توجه وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” إلى القاهرة بصحبة عدد كبير من رجال الدبلوماسية الأمريكية وعسكريين بارزين في مطلع جولة إقليمية تبدأ من الشرق الأوسط وتنتهي بجنوب شرق آسيا، ربما هي محاولة أمريكية لإعادة استخدام الدبلوماسية لحل القضايا العالقة في المناطق الملتهبة من العالم حفاظًا على المصالح الأمريكية العليا، خاصة بعد توقيع اتفاق تاريخي مع إيران، ما يستدعي تدخلًا لطمأنة دول الخليج وقد تم التأكيد على أن زيارة كيري القادمة للخليج تحتوي على هذا الهدف ومآرب أخرى.
يرى محللون أن زيارة كيري للقاهرة لها هدف رئيسي متمثل في إذابة الجليد بين القيادة الجديدة في مصر التي فرضت واقعًا لم ترض عنه كافة أجنحة الإدارة الأمريكية، وبين الجناح الدبلوماسي في الإدارة الأمريكية من جانب آخر الذي اتخذ مواقف تحفظت عليها الإدارة العسكرية الجديدة في مصر والتي آثرت أن تتعامل مع جناح البنتاغون الذي ربما دعم كثير من خطوات التحول السياسي في مصر بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في انقلاب الثالث من يوليو عام 2013.
التقى كيري في قلب القاهرة بسامح شكري وزير الخارجية المصري في أولى جلسات ما يُعرف بـ”الحوار الاستراتيجي” بين مصر والولايات المتحدة والذي توقف انعقاده منذ العام 2009، وما لبث أن استؤنف هذه الأيام، ثم تلى هذه الجلسة ذهاب كيري إلى الجنرال السيسي مباشرة، تلك الزيارة بكل تفاصيلها لها أبعاد قد يُفهم منها ما وصلت إليه شكل العلاقة التي تجمع بين مصر والولايات المتحدة أو على أقل تقدير ستساهم في معرفة الخطوط القادمة لهذه العلاقة التي وصفت قبل ذلك من الجانب المصري بالزواج الشرعي.
لا يمكن استبعاد الأنباء الواردة قبيل هذه الزيارة ولا يجب فصلها عن السياق العام للعلاقات المصرية الأمريكية، فالولايات المتحدة سلمت مصر قبيل زيارة كيري 8 مقاتلات حربية من طراز F-16 وهي دفعة جديدة من هذه المقاتلات تُسلم لمصر بعيدًا عن إفراج الولايات المتحدة قبل هذا الحدث بأشهر عن 10 مروحيات أباتشي بعد تجميد تسليمهم فترة من الزمن وكذلك مجموعة من الزوارق الحربية إضافة إلى الحديث عن تزويد مصر بأجهزة رقابة للحدود، وبالطبع يمكن أن نقول أن مصر تعاملت في هذا الصدد مع الجناح الأكثر مرونة داخل الإدارة الأمريكية خلال الفترة الماضية مما أوحى بوجود اضطرابات في العلاقة بين البلدين بسبب هذه الازدواجية التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع الحالة المصرية التي أعقبت انقلاب الثالث من يوليو.
الحوار الاستراتيجي بين القاهرة وواشنطن هدفه الرسمي مناقشة القضايا الثنائية التي تخص البلدين والتي تتفاعل مع النقاط الساخنة في المحيط الإقليمي، لكن تكمن أهمية هذا النقاش أو هذا الحوار في أنه يرسم العناوين الرئيسية لعلاقة القاهرة بواشنطن في الملفات الساخنة وطريقة التعامل معها من الجانبين على الصعيد السياسي والأمني ناهيك عن بعض النشاطات الاقتصادية التي تتم على هامش مثل هذا الحوار.
يبدو أن الولايات المتحدة بدأت في تحديد متطلباتها الاستراتيجية من مصر في الفترة القادمة دون الالتفات كثيرًا إلى الوراء، فعلى الرغم من المناوشات بين البيت الأبيض والقاهرة عقب الانقلاب العسكري في مصر إلا أن الأمر لم يأخذ شكل الجدية المطلوبة ليُعيق حركة نظام الجيش الجديد في مصر، فكان رد الفعل الأمريكي الأبرز هو إجراء تعديلات على المعونة العسكرية المقدمة لمصر. فهم البعض هذا الأمر على أنه ضغطٌ أمريكي على مصر لكن الأمر في حقيقته رسمٌ جديد للمطلوب من مصر الفترة القادمة لدى أجندة الولايات المتحدة.
فستكتفي الولايات المتحدة بتوجيه معونتها إلى جانب مكافحة الإرهاب في سيناء وضبط الحدود وهي جوانب تُسمى في العلوم الأمنية جوانب دفاعية، وبالتالي نستطيع فهم ما ستطلبه الولايات المتحدة من مصر الفترة القادمة في القضايا الأمنية في المنطقة وبالطبع سيكون على رأس هذه المتطلبات الاستمرار في التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل.
أما على الصعيد السياسي فالولايات المتحدة لا تريد أن تخسر الجيش المصري أحد أكبر الحلفاء في المنطقة ، لذلك تتبنى واشنطن خطابًا هشًا في مواجهة قمعية النظام المصري الجديد الذي تتعامل معه، فحديث كيري من قلب القاهرة لم يُخل من محاولات حفظ ماء وجه الدبلوماسية الأمريكية بالحديث عن ضرورة إجراء انتخابات برلمانية نزيهة رغم مرور أشهر كثيرة على رفض النظام المصري إقامتها وضرورة إطلاق حرية الصحافة وما إلى آخره من أحاديث عن الديمقراطية لا يعتني بها الجانب المصري من الأساس.
هناك توجهات من لوبيات داخل الولايات المتحدة طالبت بالكف عن هذا النوع من الخطاب، كما دعت صناع القرار فى البيت الأبيض بأن يدعوا الشك والحذر جانبًا أثناء التعامل مع الجانب المصري، وهي مطالبة بتوجه جاد نحو القاهرة وترك التململ، هذا بسبب نظرتهم لأهمية مصر كشريك في عملية مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط.
كما أن حالة العزوف الأمريكية عن الشرق الأوسط في الفترة القادمة تجعل هناك إلحاحًا لتحديد الدور المصري في الإقليم، بحيث تُكَوّن الولايات المتحدة شراكة بين الخليج ومصر تستطيع أن توازن بها النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، لكن حتى الآن لم تظهر إرهاصات لشكل هذه الشراكة خاصة مع اختلاف وجهات النظر بين مصر والدولة الخليجية الكبرى السعودية في عدة بؤر مشتعلة بالمنطقة منها الصراع السوري والملف الليبي، كذلك ترى الولايات المتحدة ضرورة تكوين هذه الشراكة لمواجهة التمدد الجهادي وظاهرة داعش لأن وجهة النظر الأمريكية ترى أن الخليج وحده لن يستطيع التصدي لتنظيم الدولة وعليه الاستعانة بقوة عسكرية إقليمية كالجيش المصري.
على الجانب المصري تحدث سامح شكري وزير الخارجية المصري أن هناك فرصة في الحوار الاستراتيجي لمراجعة العلاقات مع واشنطن، ولكن لم تأتي الأجندة المصرية بأي جديد على أي حال وقد يكون الجزء الغير المعلن من أجندة الحوار أكبر بكثير من الجزء المعلن، كما أنه ليس هناك معلومات متوفرة عن طبيعة لقاء كيري بالسيسي وما تطرق إليه الطرفان، لكن المؤكد أن هذا اللقاء يحمل دلالات خطيرة على أهميته.
المؤكد الآن أن البلدين لديهم رغبة متبادلة في تسوية الخلافات العالقة وترك أجواء التعامل مع الأجنحة المختلفة داخل الإدارة الأمريكية لتكوين وجهة نظر أمريكية موحدة تجاه الدور المصري، هذا الأمر يستدعي التخلي عن بعض المصطلحات الأمريكية التي تستخدمها بعض الأجنحة في وصف الوضع داخل مصر كإبداء القلق أو عدم الرضا أو الشجب والإدانة، وهو ما يعني التعامل بشكل أكثر واقعية وبراجماتية مع النظام الجديد، ومن هذا يبدو أيضًا أن الولايات المتحدة تخشى أن تدخل مصر في دوامة الفوضى التي تعم المنطقة إذا ما أصرت على التعامل بالمنطق القيمي الذي يحث على دعم الديمقراطية والحريات، فالولايات المتحدة تفضل الآن من وجهة نظر مصالحها “مصر قمعية” أفضل بالنسبة إليها من سقوط مدو لسلطة الجنرالات الحالية، التي تعلم واشنطن أن هذه المرة لن تكون كثورة يناير مطلقًا ولن يمكن احتوائها بسهولة.
وقد حاولت القاهرة أيضًا التأكيد على أن ليست هناك خلافات مؤثرة بين القاهرة وواشنطن وقد ظهر ذلك في حديث وزير الخارجية المصري سامح شكري الذي قال أنه “لا توجد خلافات كبيرة” بين بلاده والولايات المتحدة، لكن “هذا لا ينفي وجود تباين في وجهات النظر حول عدد من الموضوعات”، وهو ما يعني أن مصر لا يوجد أمامها غير تعزيز العلاقات الثنائية في ظل هذا الوضع كما تنفي بهذا أيضًا أي نية للتباعد مع واشنطن كما تردد مؤخرًا في أوساط إعلامية مصرية.
هذه المستجدات على صعيد الدولتين فسرها البعض على أنها تصحيح أوضاع من الجانبين، ولا شك أن إجراء الحوار الاستراتيجي يعد فى حد ذاته تطورًا متجاوزًا لفترة من التوترات عاشتها العلاقة بين مصر والولايات المتحدة منذ أحداث 30 من يونيو وما تلاها من انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب محمد مرسي، ولكن الآن مع تطورات الساحة الإقليمية يبدو أن شبح الإرهاب عامة وداعش بالتحديد استطاع نظام السيسي أن يستغله في مواجهة العزوف الأمريكي عن التعامل معه، إلى أن تعاملت الإدارة الأمريكية مع الجنرال السيسي وتصرفات نظامه القمعية بشكل أكثر مرونة من ذي قبل.