صناعة ألمانية
“إذا أردنا أن نعرف كيف حال كرة القدم الألمانية، فعلينا أن نعرف كيف حال بايرن ميونيخ”، جملةٌ كان ولايزال جل عشاق ومتابعي الماكينات الألمانية (المانشافت) يتداولونها، للدلالة على حجم وتأثير النادي البافاري في صناعة إنجازات ألمانيا الكروية عبر تاريخها، ويكفي أن نعرف أن خمسة من مجموع سبعة كؤوس أبطال أوروبية مجيدة تحتويها خزائن الاتحاد الألماني، أُحرزت من قِبل عملاق الجنوب الأحمر، الذي ما انفك يرفد منتخب المانشافت الأول بأبرز وأهم نجومه وصناع أمجاده، التي كان آخرها إحرازه لبطولة كأس العالم الأخيرة في البرازيل، بتشكيلةٍ كان قوامها الأساسي وعمادها الرئيسي لاعبي بايرن ميونيخ، ليثبُت – بما لا يدع مجالًا للشك – أنه فخر صناعة كرة القدم الألمانية وعنوان نجاحاتها.
المراحل التأسيسية
شأنه شأن معظم الأندية الألمانية، لم يحظَ النادي البافاري ببداياتٍ يسيرةٍ مبشرةٍ، حيث تأخرت انطلاقته الحقيقية إلى ما يربو عن الستين عامًا، قضاها بين مدٍ وجزرٍ وصعودٍ وهبوطٍ، فرضته عليه الأحداث السياسية الساخنة والحروب العالمية الطاحنة التي كانت بلاده ألمانيا ضلعًا رئيسيًا فيها، ليلبث في الظل تلك الفترة الطويلة، رغم أنه يعتبر من الأندية الأعرق والأقدم تأسيسًا على المستوى المحلي والأوروبي، ففي السابع والعشرين من شهر فبراير لعام 1900، قام لاعب قديم يدعى فرانز جون، بالانشقاق عن نادي (ميونيخ 1879) رفقة عشرةٍ من زملائه اللاعبين، وذلك احتجاجًا على قرار رئاسة النادي بمنع لاعبيه من الانتساب إلى الرابطة الألمانية لكرة القدم، وشرع بتأسيس نادٍ خاصٍ به وبزملائه المنشقين، اختاروا له اسم (بايرن ميونيخ)، ليبدأ نشاطهم الرياضي سريعًا، ويخوضوا أولى مبارياتهم الرسمية أمام جارهم البافاري نورنبيرغ بعد أقل من عام على التأسيس، ويستمر النشاط بتواتر عالٍ ولكن على صعيد ضيق، انحصر في نطاق إقليم بافاريا ومنطقة جنوب ألمانيا، حيث لم يفوت البايرن فرصة المشاركة بأي من الفعاليات المقامة في هاتين المنطقتين من دورياتٍ وكؤوس، حتى أصبح له اسمٌ يذكر بين الأندية الألمانية، ولكن رياح الحرب العالمية الأولى الهوجاء قوضت ما تم بناؤه، وأعادت النادي إلى نقطة الصفر.
وحاول أعضاء النادي إخراجه من مرتع السياسة الوخم، والنأي به بعيدًا عن تأثيراتها الرهيبة في فترة ما بين الحربين، فنجحوا فعلًا في اقتناص أول لقب كبير في تاريخ النادي بالفوز بدوري ألمانيا لكرة القدم عام 1932، ولكن رحى الحرب دارت مجددًا فشغلت العقول وعطلت الألباب، ووضعت العصي في عجلات تطور النادي البافاري والكرة الألمانية عمومًا، فلم تقم لها قائمةٌ حتى منتصف الخمسينيات حين حظي منتخب المانشافت بشرف الفوز بكأس العالم لأول مرة في تاريخه عام 1954 بعد معجزة نهائي برن، ليكون ذلك حافزًا للأندية الألمانية وعلى رأسها البايرن لنفض غبار الحروب واستعادة الاهتمام بكرة القدم، فبدأ التأسيس من جديد والبناء على دعائم متينة، قوامها المواهب الألمانية الشابة، التي قرر النادي إيلاءها الدعم المطلق خلال حقبته التحضيرية المطولة، والتي تخللها فوز النادي بأول ألقابه في كأس ألمانيا عام 1957، قبل أن يتعرض النادي لصفعة مؤلمة إثر استبعاده من أولى بطولات الدوري الألماني بشكله الجديد (البوندسليغا) عام 1963، وذلك لحساب نادي المدينة الآخر (ميونيخ 1860)، ولكن هذه الصفعة لم تزد المارد البافاري إلا إصرارًا على المضي قدمًا في مشروعه الضخم، الذي اقتربت ملامحه من الظهور بوضوح في سماء ألمانيا وأوروبا.
البايرن الذهبي
لم يطل انتظار محبي البايرن كثيرًا لرؤيته ضمن نخبة البوندسليغا، فبعد عامين فقط استطاع فريقهم التأهل إلى جنة الأضواء، بتشكيلة غنية بالمواهب الألمانية الواعدة التي صنعت فيما بعد ربيع البايرن والمانشافت، على رأسها القيصر الكبير فرانس بيكينباور والحارس التاريخي سيب ماير والهداف الشهير غيرد موللر، الذين استطاعوا تطريز الشطر الثاني من حقبة الستينيات بلقب في الدوري وثلاثة ألقاب في الكأس الألمانية، إضافةً إلى لقب أوروبي في كأس الاتحاد عام 1967، وأكملوا تألقهم مطلع السبعينيات رفقة نجوم جدد كبول برايتنر وأولي هوينينغ وهانز جورج شوارزنبيغ، باحتكارهم لقب الدوري الألماني لثلاثة مواسم متتالية، إضافةً إلى لقب خامس في كأس ألمانيا، قبل أن يحين موعد إنجازهم الأهم، والذي تمثل بالفوز بأمجد الكؤوس الأوروبية، دوري أبطال أوروبا لأول مرة في تاريخ الأندية الألمانية على الإطلاق، وذلك بفوزهم في نهائي بروكسل عام 1974 على أتليتكو مدريد الإسباني برباعية بيضاء في مباراة الإعادة بعد انتهاء المباراة الأولى بالتعادل، وتبع هذا الإنجاز بأسابيع فوز منتخب الماكينات الألمانية بكأس العالم للمرة الثانية في تاريخه تحت قيادة القيصر ورفاقه من لاعبي البايرن، الذين تابعوا كتابة حلقات مسلسل أمجاد ناديهم وبلادهم، من خلال الاحتفاظ بلقب دوري أبطال أوروبا المجيد لموسمين آخرين، أولهما عام 1975 عندما هزموا ليدز يونايتد الإنجليزي في نهائي باريس بهدفين نظيفين، وثانيهما عام 1976 على حساب سانت إتيان الفرنسي في نهائي غلاسكو الذي أنهوه بهدف دون رد، لتنتهي معه حقبةٌ ذهبيةٌ من الإنجازات التي وضعت النادي البافاري في مصاف نخبة أندية أوروبا والعالم.
ورغم مغادرة واعتزال أغلب صانعي العصر الذهبي للبايرن، إلا أن الإنجازات لم تغادر دياره، فقد قاده نجوم حقبة الثمانينيات، وعلى رأسهم كارل هانز رومينيغة وكلاوس أوغنتالر ولوثار ماتيوس والحارس البلجيكي جان ماري بفاف، إلى سلسلة جديدة من النجاحات المحلية، بتحقيقهم بطولة الدوري الألماني ست مرات، وكأس ألمانيا ثلاث مرات، دون أن يفلحوا بتكرار نجاحات أسلافهم الأوروبية رغم بلوغهم نهائي دوري الأبطال عامي 1982 و1987، قبل أن يكرر منتخب المانشافت إنجازه العالمي للمرة الثالثة ويفوز بكأس العالم عام 1990 في إيطاليا، بفضل تألق نجوم البايرن الرائعين بقيادة القيصر الجديد ماتيوس، الذي استمر في البافاري حتى نهاية التسعينيات، محققًا رفقة زملائه في المانشافت ستيفن إيفنبرغ ومحمد شول وماركوس بابل وكريستيان تسيغة وتوماس هيلمر وكريستيان نيريلينغر، باقةً متجددةً من الألقاب والكؤوس التي أضيفت إلى خزانة ناديه العامرة، كلقب البوندسليغا الذي حققوه أربع مرات، وكأس ألمانيا مرةً جديدة، إضافةً إلى كأس الاتحاد الأوروبي الذي حملوه عام 1996، وكانوا على بعد دقائق معدودة من استعادة أمجاد كأس الأبطال الأوروبية، ولكن الخسارة الدراماتيكية أمام مانشستر يونايتد في نهائي عام 1999 حطمت آمالهم العريضة.
نجاحات الألفيّة
وتابع العملاق البافاري رحلة تحليقه في سماء الكرة الألمانية إبان الألفية الجديدة، فطبع بطولة البوندسليغا بطابعه من خلال إحرازه لقبها عشر مرات، آخرها الموسم الماضي وهو الثالث على التوالي، ليرفع رصيده الذهبي من ألقاب الدوري الألماني إلى الرقم 25، كما عزز رصيده في كأس ألمانيا بفوزه بثمانية ألقاب جديدة في الألفية، رفعت حصيلته في هذه البطولة إلى 17 لقبًا، كما لم تغب شمس البايرن عن المسابقة الأوروبية الأهم كأس الأبطال، فشارك في جميع نسخها خلال الألفية الجديدة، محققًا نجاحين جديدين أضافهما إلى ثلاثيته الخالدة، أولهما كان عام 2001 عندما واجه جيل الحارس الفذ أوليفر كان والهداف البرازيلي جيوفاني ألبير والمدافعين سانيول وليزارازو وكوفور بقيادة الجنرال أوتمار هيتزفيلد، جيل فالنسيا الذهبي الذي تأهل لنهائي الأبطال للمرة الثانية تواليًا، فكانت الغلبة لأبناء البافاري في تلك الموقعة التي لم تحسم إلا من خلال ركلات الترجيح.
أما ثاني نجاحات الألفية على الصعيد الأوروبي فكان عام 2013، عندما تأهل جيل البايرن الحالي بقيادة أرين روبن وفرانك ريبيري ومانويل نوير وفيليب لام وباستيان شفاينيزتايغر وجيروم بواتينغ وتوماس موللر وتوني كروس، إلى ثالث نهائي أوروبي يخوضه النادي خلال أربع سنوات، فوفقوا تحت قيادة المدرب الرائع يوب هاينكس في تعويض خيبة النهائيين الماضيين الذين خسروهما أمام كل من إنتر ميلان وتشيلسي، وحققوا نصرًا مبينًا في نهائي لندن على جارهم الألماني بروشيا دورتموند بهدفين لهدف، ليفلح ملوك بافاريا في انتزاع خامس ألقابهم في أمجد البطولات الأوروبية.
وفي الموسم المنصرم كانت كتيبة النجوم البافارية – بقيادة عرابها الجديد بيب غوارديولا – على مقربة من بلوغ نهائي الشامبيونز ليغ مجددًا، ولكن صدمة هزيمة نصف النهائي أمام العملاق الكاتالوني بقيادة مثلث الرعب الهجومي، أحبطت سعي البافاريين، وأجلت مشروعهم حتى حين.
طموحٌ بلا حدود
منذ لحظة وصوله إلى القمة في أواسط السبعينيات، لم يتوقف سعي القائمين على النادي البافاري من أجل الحفاظ عليها، بل وللوصول إلى قمم أعلى لم تكن تخطر على بال جماهيره ومحبيه، فلم تعد السيطرة على الألقاب المحلية بكافية لإرضاء طموحات البايرن الوثابة، بل صار التألق الأوروبي الدائم مطلبًا لا مندوحة عنه، فأصبح الخروج من نصف نهائي المسابقة الأوروبية الأصعب، يعد فشلًا وخيبةً قد تهتز معها مناصب المدربين والإداريين، دون أن ينفعهم مجرد فوزهم ببطولة الدوري، أو حتى جمعهم لجميع الألقاب المحلية الممكنة! ولم يعد القائمون على المارد البافاري يضنون بالغالي والنفيس من أموال تُغدق كل عام لاستقطاب أفضل لاعبي المستديرة، في سبيل الحفاظ على مكانة البايرن ضمن نخبة الأندية الأوروبية العالمية.