إلى ترويج الثقافة الغربيَّة بحُلوها ومُرِّها، وخيرها وشرِّها، بينما هم في الحقيقة – حتى على هذا المستوى – لا يتشبَّهون إلاَّ بالمرِّ والشر فقط من هذه الثقافة، لكنَّهم يضطرُّون لإعلان عكس ذلك في البداية؛ لخداع المُتلقي والتمويه عليه، على حد تعبيره.
ويضع السنوسي علامتي استفهام على منظَّمات المجتمع المدني، الأولى: من حيث التمويل الخارجي الذي لَم يَعُد سرًّا، بل يُعلنون هم عنه قبل غيرهم، لكنَّهم يتحجَّجون بأنهم لا يجدون دَعمًا ماليًّا من الدولة أو من المجتمع؛ ولذلك يَلْجَأون إلى قَبول الدعم الخارجي، وما حالهم في الحقيقة إلاَّ مثلما قال القائل: كالمُستجير من الرَّمضاء بالنار!
والثانية: فمن حيث أهداف هذه الجمعيَّات وبرامجها الثقافيّة المطروحة على أجندتها، مبينًا أنَّ تلك الجمعيَّات لا تتبنَّى أهدافًا لها أولويَّة وذات إلحاحٍ وتَماسٍّ مع قضايا المجتمع واحتياجاته، بل تَطرح قضايا تكون في مُجملها هامشيَّة بالنسبة للمجتمع، وحتى مع طَرْحها، فإنها تَطرحها من خلال المنظور الغربي والمفاهيم الغربيَّة، والتي هي مناقضة للثقافة والمفاهيم الإسلاميَّة لاسيَّما فيما يتَّصل بقضايا المرأة وضوابط الحريَّة.
ويرى تبنيها لبعض القضايا الجادّة، يأتي في إطار التمويه على المتلقي لتكسب ثقته، وبالتالي تَمضي في طريقها المرسوم لها للترويج للمفاهيم الغربيَّة، كخُطوة أساسيَّة لخلخلة المجتمع، وتَسهيل قَبوله بالتبعيَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة للنموذج الغربي الاستعماري، ويذهب السنوسي إلى وصف غايات بعض المؤسسات بـ “الجاسوسية”.
ويؤكد على عدم معارضة عمل تلك المنظَّمات من حيث المبدأ، بل معارضة ممارساتها وارتباطها بالخارج؛ فالعمل التطوعي لنشر الثقافة الجادة عن الحقوق والواجبات، وتنمية المجتمع، هو عمل يقعُ في قلب ثقافتنا وحضارتنا العربية والإسلامية؛ ولذلك يجب البحث عن وسائل تنشيط عمل “منظمات المجتمع الأهلي”، ولا أقول: “المدني”؛ لأن هذه التسمية تَرتبط بالعلمانية وصراعها في الغرب، حين نشَأ “المدني” – أي العلماني – في مقابل الكنيسة وتسلُّطها، أمَّا “الأهلي”، فتفيد النسبة للمجتمع وأهله بطريقة تطوُّعيَّة.
مراكز الدراسات
في ورقة بحثية قدمها مدير مركز دراسات الشرق الأوسط جواد الحمد لمؤتمر دور مراكز الأبحاث العربية في الوطن العربي المنعقد في دبي نوفمبر 2005 شدد الحمد على معاناة معظم المراكز من مشكلة التمويل، وبين أنها مشكلة متعددة الأبعاد في ظل غياب التمويل المحايد، الذي يمكن أن يأتي من الدولة على شكل مخصصات للبحث العلمي، وبالتالي تقع المراكز إما فريسة للتمويل الأجنبي بكافة أشكاله، ممّا قد يدفعها للوقوع في المحظور والمشبوه، أو أن عليها مواجهة شبح العازة والإغلاق.
وأشار إلى أن معظم مراكز الدراسات والبحوث في العالم العربي تخضع برامجها وخططها إلى واحدٍ من اعتبارين، موافقة متطلبات الممول، في طرح الموضوع وفي ترتيب أولويّته، وفي كيفية التعاطي معه، والترويج لأيديولوجية معيّنة، أو سياسة ما، مع تنويهه إلى وجود بعض النماذج القليلة التي تمكّنت من توفير مصادر محلية وعربية، دون الحاجة إلى المشبوه من التمويل.
وحول خطورة التمويل الأجنبي قال الحمد إن التمويل هو مدخل السيطرة على القرار والتوجه والأجندة عادة، فالذي يضع الأجندة هو الذي يصنع القرار ويحدد الأولويات والاهتمامات، والتمويل الأجنبي يهدف إلى التأثير على مجريات التغير في المجتمع العربي، ولذلك فهو لا يخضع لقاعدة العمل الخيري أو نظرية البراءة، وعليه فإننا نعارض التمويل الأجنبي بالشكل الذي ترسمه الجهات الداعمة حاليًا، خاصةً وأنه قد يحمل في طياته إمكانات التأثير السلبي على المجتمع، وبذلك يمكن أن يؤثر على توجهات مؤسساتنا واهتماماتها وأولوياتها.
المصدر: أردن الإخبارية