قبل أيام قليلة احتفل الشعب التشيلي بالفوز لأول مرة ببطولة كوبا أمريكا التي نُظمت على أرضه، ولُعبت المبارة النهائية، التي توج فيها البلد المضيف، على الملعب الوطني بسانتياجو، وهو الملعب الذي شهد أحداثًا مأساوية قبل 40 عامًا، وتحديدًا فور انقلاب 1973، الذي قاده الجنرال بينوشيه.
“هناك مثل يقول الرجال لا يبكون، لكن في الحقيقة الرجال يبكون، نحن بكينا ليس جبنًا وإنما لما عشناه من جوع وبرد، وشوقًا إلى أحبائنا، الأشياء الوحيدة التي كنا نراها عندما يسمحون لنا بالخروج هي السماء وأرضية الملعب”، يحكي مانويل منديز الذي اُعتقل من مصنعه في اليوم التالي للانقلاب، وتم احتجازه رفقة مئات النشطاء وأعضاء النقابات في الملعب الوطني، حيث خصص المجلس العسكري 12 ملعبًا والعديد من المباني؛ لاحتجاز كل من يتم الشك في كونه معارضًا للسلطة الجديدة أو متعاطفًا مع سلفادور أيندي، الرئيس الاشتراكي الذي رفض التنازل عن شرعيته فتم قصفه بالطائرات ليلقي حتفه في قصره الرئاسي.
في الملعب الوطني وغيره من المباني التي استقبلت المعتقلين، تم ممارسة التعذيب بشكل منهجي وواسع، حيث تم ذلك وما رافقه من تحقيقات داخل غرف خلع الملابس وفي ممرات الملعب، التي بقيت بعضها حتى اليوم على هيئتها شاهدة على الحقبة العسكرية السوداء التي عاشتها تشيلي، حيث روى المعتقلون بعد ذلك وسائل التعذيب المختلفة التي تعرضوا لها من ضرب وصعق بالكهرباء إلى حد الاعتداءات الجنسية، القتل، التصفية، والاختفاء الأبدي لآلاف المعارضين، تشير الأرقام التي وثقتها بعض المؤسسات الحقوقية الدولية إلى اختفاء 3200 مواطن وإلى تعرض 38 ألف آخرين للتعذيب.
فيكتور جارا، أحد مطربي تشيلي المشهورين، تمت معاقبته وكان ضمن المعتقلين في الملعب الوطني بسبب غنائه للديموقراطية في عهد أيندي، إلا أن أغانيه لم تتوقف فكان مصدر قوة لرفاقه المسجونين؛ ما جعل بعض الضباط يبالغوا في تعذيبه حتى الموت بين ممرات الاستاد الوطني وكانت آخر كلمات غناها تقول :
كم من الصعب غناء هذا
حيث ﻻ بد أن أغني بخوف
حيث السكون والصراخ
هذه نهاية أغنيتي
بقي أن نشير إلى أنه في كل عام يأتي أقرباء الضحايا إلى الملعب الوطني لإضاءة الشموع حوله وإحياءً لذكرى من فقدوهم.
مباراة سياسية
في الشهر التالي للانقلاب وتحديدًا نوفمبر 1973، أصدر الكرملين قرارًا برفض الاتحاد السوفييتي لعب مباراة مع منتخب تشيلي على أرض ملعب تشيلي الوطني بدعوى أن أرض الملعب ملطخة بالدماء، ورغم أهمية المباراة على المستوى الكروي كونها تحدد المتأهل لكأس العالم إلا أن المباراة السياسية بين أمريكا والاتحاد السوفييتي آنذاك لم تكن تقل أهمية، حيث عارض السوفييت بطبيعة الحال الانقلاب المدعوم أمريكيًا وتم قطع العلاقات مع السلطة التشيلية الجديدة، ما جعل السلطة العسكرية في تشيلي تصر على اللعب على الملعب ذاته وترفض محاولات نقل المباراة لملعب آخر، وأمام تلك الأزمة يقرر الاتحاد الدولي “الفيفا” إرسال لجنة تفتيش إلى الملعب الوطني سرعان ما تعلن عدم صدق الادعاءات الصحفية وخلو الملعب من أي معتقلين!
“في يوم زيارة بعثة الفيفا إلى الملعب تم إبقائي مع بقية المعتقلين هادئين تحت تهديد السلاح، احتجزونا في الأسفل مختفين في غرف خلع الملابس وفي الممرات، كان الأمر وكأننا في عالمين مختلفين “يحكي جورج مونتيالجري، الذي كان عمره آنذاك 19 عامًا، ويذكر أنه قبل المباراة بأيام قليلة تم نقلهم إلى الشمال حيث صحراء أتاكاما بعيدًا عن الأعين.
انسحب السوفييت من المباراة الكروية، ورغم ذلك أصر الفيفا على عقد المباراة بفريق واحد لينزل الفريق التشيلي إلى أرض الملعب ويحرز هدفًا رمزيًا يصعد به إلى كأس العالم في واحدة من أغرب مباريات الكرة في التاريخ.
https://m.youtube.com/watch?v=Opzvc2nEgpM
انقلاب برعاية أمريكية
ﻻ يغير سرعة نفي المسؤولين الأمريكين علاقة بلادهم بالانقلاب، الذي قام به الجنرال بينوشيه في تشيلي، من حقيقة الدور الرئيسي الذي لعبته الولايات المتحدة في رعاية ودعم انقلابات دول أمريكا الجنوبية في السبعينات وأوائل الثمانينات، إذ كان ذلك في إطار التنافس الشرس بينها وبين السوفييت على قيادة العالم، وعلى مناطق النفوذ والتأثير؛ فلم يكن من السهل أن تسمح أمريكا باستقرار نظم اشتراكية وشيوعية بالقرب منها، هذا الدعم المباشر وغير المباشر يتضح من حديث كسينجر عندما قال “الأمور أكثر أهمية من أن تُترك للناخبين التشيليين ليقرروها بأنفسهم”، وهو ما عبر عنه نيكسون بالقول “سنجعل الاقتصاد التشيلي يصرخ”.
غير أن لقاءً أُجري مع دوان كلاريدج مسؤول قسم الـ CIAبخصوص أمريكا الجنوبية أوائل الثمانينات كان أكثر صراحة ووضوح، حيث يفتخر الضابط بالدور الذي لعبته المخابرات في إسقاط حكومة أيندي، وذلك حين يدعي عدم تذكره لاسمه !وعندما سأله المحاور عما إذا كان مقبولًا الإطاحة بحكومة منتخبة بشكل ديموقراطي كانت الإجابة سريعة “هذا يعتمد على الأمن القومي لنا، أحيانًا للأسف بعض الأشياء لا بد من تغييرها بطرق قبيحة”، ومع محاولته التقليل من أعداد ضحايا بينوشيه ونظامه العسكري يبرر ضابط الـCIA تلك الانتهاكات بقوله “أتفق أن بينوشيه ارتكب جرائم، لكن كان الأمر يستحق”.
ذكرت تقارير واعترافات ضباط من دول القارة اللاتينية بعد ذلك تلقي تدريبات، على يد ضباط أمريكين، على وسائل الحصول على معلومات باستخدام كل الأساليب الممكنة بما في ذلك الإيذاء الجسدي، السجن المزيف، التهديد بأفراد العائلة، وحتى القتل، وهو ما ذكره أحد الضباط الذين تلقوا هذا التدريب بقوله “إذا كان هناك شخص ﻻ ترغب فيه، لا يمكنك إخراسه أو إيقاف ما يفعله، ولا تستطيع الحصول منه على ما تريد، الأمر ببساطة اطلب من فرق الموت قتله”.
الحملة الدعائية “No”
بعد مرور عشر سنوات من حكم بينوشيه بلاده بالحديد والنار، وتطبيق سياسات رأسمالية متوحشة، ونتيجة لتفاعلات نضال العمال والمعارضة بشقيها السلمي والمسلح، بالإضافة إلى اختلافات داخل أروقة السلطة نفسها، أصدرت المحكمة العليا قرارًا بتنظيم الاستفتاء، وحددت أوقات الإعلانات التليفزيونية المؤيدة والمعارضة، وهو ما نجحت المعارضة في استغلاله بالحملة الدعائية الشهيرة التي حملت اسم “NO”، والتي اختارت تقديم الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل لتشيلي بدون بينوشيه إلى الجمهور، وهو ما تحقق، واضطر بينوشيه إلى ترك الرئاسة قبل أن يحتفظ بموقعه في أروقة السلطة لسنوات أخرى بفعل قوانين كان قد فرضها في دستور 1980 إبان سنوات حكمه، قبل أن يتم اعتقاله في لندن ومحاكمته في تشيلي بتهم انتهاك حقوق الانسان والفساد في أواخر حياته.
رغم مرور ما يزيد عن 40 عامًا على الانقلاب، ومرور البلد اللاتيني بتحول ديموقراطي، الا أن إرث الحقبة العسكرية السوداء لا يزال يترك آثاره الواضحة على الاقتصاد والمجتمع، وعلى أسر وأقارب آلاف الضحايا في تشيلي.