ترجمة وتحرير نون بوست
العالم اليوم يراقب سوسيا، لمعرفة ما إذا كانت إسرائيل ستعمد إلى هدم المجتمع الذي يأوي 340 فلسطينيًا جنوبي تلال الخليل، فالمحكمة العليا رفضت تأجيل الهدم القسري للأبنية التي يعيش بها حوالي 55 عائلة فلسطينية منذ أن تم تشريدهم جرّاء الحفريات الأثرية التي ترعاها الدولة، والتي ساعدت على توسيع المستوطنة المجاورة.
الحياة تحت خطر الهدم هي تجربة مروعة، فالفلسطينيون في سوسيا يشعرون ربما بالتشوش وعدم الاستقرار والخوف الدائم والمستمر من أن حياتهم قد يتم اختراقها وهدمها في أي لحظة، وأنا أعرف هذا الشعور لأنني مررت بوضع مماثل، فالحي الذي أقطن فيه، بدأت به عمليات التدمير بالفعل.
قبل بزوغ الفجر في يوم 31 مارس، حاصر العشرات من جنود الاحتلال وضباط الشرطة الشوارع، وأحاطوا بالمنزل المؤلف من طابق واحد، حيث يعيش أخي الأكبر شريف وعائلته المؤلفة من ستة أفراد، أمي التي تبلغ من العمر 79 عامًا، وزوجتي وأطفالي الثلاثة وأنا، وفي الليلة التي سبقتها، كنا قد ذهبنا إلى الفراش وأحلام النزهة التي سنقوم بها في صبيحة اليوم التالي تدغدغ مخيلتنا، ولكن بدلًا من ذلك، استيقظنا على أصوات سيارات الجيب والمعدات الثقيلة المخيفة، وأصوات خبط قوات الأمن الإسرائيلية العنيف على الأبواب، وهم يصرخون بالعبرية بما معناه أن علينا الخروج من المنزل حالًا، فلقد جاءوا لهدم منزلنا.
لقد ولدت في القدس، ووالداي ولدوا في القدس أيضًا، وأجدادهم ولدوا هنا في القدس، منزلنا المتواضع يبلغ عمره حوالي الـ70 عامًا، أي أقدم من دولة إسرائيل، ولقد عشت هنا في حي الصوانة، لأكثر من 40 عامًا، وهو حي يقع بين المدينة القديمة وجبل الزيتون، وليس بعيدًا عن وادي الجسمانية، حيث قبض الرومان على النبي عيسى، كما أنه قريب من المنطقة التجارية والمستشفيات والمقابر الإسلامية واليهودية، والمواقع الدينية الكريمة للديانات التوحيدية الثلاث الكبرى في العالم، وبعبارة أخرى، أنا أعيش في مكان إستراتيجي للغاية.
في ديسمبر، بدأ مخططو المدن، المهندسون المدنيون، والعمال التابعون للإدارة الإسرائيلية للطبيعة والحدائق بمعاينة المنطقة وذرعها صعودًا وهبوطًا، وأمروا السكان بإزالة الأغراض مثل الأثاث أو الخشب المكسور من بيوتهم، وهو الأمر الذي تم تلبيته من قِبلنا، كما تم حينها قياس المنطقة بأدوات المسح، وتحديد علامات ممرات التنزه، وفي نهاية المطاف قالوا لنا بأننا نعيش ضمن “الأراضي العامة” داخل ما يسمى بأسوار حديقة القدس الوطنية، التي تأسست في عام 1974، وتم تحذيرنا بأن لديهم خطط لإجراء المزيد من الأعمال.
تشير وثائق الحكومة الإسرائيلية بأنها تهدف إلى وصل الحديقة الوطنية لوادي تسوريم ومستوطنة بيت أوروت، والتي تقع جنوبي الجامعة العبرية في القدس على جبل المشارف، بالموقع الأثري لمدينة داوود والمستوطنات اليهودية في أحياء سلوان الفلسطينية، وفي النهاية وضع حزام يهودي يحيط بالجانب الشرقي المسلم للمدينة القديمة، وإدارة الحدائق سبق لها وأن تباهت وتفاخرت بالتجميل الذي أحدثته في هذه المنطقة، التي يمر من خلالها العديد من الحجاج والمتنزهين اليهود خلال الأعياد اليهودية.
توظف إسرائيل العديد من السياسات الهادفة لدفع الفلسطينيين للخروج من القدس الشرقية، بما في ذلك هدم المنازل، وظاهريًا تعول سلطات الاحتلال على حقيقة أن أصحاب هذه المنازل لا يمتلكون تصاريح البناء اللازمة، وترى منظمات حقوق الإنسان أن ممارسات الهدم الإدارية، هي ممارسات غير شرعية، لأن إسرائيل ترفض عادة إصدار تصاريح بناء للفلسطينيين، ولأن نظام التصاريح يهدف، بطريقة أو بأخرى، لدفع الفلسطينيين للخروج من المناطق التي تسعى إسرائيل للسيطرة عليها، كما أن هدم المنازل قد يعبر أحيانًا عن سياسة العقوبة الجماعية عن الأفعال العنيفة التي ارتكبها بعض أفراد الأسر الفلسطينية في المنطقة.
جميع ما تقدم يساعد على تفسير ما حدث معنا صباح ذلك اليوم من مارس؛ ففي البداية، قال لنا المسؤولون بأنهم جاؤوا فقط لهدم الجدار الشرقي من المنزل المطل على الشارع، رغم أنه لم يكن بحوزتهم أمر بالهدم، لذا ذهبت إلى القسم الذي يعيش ضمنه شقيقي شريف من المنزل لأخبره بذلك، ولكن عندما وصلت إلى هناك، قال لنا المسؤولون بأننا نقف في غرفة يخططون لهدمها، وقاموا بسحبنا بعنف من المنزل، مما أسفر عن إصابة شقيقي شريف بساقه، وفي ذات الوقت، باشروا بهدم الغرفتين الخارجيتين الواقعتين من القسم الآخر من المنزل الذي أعيشه به مع عائلتي، دون أن يخبرونا بذلك، وحينئذ صرخت زوجتي “لقد باشروا بهدم منزلنا!”.
عمد عناصر الشرطة والجنود، الذين كان الكثير منهم يلثمون وجوههم، إلى دفعنا للدخول إلى الغرف الداخلية للمنزل، وحجزونا هناك حتى يتمكنوا من العمل دون عوائق، وعندما خرجت مرة أخرى إلى فناء المنزل، كانوا يهدمون شجرة كبيرة متوضعة هناك، وعندما سقطت، انهار جزء من جدار الحديقة، وقطعة منه أصابت نجلي محمد البالغ من العمر 12 عامًا في ساقه، ووثقت عائلتي الضرر بكاميرات الهواتف النقالة، حتى أنهم قطعوا كهرباء المنزل، ودمروا أنابيب الصرف الصحي.
بعد أقل من أربع ساعات، غادر الجنود دارنا، وحينها كان المطبخ وثلاث غرف أخرى من المنزل قد تم تدميرهم تمامًا، كما تم تهديم الجدار الذي يفصل المنزل عن الشارع، قن الدجاج، والحديقة التي نحبها، والأشجار التي تم اقتلاعها بواسطة الجرافة تم وضعها إلى جانب المنزل، وتحول المكان الذي كان فسحة أنيسة للعب أولادي تحت ظلال الأشجار المعمرة الوارفة، إلى كومة من الأنقاض المتجمعة فوق بعضها.
لم يكن من السهل العيش في منزل مُحاط بالأنقاض، خصوصًا أنني وأخي من فاقدي نعمة البصر، ومع ذلك، وجدت نفسي غير قادر على رمي الخرسانة المحطمة، التي كانت مختلطة مع شظايا من ذكريات حياتي، كل نبتة اقتلعت، وكل قطعة مكسورة من الأثاث، كانت تحكي جزءًا من حكايتنا، وعلى الرغم من صعوبة المشي فوق وحول الأنقاض في حياتنا اليومية، بيد أنه كان من الأصعب عليّ أن أتخيل نفسي وأنا أقذف بها إلى حاوية القمامة.
على مدى الأسابيع التي أعقبت عملية الهدم، كانت المخلفات تشكل مصدرًا للالتباس، فبعض الفلسطينيين الذين عانوا مما عانيناه أيضًا، تم توجيههم لإزالة الأنقاض تحت طائلة مواجهة غرامات طائلة، والآخرون الذين رحّلوا الأنقاض فورًا، شعروا بأنهم تخلوا عن الشواهد التي تدل على أفعال إسرائيل القبيحة، أما بالنسبة لي، فلم أكن أرغب باتخاذ أي إجراء من شأنه أن يقوض وضعي القانوني، كما لم أكن أرغب بإتيان أي فعل يستقطب المزيد من عمليات الهدم، وفي الوقت عينه، كنت أريد استعادة بعضًا من الحياة الطبيعية لحياتنا اليومية، وتوفير مساحة لعب آمن لأطفالي، عن طريق وضع سياج بيننا وبين الطريق الذي يمر بمنزلنا.
الحياة بالنسبة للفلسطينيين الذي يعيشون في القدس تعقدت بشدة، فالقوانين تصدر منحازة بوضوح لصالح السلطات الإسرائيلية والمواطنين اليهود، وخاصة المستوطنين منهم، ويتم تفسيرها بشكل غير عادل وغير متوقع، وكوني مدير لمدرسة أطفال مخصصة للأطفال المكفوفين والمبصرين على حد سواء، سبق لي وأن دعمت مئات الأسر في خضم محاولاتهم للبقاء في أرض أجدادهم، ولكن الآن أصبحت عائلتي من بين هؤلاء الأسر، وكنا نعيش في خوف يومي من عودة الجنود الإسرائيليين إلينا، وعدم وجود أحد، حينئذ، ليحمينا.
وفعلًا، وبعد عدة أسابيع، وبعد أن دفعت مبالغًا كبيرة لإصلاح الكهرباء وأنابيب الصرف الصحي، عاد الجنود إلى المنزل، وحينها كنت في العمل، أحضّر لحفلة نهاية العام الدراسي في المدرسة، واتصل بي شقيقي ليقول لي بأن الجنود ومسؤولي البلدية ظهروا أمام منزلنا لترحيل الأنقاض التي تركناها في مكانها، ولكونني قد سمعت سابقًا من فلسطينيين آخرين في القدس مروا بذات التجربة بأنه إذا قامت البلدية بترحيل الأنقاض، سيكلفوننا برسوم باهظة، وربما سيطالبون لاحقًا بحقوق في الأرض، لذا طلبت من أخي منعهم من القيام بأي عمل، وبعد عدة ساعات من الجدال، أعطونا ساعتين لإزالة الفوضى، وبعد أن شرحنا لهم أنه من المستحيل تنفيذ الأمر ضمن هذه المدة الزمنية القصيرة، تم الاتفاق على منحنا مهلة يومين فقط.
في اليوم التالي، استطعت العثور على شركة جرافات مستعدة لترحيل الأنقاض على أن تقبض أجورها في وقت لاحق، وفعلًا بدأنا العمل، وفي يوم 30 مايو، الموافق لصباح يوم السبت، الشابات اليهودي، والذي يتم خلاله إغلاق المكاتب الحكومية الإسرائيلية، عاد المسؤولون الإسرائيليون إلى منزلنا مع عناصر من الشرطة، وهددوا بتغريمنا أو اعتقالنا لأننا كنا نرحل الأنقاض بدون تصريح، وحينها لم نكن نعرف فيما إذا كان علينا أن نضحك أم نبكي، فهم أنفسهم طلبوا منا تنظيف الحطام وأعطونا مهلة في اليوم السابق!
من ثم هددونا بأننا سنتعرض للغرامة أيضًا إذا قمنا بالتخلص من الركام بصورة غير قانونية، وقالوا لنا بأن مواقع ترحيل الأنقاض القانونية تغلق أبوابها في هذا اليوم ولا تفتح حتى يوم الأحد، وتم انقاذ الموقف من قِبل عمال شركة الجرافات، الذين كانوا مشغولين بإزالة الأنقاض، عندما تعهدوا بإبقاء الأنقاض في شاحناتهم حتى فتح أبواب موقع الترحيل.
الكثير من الأشخاص يعرفون بأنه تم هجر أكثر من 600 قرية فلسطينية من قِبل سكانها خلال سنوات من تأسيس دولة إسرائيل، وأنه تم هدم معظم هذه القرى، ويعرف بعض الناس أيضًا بأن عشرات الآلاف من المنازل تم هدمها من قِبل إسرائيل منذ حرب عام 1967، حيث تم هدم حوالي 500 منزل في القدس الشرقية وحدها منذ عام 2004، والقلة فقط يعرفون بأن هناك أكثر من 11.000 أمر هدم جاهز ومتروك، متعلق بمبانٍ فلسطينية فقط في المنطقة (ج) من الضفة الغربية، وهذا يعني أنه يمكن لإسرائيل هدم هذه المنازل في أي لحظة، دون أي إخطار أو إنذار، ويعيش الفلسطينيون في تلك المنازل في خوف مستمر ودائم.
على أرض الواقع، تسعى إسرائيل لاستخدام أوامر الهدم الكثيرة بوسائل أكثر فعالية لتنفيذ خططها بإجلاء السكان، لذلك كثيرًا ما توصي الفلسطينيين الذين يسكنون في منازل مهددة ومشمولة بهذه القرارات، بهدم منازلهم على نفقتهم الخاصة، محررين السلطات الإسرائيلية بذلك من المتاعب والمخاطر، وبعض السكان يقومون بذلك فعلًا، ولكن يبدو بأن هذا ليس كافيًا بالنسبة لإسرائيل، فلا تزال السلطات تبتكر وتجرب طرقًا جديدة لتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، حيث يبدو بأن منزلي هُدم بالتعويل على قانون البلديات المتعلق بنظافة الأماكن العامة، بغية تجنب التدقيق القضائي، وفقًا لما أفادني به مكتب قانوني فلسطيني طعن بعملية الهدم قضائيًا، وفي الواقع، في الأشهر الثلاثة قبل هدم منزلي، وصلني أمران لإلقاء الأشياء المكسورة والقديمة خارج البيت، وفعلت كما طلبوا، والهدم ليس مدرجًا كعقاب على مخالفة هذه الأوامر، ولكن بعض المحامين المختصين بقضايا حقوق الإنسان أخبروني بأنهم تواجهوا مع حالات حديثة أخرى استعملت خلالها السلطات البلدية الإسرائيلية هذه القرارات كذريعة لتسوية المنازل بالأرض.
العيش ضمن هاجس خطر الهدم هو، كما يدرك سكان سوسيا، أمر مرهق ومدمر للأعصاب، حيث يبدو من المستحيل الفوز على القوة القانونية والمادية لأوامر الهدم الإسرائيلية، وعائلتي لا تزال غير واثقة من الخطوة التي يتوجب علينا الإقدام عليها الآن، ولكن مع ذلك، فإننا واثقون بأننا لن نستسلم، وإذا هدموا بيتنا برمته، فإننا مستعدون لنعيد بناءه من جديد.
المصدر: واشنطن بوست