ترجمة وتحرير نون بوست
كنت قد تأخرت عن الدرس حتى الساعة 5:30 مساءً، وجدت الغرفة المكيفة قد امتلأت بالناس حين وصلت، قمت بخلع صندلي عند الباب حسب ما تقتضيه العادات الفيتنامية، لأنضم إلى مجموعات الرجال المصطفين في مجموعات العمل المتفرقة، غرفة الدرس الصغيرة تبعد عن قصر التوحيد حيث عاش الرئيس الفيتنامي أثناء ما يعرف بالحرب الأمريكية، بمسافة عشر دقائق من المشي، وهذا المكان يشتهر بأنه المكان الذي تحطمت فيه دبابة الفيتناميين الشماليين أثناء سقوط سايغون في 1975، وبالرغم من ذكريات هذا المكان، فإن الصورة المعروضة على جدار غرفة الدرس لم تكن تنتمي إلى الحرب، وإنما كانت درسًا عن الأكواد!
فالطلاب المجتمعون في هذا المكان والذين يبلغ عددهم 20 طالبًا موجودون لسبب واحد: أن يتعلموا تطوير التطبيقات للآيفون والآيباد باستخدام لغة برمجة آبل الجديدة “سويفت”، وقام المدرب فام خاو بإخباري أن ما يتعلمونه في المدارس ليس لأجل العالم الحقيقي، وإنما تركز على التعليم النظري أكثر من العملي، وهو السبب الذي جعل المبرمج الشاب الذي تعلم لوحده يعلم الطلاب الجدد كيف يكتبون تطبيقات لنظام تشغيل آبل وجوجل وميكروسوفت، وهي المهارات التي لا يمكنك أن تتعلمها بسهولة في أماكن أخرى.
فكرة تعليم الناس لأنفسهم هو جزء من تحول واسع في البلد الذي يعمل على أن يصبح قريبًا واحدًا من أفضل الدول المصنعة للتكنولوجيا في العالم، لكن المشكلة الوحيدة أن الطلبة حتى بعد تخرجهم، فإنهم يكونون في حاجة إلى المزيد من التدريب لا يمتد لشهور فقط بل إلى سنوات أيضًا، لفعل ما هو أكثر من مجرد تجميع الأجهزة، كما قال لي الكثير من المصنعين وأصحاب المشاريع الذين قابلتهم في فيتنام، مضيفين أن التدريب الجامعي في فيتنام غير كاف لبدء الوظيفة مباشرة.
وقد قامت بسبب ذلك عدد من شركات التكنولوجيا العالمية، مثل سامسونج وإل جي، بإطلاق برامج خاصة لتعليم العمال الفيتناميين، وسد هذه الفجوة المعرفية، وهذه الخطوة لم تكن لتحدث لولا رؤيتهم لقابلية هذه البلاد المميزة لذلك.
ففيتنام لديها حكومة مستقرة، وإن كانت شيوعية محافظة، لديها استعداد لإعطاء إعفاءات ضريبية للشركات الأجنبية، كما أنها تقدم قوة عاملة رخيصة، خاصة مقارنة بالصين، حيث ارتفعت الأجور مع التحسن الاقتصادي في البلاد، فالعامل الفيتنامي يتقاضى في العادة ثلث أجر الصيني، كما أن متوسط سن العمالة الفيتنامية هو 29 سنة، أي أصغر بـ8 سنين منه في الولايات المتحدة والصين، ويتحدث الإنجليزية كلغة ثانية في البلاد.
ومع أن المهارات التي يخرج بها الطلبة غير ملائمة للعمل عالي التقنية، إلا إن مستويات التعليم ارتفعت بسرعة في البلد، فأطفال الخامسة عشر في فيتنام أحرزوا درجات أعلى في القراءة والرياضيات والعلوم عن أقرانهم في بلاد متقدمة أخرى عديدة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بفضل استثمار الحكومة في التعليم.
أما بالنسبة للتصنيع في فيتنام، فإن الأعمال التجارية تزدهر بشكل لافت، فقد قامت شركة إنتل التي تعد أكبر مصنع رقائق للكمبيوتر في العالم بافتتاح مصنع في مدينة هو تشي منه يبلغ قيمته 1 مليار دولار، كما حولت شركة هواتف ميكروسوفت تصنيعها إلى العاصمة هانوي تاركة الصين، شركة “وينتيك” التي تمد آبل بالشاشات أيضًا تجري أعمالها في فيتنام، أما شركة “إل جي” فهي تصنع كل شيء بدئًا من الهواتف المحمولة إلى التلفاز في هايفونج، وشركة عملاقة مثل سامسونج قامت بتجميع ما يقرب من ثلث هواتفها المحمولة هنا.
تصنيع التكنولوجيا ساعد في تحسين اقتصاد فيتنام، فقد نما الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 6.3 في منتصف 2015 الأول، بصادرات من الهواتف وأجهزة غيارها بلغت حوالي 19% من إجمالي صادرات فيتنام، بقيمة 14.7 مليار دولار.
الشركة التي أشعلت الفتيل: الفضل الأكبر لسامسونج
لو كان على فيتنام أن تشكر أحدًا على بداية هذا، فعليها أن تشكر سامسونج، ففي 2012، بعد عامين من افتتاح الشركة لأول مصنع لها في الجزء الشمالي من البلاد، بدأت فيتنام تصدر لأول مرة بدلًا من الاستيراد، وبعد أن أقامت سامسونج مصنعها الثاني السنة الفائتة، 17% من صادرات 2014 جاءت من سامسونج، وهي جدية بشأن الاستثمار في فيتنام، فعلى مدى السبع سنين السابقة، خصصت الشركة الكورية الجانبية 9 مليار دولار للمصانع في فيتنام، هذا لا يتضمن المليارات التي تنفقها فروع سامسونج وموردوها، آخرها موافقة الحكومة الفيتنامية على مصنع شاشات هواتف ذكية وأجهزة لوحية في مقاطعة باك نينه.
فيتنام أيضًا تفوقت في عدد العمال، حتى على كوريا الجنوبية نفسها لتكون صاحبة أكبر قاعدة عاملين لسامسونج، وجنوب شرق أسيا إجمالًا بالذات فيتنام غلبت الصين من حيث مجموع عاملي سامسونج، وقد قامت سامسونج بتوظيف حوالي 110 ألف عامل في فيتنام، وعندما يفتتح فرع الشركة الجديد في مدينة هو تشي مينه في أوائل 2016، سوف يضاف إلى هذا العدد 5000 موظفًا جديدًا.
وفي ظل الاحتياج العددي الكبير، يصعب أن تجد عمالًا ذوي خلفية تكنولوجية عالية المستوى؛ ما دفع سامسونج لأن تقول إنها تدرب كل عمالها، وأنها تختارهم حسب توافر المعارف الأساسية لديهم، فالتعليم في فيتنام نظري أكثر منه عملي، لهذا تقوم سامسونج الآن بعمل اتفاقيات مع الجامعات كي يستطيع عمالها تلقي دروسًا مجانية بالليل في المصانع، يستطيعون دراسة الإنجليزية والكورية والمحاسبة والهندسة الإلكترونية.
الشركة تقوم أيضًا برقمنة الكتب، راعية 50 مكتبة ذكية في المدن الكبيرة والمناطق الريفية، وتعمل سامسونج بالتعاون مع الحكومة الفيتنامية على توفير نسخ رقمية من الكتب الورقية، وتوفير مراجع متطورة متاحة على تطبيق أندرويد يسمى Classbook، يشترط لاستخدامه امتلاك هاتف سامسونج.
سامسونج ليست وحدها التي تراهن على فيتنام
سامسونج ليست الشركة الوحيدة التي تستهدف سد الفجوة التعليمية في فيتنام، فشركة إل جي أيضًا، افتتحت في مارس مصنعًا مساحته 800 ألف متر مربع في هايفونج، وهو يهدف لتوظيف العمال أولًا ثم التعامل مع تدريبهم وتعليمهم كأولوية ثانية.
شركة “إل جي” لديها في هايفونج التي تعد ثالث أكبر مدينة فيتنامية، 1000 موظفًا، تنوي مضاعفتهم بحلول العام القادم، وبالرغم من وجود الكثير من العمالة الشابة في البلاد، إلا أن الشركة تواجه صعوبة في إيجاد خبراء للمهام المركزة مثل الإشراف على عمال خط التجميع، والبحث والتطوير في مجالات البرمجيات والسيارات والإعلام، والتي سيجعل القيام بها في داخل البلاد الحكومة الفيتنامية سعيدة، ويسهل استكشاف مشكلات التصنيع.
تحتاج إل جي إلى ثلاث سنين لتدريب موظفي البحث والتطوير، 30% من العمال “ذوي الياقات البيضاء” أي الذين يشرفون على العمل يمكنهم القيام بمهام الإشراف على عمال التجميع واختبار الجودة والأمان بشكل مستقل بعد أربعة شهور من التدريب، أما البقية فيحتاجون الإشراف لمدة سنة، كما أن 90 بالمئة من عمال خطوط تجميع التلفاز أو الهواتف يستطيعون العمل وحدهم بعد شهر واحد من التدريب، ولهذا ترعى الشركة المنح الدراسية والتدريب الداخلي، كما تضع في اعتبارها تكوين الشراكات مع الجامعات في مجال التدريب المتخصص.
شركة “جابيل” تقوم بإدارة مصنع في الطرف الآخر من البلاد في مدينة هو شي منه، لتبني منتجات للعملاء، بمبيعات تصل إلى 18 مليار دولار، المنطقة الصناعية تشبه “وادي السيليكون”، لكنها لا تنسيك أيضًا أنك في دولة نامية، بالطريق الذي كان مليئًا بالتربة قبل أن أصل هنا بحوالي شهر، تاركًا خنادق مليئة بالتربة ما تزال محيطة بالمصنع.
المشكلة الأكبر بالنسبة لشركة “جابيل” أن مهارات اللغة الإنجليزية لدى المتقدمين للوظائف سيئة، فهي قديمة عما يحتاجون إليه، ومن الصعب إدخال الطالب المتخرج مباشرة إلى العمل، الأمر أصعب بكثير من الدول الأخرى.
لهذا تقوم الشركة بإدارة برنامج تدريبي مدته سنة لموظفيها الجدد الذين يظهرون قابلية للتطور، وفي نهاية البرنامج، يقوم المشاركون بتقديم تقرير عما تعلموه وعن المكان التابع للشركة الذي يريدون العمل فيه إن واصلوا هنا، ثم يتم توظيفهم في الأماكن التي تتطلب خبرة أكبر.
الشركات الأخرى قامت باتخاذ تدابير جذرية أكثر بخصوص إقامة الدورات التدريبية الخاصة بها، ففي 2006 قامت مجموعة FPT وهي مجموعة شركات فيتنامية خاصة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ببدء جامعتها الخاصة في هانوي، قائلة عن مهمتها إنها “توفر ميزة تنافسية عالمية للطلاب، وبالتالي توسيع الأفق الفكري لأمتنا”.
“إنتل” هي واحدة من أكبر الشركات الأمريكية التي تنوي الانتقال إلى فيتنام، الشركة التي افتتحت مصنع تجميع واختبار في هو شي مينه في 2010، واجهت بسرعة نفس المشاكل التي واجهت الشركات الأخرى، ما جعل الشركة تتحول إلى جامعة ولاية أريزونا لتساعدها في جعل طلاب الهندسة الفيتناميين يلحقون بأقرانهم، وقرروا أن أفضل شئ يفعلوه هو تدريب الأساتذة الفيتناميين من 8 جامعات على الطرق الحديثة لتعليم الهندسة، ليكونوا معًا ما سمي بـ “تحالف برنامج التعليم العالي للهندسة” والذي تم تمويله أيضًا من قِبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وقال مدير هذا البرنامج لي فان خوي إن الفكرة بسيطة جدًا، لكن تحقيقها ليس سهلًا.
هذا البرنامج التعليمي بدأ يظهر نتائجًا، فمنذ إطلاقه في 2010 قام بتدريب 291 محاضرًا فيتناميًا، منهم 71 امرأة، في برنامجهم الصيفي الذي يدوم لستة أسابيع، جنبًا إلى جنب مع مئات أساتذة الجامعة الآخرين في ورش العمل المختلفة على مدار السنة.
وقد قال نجوين با هاي الأستاذ الدكتور في مجال الروبوتات البيولوجية ومدير المركز التعليمي في مدينة هو شي مينه، إن هذا البرنامج التعليمي المشترك غير الطريقة التي كان يدرس بها بصورة دراماتيكية، قائلًا إن النظام التعليمي في فيتنام ليس مرنًا جدًا، إذا كنت تريد تغيير شيء ما فإنه يستغرق وقتًا طويلًا، لكن بالنسبة له، فقد قام بتغيير كل شيء.
فبعد هذا التدريب قامت جامعة المدينة ببدء دورات تمهيدية في الهندسة، متضمنة الهندسة الميكانيكية 101، والتي لم تكن موجودة قبل ذلك في فيتنام، الطلاب الآن ينفقون أوقاتهم في تعلم تحديد المشكلات وتحديدها، وفي السنة الماضية أطلقت المدرسة التي يشرف عليها هاي مركزًا تعليميًا رقميًا، لدمج الدورات الأون لاين مع التعليم الشخصي.
هذا البرنامج المشترك الذي يسمى اختصارًا HEEAP يسعى للبحث عن مصادر تمويل جديدة الآن لمساعدة المدارس بالحصول على مختبرات جديدة، متضمنة مقرات تشجيع المبدعين الأربعة الموجودة في البلاد، والمسماة “أماكن الصناع المتطورة”، والتي تعتمد على سياسة “اصنعها بنفسك” التي تشجع المفكرين والمهندسين والأطفال على اختراع وبناء ما يفكرون فيه، آملين، ليس فقط أن يكون الطالب المتخرج قادرًا على العمل للشركة مباشرة، بل وأن يمتلك عقلية المبدع.
الحكومة كانت منفتحة على الاقتراحات المقدمة لها بخصوص تعليم العمال المستقبليين بحسب الشركات التي تحدثت إليها، والتي تقوم بتوسيع نشاطاتها برغم فجوة المهارات، سامسونج تخطط لتوسيع 3 مليار دولار لمصنع ثاي نجوين التي افتتحته العام الماضي، كما أن شركة جابيل وقعت اتفاقية الأسبوع الماضي مع مجلس إدارة سايجون للتكنولوجيا لما هو أكثر من مضاعفة قواها العاملة خلال الخمس سنوات القادمة، وبناء مصنع جديد في 2017.
فجوة المهارات فتحت أيضًا الأبواب لفرص نشوء شركات تضع خططًا للتعليم، مثل شركة “توبيكا” التي تعلم اللغة الإنجليزية بشكل أون لاين وتعقد شراكات مع الجامعات لتقديم الدورات الدراسية، ليبلغ عدد مدربيها 1400 قاموا بتدريس 20 ألف طالب عبر الإنترنت، وشركتي Formation 8 Learn Capital اللاتي قامتا بتأسيس موقع يسمى Rockit يقوم بتدريس الإنجليزية والرياضيات والعلوم للطلبة الفيتناميين، وقال المدير التنفيذي لهذا الموقع إن لدى فيتنام خلل كبير في نموذج التعليم يجعله لا يواكب احتياجات الاقتصاد، وهذا يترك الفرص للشركات مثلهم كي تأتي وتساعد الطلاب.
وهناك أناس مثل فام خاو، الشاب ذو الثمانية والعشرين عامًا الذي يقوم بتعليم تطوير التطبيقات، والذي أمطرني طلاب فصله لما يقرب من الساعة بالأسئلة حول آبل وسامسونج وشركات التقنية في الولايات المتحدة، كما أخبروني أنهم يقضون وقت فراغهم الثمين، الذي يبلغ ساعتين في اليوم لمدة ثلاثة أيام وهم يتعلمون صناعة تطبيقات الآيفون والآيباد.
ترين مين، هو أكبر طالب في هذا الفصل، بعمر 54، قام بالاشتراك في هذه الدورة التدريبية التي تبلغ قيمتها 183 دولارًا، كي يوسع معرفته عن نطاق مهنته، كما قرر أن يضم ابنه ذي الخمسة عشر عامًا معه في هذا الفصل الدراسي، كي يجعله متميزًا في مجال التكنولوجيا قبل أن يترك المدرسة، قائلًا إنه يريد منه التعلم أكثر وأكثر، كما أنه يريد أن يكون قدوة جيدة له.
المصدر: سي نت