“أنا لا أهتم بالواقع، أهتم فقط بتغييره“
نيكولا ميكافيللي
تجّلت عقلية ميكافيللي في صنع رؤية لتعريف السياسة من منظوره في جملة صغيرة، فهو بالتأكيد يُدرك يقينًا أن التغيير وامتلاك القدرة والقوة هو مدخل الواقع والتمكن منه، ولكن هل تغيير الواقع يأتي دون إدراك لأبعاده؟
قطعًا لا، عملية التغيير تتطلب دراسة وفهم، ودراية وإدراك بالبيئة والتاريخ والأحداث، أي أن التحرك لفهم الواقع السياسي هو مفتاح اللعب لعملية التغيير، وبالتالي نُدرك أن ميكافيللي أراد إخبارنا أن الاهتمام بالواقع دون ربطه بخطوات عملية للتحرك هو محض هُراء لا طائل منه!
وفي هذا المقال، نحاول إعطاء بعض الخطوات لرؤية مختلفة للمشاهد السياسية اليومية، والأحداث الجارية بأسلوب مبسط للقارئ ليتمكن من مواكبة التيار السياسي العنيف، وليتمكن من صنع رؤية تُمكنه من التحرك أو على الأقل إيجاد مسارات للتحرك.
1- افتراض “العقلانية” في الصراع:
(لا حرب إلا ويتبعها سلام، ولا صراع بدون تسوية)
دائمًا ما يكون العنف والصراع السياسي له نهاية مؤقتة، ولا يجوز بأي حال من الأحوال في تحليلك لأمر سياسي أن تفترض سذاجة اللاعب السياسي، أو أن تفترض حُمق الآخر، لأن الأصل هو افتراض “السلوك العقلاني” لأطراف اللعب، بمعنى أن كل طرف يُريد أن يفوز لا أن ينتحر، وكل شخص مهما بلغ تصعيده العنيف في الحرب إلا أنه في النهاية يُريد حسم الأمر وقلب موازين القوى لصالحه ثم إنهاء الأزمة.
فالشاهد أن الانتحارية في سلوك اللاعب السياسي أو حسن النية هذا أمر غير واقعي في التحليل، فدائمًا اجعل افتراضك الأوّلي في التحليل هو افتراض “العقلانية” من أطراف اللعب حتى يثبت عكس ذلك حين تتدرج في الافتراضات، فمثلا هتلر حتى وإن كان استنتاجنا في النهاية أن سلوكه “لا عقلاني” في خوض الصراع إلا أن التصور المبدئي يجب أن ينطلق من افتراض الإستراتيجيات وخطط اللعب التي يضعها كل لاعب للانتصار على الآخر.
2- مسح البيئة:
فلان – الرحالة – قرر الذهاب إلى الإسكيمو في زيارة دون أن يعلم تضاريس المكان ومناخه أو تاريخ شعوبه وتقاليدهم، الناتج المنطقي معاناة شديدة، ومن ثم فشل ذريع في كشف أغوار المكان، كذلك الأمر في تحليل الواقع لدولة ما يجب على المُحلل إدراك أبعاد البيئة من حيث (جغرافيا المكان، تاريخ الشعوب، النظم السياسية الحاكمة، الديانات والأفكار، إلخ) حينها فقط تكون قد بدأت تقتحم المجال التحليلي لتلك البقعة وأصبحت رؤيتك للأحداث من نظارة بيئة الإقليم، فكان النتاج الطبيعي صورة أكثر واقعية لتوقعاتك وتحليلاتك دون شطحات أو افتراضات مكتبية لا علاقة لها بالواقع.
فمثلًا تحليل الوضع الأفغاني دون إدراك للطبيعة الجغرافية القاسية للبيئة أو ثقافة الشعوب ومعتقداتهم الراسخة، سيكون المُخرج النهائي عبارة عن نتائج تشويهية وقرارات خاطئة، كما فعلت الولايات المتحدة في حربها على الأفغان أو فيتنام، وما نتج عنها من خسائر فادحة تكاد تصل للفضيحة الدولية.
3- عناصر التأثير (محلية، إقليمية، ودولية):
تخيل معي إلقاء حجرًا في النهر، يبدأ تأثير الحجر الآني في تكوين دائرة صغيرة ما تلبث أن تتسع شيئًا فشيء حتى ينتهي تأثير الحجر، كذلك الوضع في الواقع السياسي دائمًا مُترابط تؤثر فيه دوائر عدة، ما يلبث الحدث أن يحدث إلا وتجد تفاعلًا وتقاطعًا بين الثلاث دوائر، ومن أكبر الكوارث التحليلية هي الانغلاق على عنصر واحد وجعله أساس لتحليلك للحدث.
فمثلًا عند الحديث عن الأزمة السورية في إيجاز فيجب إدراك الأبعاد الثلاثة للتحرك:
– اللاعب المحلي (نظام بشار – المعارضة السورية والفصائل الجهادية – تنظيم الدولة – الأكراد).
– اللاعب الإقليمي (إيران – تركيا – دول الخليج).
– اللاعب الدولي (أمريكا – روسيا – الاتحاد الأوروبي – الأمم المتحدة).
صراع هؤلاء اللاعبين له عدة ملاعب ويُدار من عدة منصات، والتفاعل والتقاطع والتماس بين الثلاث دوائر لا يتوقف، والمصالح المشتركة تتحكم في أوصال الأزمة، ويبقى المخرج الوحيد هو فك التشابك وتحديد دور كل لاعب ووظيفته في النسق.
4- لعبة الاخطبوط:
ذهب هذا الشخص لشراء واقي لشاشة الجهاز المحمول، ودفع مبلغًا ليس بهين في شيء ليس له أهمية حيوية في استخدامه للشاشة، ولكن يبقى السؤال لما هذا الأمر؟
كانت الإجابة محددة وصريحة، أن “الواقي” هو خط الدفاع الأول “للشاشة”، على الرغم من عدم جدواه الآن، إلا أنه حامي “للعنصر الإستراتيجي” في الجهاز!
كذلك الدول في تعاملها مع الصراع الدولي، دائمًا تلجأ لصنع أذرع لها في الدول الأخرى، ومناطق الصراع غرضها الأساسي حماية “الأمن القومي والسيادة” للدولة، والضغط على الدول الأخرى من أجل تحقيق المصلحة العامة للدولة وتعديل موازين القوى لصالحها.
فحين ينظر المحلل لأطراف الصراع، يجب التمييز بين أذرع الإخطبوط وبين القوى المحلية، فهذا الذراع تابع لوجيتسيًا وفكريًا للقطب (أ)، وهذا الذراع تابع اقتصاديًا لـ(ب)، وهكذا حتى نصل لولاء كل ذراع في الصراع وبالتالي رؤية كُلية أفضل، والأخطر أنها تُنقذ عقولنا من الوعي الجمعي الذي يعشق التصنيف ويهوى لعبة المؤامرة واختزال الحقائق لإراحة الذهن من التفكير والتحليل.
تلك النقاط السريعة كانت المدخل لبدء سلسلة من المقالات هدفها إعطاء حياة للتحليل، وضخ الروح في رؤية المشهد؛ في محاولة لصنع عقلية قادرة على تخطي الاختزال والتعصب في رؤية التيار السياسي الهادر، ولكن هل هناك سبيل للتغيير بعد فهم المشهد، أو على الأقل لمس مسارات للتحرك؟!