رغم تظاهر موسكو الدائم برفض سياسة العقوبات التي انتهجتها القوى العظمى ضد إيران، إلا أنه ليس من الدقة تمامًا القول بأن المسؤولين الروس كانوا سعداء بالاتفاق الذي وُقع في جنيف وقضى برفع العقوبات عن طهران مقابل تسوية ملفها النووي، يذهب البعض إلى القول بأن “إيران صديقة للولايات المتحدة وبلا عقوبات” هي أخطر على روسيا من “إيران نووية”.
يمكن القول عمومًا إن التأثيرات الاقتصادية والسياسية للاتفاق على موسكو هي تأثيرات مزدوجة تأخذ بقدر ما تعطي، ولذلك كان المسؤولون الروس مبادرين للترحيب بالاتفاق، لكنهم كانوا أقل حرارة من الأوروبيين والأمريكيين وأكثر دقة في انتقاء الكلمات التي توصف ذلك الترحيب.
إيران كمنافس .. قطاع النفط الروسي أكبر الخاسرين
بعد رفع العقوبات المفروضة على قطاع النفط الإيراني؛ سيصبح لها – وهي التي تمتلك رابع أكبر احتياطات النفط وثانيها بالنسبة للغاز – القدرة على إضعاف قطاع الطاقة الروسي المترنح أصلاً، فخلال شهور قليلة وحين تستأنف إيران ضخ مئات الآلاف من البراميل يوميًا إلى السوق العالمية؛ سيقل سعر البرميل نتيجة زيادة المعروض، وقد اختبرت موسكو ما يمكن اعتباره “تأثيرًا سيكولوجيًا” للصفقة حين انخفضت الأسعار مباشرة إلى أقل من 57 دولارًا للبرميل، هذا لمجرد الإعلان عن اتفاق دون أي ضخ فعلي، فكيف سيكون الحال حين يبدأ تدفق النفط الجديد، كما أن عودة النفط الإيراني – ذي الخصائص الشبيهة بالنفط الروسي – قد يجعل المشترين يتحولون إلى الإيراني، لا سيما الاتحاد الأوروبي الذي يبحث عن بدائل للنفط والغاز الروسيين، الذين يمثلان نسبة كبية من استهلاكها من الطاقة، بعد الأزمة الأوكراونية، هذه العوامل ستزيد الضغوط على الاقتصاد الروسي الذي يعاني أصلاً بفعل مزيج من الانخفاض السابق للأسعار والعقوبات المفروضة على روسيا نتيجة سياستها إزاء الأزمة الأوكرانية.
قطاع الطاقة الروسي أكبر المتضررين من الاتفاق
إيران كشريك .. تعاون اقتصادي وعسكري ونووي
على الجانب الآخر، ثمة عوامل أخرى قد تؤدي إلى تعويض موسكو عن خسارتها السابقة، فهذا الاتفاق يعتبر فرصة جديدة للشركات لجني مليارات لا تحصى من الدولارات من الأرباح عن طريق اختراق سوق غير مستغلة تقريبًا في كل شيء؛ من السلع الاستهلاكية لاستثمارات الطاقة والخدمات المالية، ولدى البلدين اتفاقيات سابقة لمشروعات مشتركة في مجالات الطاقة والملاحة والبناء وصناعة السيارات وغيرها، والتي من الممكن أن تستأنف حال البدء في تطبيق رفع العقوبات.
من المفيد لموسكو هنا أن تعلم أن السوق الإيرانية لن تكون حكرًا لاستثماراتها أو صادرتها بل ستواجه منافسة شرسة من العديدين على رأسهم الصين وفرنسا وتركيا وربما الإمارات المتحدة.
وزيرالخارجية الروسي أكد أن الشركات الروسية تسعي لخفض التعاملات التجارية مع الغرب والتوجه شرقًا إلى أسيا للبحث عن فرص جديدة
ثمة تعاون من نوع آخر تنشده موسكو تحديدًا، إذ يطمح الكرملين أن تصبح إيران زبونًا دائمًا للأسلحة الروسية، ونشير هنا إلى صفقة أنظمة الدفاع الجوي “صواريخ أرض جو S-300” التي تم توقيعها بين البلدين عام 2007 قبل أن يتوقف توريدها نتيجة العقوبات التي فُرضت على طهران، وقد وقع الرئيس بوتين على قرار باستكمال الصفقة عقب توقيع اتفاقية الإطار في أبريل الماضي، ورغم أن الحديث يدور عن استمرار حظر بيع السلاح إلى إيران لسنوات قادمة، تجادل روسيا أن تلك الأسلحة هي أسلحة دفاعية وليست هجومية.
كما يرى الخبراء أن الاتفاق النووي نفسه يعطي روسيا فرصًا جديدة في مجال الطاقة النووية، على سبيل المثال، فإن إيران بحاجة لشحن جزء كبير من اليورانيوم المخصب ونفايات الوقود، ومن المرجح أن يكون المتلقي هنا هي روسيا.
التأثيرات السياسية
تعزيز الأمن القومي الروسي وتدعيم مصالح موسكو الإقليمية
بالتأكيد استفادت روسيا من الاتفاق على المستوى السياسي كثيرًا، فروسيا كدولة عظمى حريصة على تطبيق اتفاقات منع انتشار الأسلحة النووية لضمان احتكارها من القوى التقليدية، ومنع بروز لاعب جديد على الساحة الدولية، وإيران وإن كانت شريكًا مرحليًا لموسكو، فقد كانت تاريخيًا وحتى زمان الشاه عدوًا للإمبراطورية الروسية وسدًا منيعًا أمام مطامعها للوصول إلى المحيط الهندي (أوصي القيصر بطرس الأكبر بضرورة أن تبلغ روسيا المحيط الهندي ولو أدى ذلك إلى تفكيك الإمبراطورية الفارسية)، ومن ثم يمكن اعتبار منع إيران من الوصول إلى السلاح ذا فائدة كبيرة للسياسة الروسية، كما أنه وبتوقيع الاتفاق، ضمنت إيران عدم انزلاق الأمور نحو الأسوأ في جارتها الجنوبية، سواء بضربة عسكرية إسرائيلية أمريكية أو إسرائيلية مدعومة أمريكيًا، أو باندلاع انتفاضات شعبية أو اضطرابات سياسية في إيران.
إقليميًا، تتوافق الرؤى الروسية والإيرانية تجاه العديد من الملفات وأبرزها الدعم الذي يبديه الطرفان للنظام السوري، كما يتفقان في مواجهة “الأصولية والتطرف”، وسيؤدي تعزيز القدرات الإيرانية وتقوية حلفائها الإقليميين إلى نتائج قد ترغبها موسكو على صعيد سياستها تجاه منطقة الشرق الأوسط.
ثمة مكاسب رمزية أخرى للسياسة الروسية؛ فالدور المحوري الروسي في الاتفاق من شأنه أن يساهم في تعزيز مكانتها الدولية بعد أن تضررت نتيجة رد فعلها إزاء الأزمة في أوكرانيا، كما نصب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف “مصيدة” لأوباما حين ذكره بتصريحات أطلقها عام 2009 في باراجواي ووعد حينها بوقف برنامج الدرع الصاروخي حال تسوية المسألة النووية في إيران، ورغم أن هذا لن يحدث بالطبع نظرًا لأن المشروع لم يكن من البداية له أي علاقة بإيران ، إلا أن رسالة لافروف كانت بهدف تذكير العالم بالتصريحات الكاذبة التي أطلقتها الولايات المتحدة.
أوباما شكر بوتين علي الدور الإيجابي لروسيا في إنجاز اتفاق جنيف
مخاوف من اتجاه إيران غربًا بعد تجاوز عقدة ملفها النووي
بتسوية الأزمة النووية وتطبيع العلاقات الغربية مع إيران، فقدت روسيا أحد أهم مصادر الإلهاء التي كانت تشغل السياسة الأمريكية عن الدور الروسي، كما أن روسيا ستفقد دور الوسيط بين إيران والغرب وستصير طهران أقل اعتمادية على الدبلوماسية الروسية بعد تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي، وربما لن يدوم العرفان الإيراني طويلاً لمجهودات الديبلوماسية الروسية في هذا الصدد، كما أن تطبيع العلاقات الإيرانية – الأمريكية سيزيد من دائرة النفوذ الأمريكي في دول المجال الحيوي لروسيا.
إجمالاً، تتمثل المكاسب الروسية من الاتفاق في كون قدرتها كقوة عظمى على تطبيق اتفاقية حظر الانتشار النووي، بالإضافة إلى ما يفتحه من آفاق للتعاون الاقتصادي والعسكري والنووي السلمي مع إيران، بينما خسائره في تأثر قطاع الطاقة الروسي من عودة إيران كمنافس محتمل للسوق العالمية، والخشية من توجه إيران إلى الغرب؛ ما سيؤثر سلبًا على المصالح الروسية.