في السنوات العشر الماضية ارتفع سقف المطالبة بالإصلاح تحت مظلة الحكم الموجود حاليًا في المملكة العربية السعودية، إلى المطالبة بالانتقال السلمي لملكية دستورية يُفصل فيها بين السلطات الثلاث؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية، بحيث تُدار بشكل مستقل ونزيه حتى غدت من أكثر المطالب الإصلاحية إلحاحًا خلال هذه الحقبة، فهي الخيار الأكثر نضجًا في ظل الظروف المحيطة بالمنطقة.
ولا تحتاج هذه التغييرات إلا لزيادة حجم الوعي السياسي والشعبي، والبدء بالتنفيذ بشكل متدرج يسمح بامتصاص هذه النقلة النوعية من الحكم الجبري إلى الحكم الديمقراطي لتحقيق خيري البلاد والعباد.
ولكن لماذا ملكية دستورية؟
لا يخفى على أي مواطن، مهما كانت خلفيته السياسية ضئيلة، حجم الفساد المتفشي في المملكة، نار الاستبداد بالرأي، تغييب المواطنين، وحرمانهم من المشاركة السياسية، كما لا يخفى بالأرقام والوقائع أن هذا الفساد يستشري يومًا بعد يوم مخلفًا وراءه طبقات مسحوقة من الفقراء وبطالة وتأخر ملحوظ في كل مناحي الحياة.
ولابد أمام هذا الانحدار أن يتساءل الجميع: ما الحل؟!!
الحكم الدستوري، كما أكد ذلك أرسطو، يمتاز بأنه حكم يستهدف الصالح العام أي لا يستهدف صالح القائمين بالحكم، كما أنه حكم قانوني حيث تقوم الحكومة بمهامها وفقًا لقواعد عامة لا بموجب أوامر تحكمية، وتراعي الحكومة العادات والعرف الدستوري، كما أنه حكم يعني حكومة المواطنين الراضين عن الحكم لا المرغمين عليه – كما هي الحال – في الحكم الاستبدادي، وهذه النقطة الأخيرة تؤكد أهمية الرضا الشعبي في الحكم، حيث يتمتع المواطن بحق المشاركة السياسية .
ومن المزايا الأخرى للنظام الدستوري الملكي منح الخيار للشعب لاختيار نوع النظام الذي يريده ويرغب فيه، ومن يحكمه عن طريق صندوق الاقتراع، ويحقق بذلك الشعب طموحاته وآماله، كما أنه تنشأ في ظل المملكة الدستورية الديمقراطية والحرية والالتزام بالقوانين الدستورية، على اعتبار أن الملكية الدستورية يمكنها أن تكون وعاءً لكل القوى السعودية، بحيث تصبح ضمانًا لوحدة البلاد .
فمن مزاياها – أي الملكية الدستورية – أنها تكفل حق المنافسة الشريفة بين جميع القوى السياسية ضمن إطار التنافس على رئاسة السلطة التنفيذية “الحكومة”، عبر الانتخابات البرلمانية الحرة التي تحقق الاستمرار، ويكون فيها الملك حاميًا للدستور، والمؤتمن على مراقبة وتنفيذ أحكامه، والمدافع عن حقوق جميع أبناء الشعب.
فوجود برلمان منتخب كامل الصلاحيات، وحكومة منتخبة يحاسبها البرلمان متى ما حادت عن الطريق الصحيح، وقضاء مستقل عادل ومنصف، كلها مدعاة إلى الاهتمام بمبادئ الملكية الدستورية، خصوصًا إذا ما علمنا أن الشعب لا يهمه من يحكم طالما النخب الحاكمة التزمت بالحد الأدنى من الأخلاق، وهذا هو سر احتفاظ الدول الملكية بتوازنها مقارنة بالدول الجمهورية حتى الآن، خصوصًا لمن حرصت فيه النخب الحاكمة على الالتزام بحد أدنى من الأخلاق في تعاملها مع الشعب.
قد يظن المغرضون والذين يقفون في وجه التغيير أن ثمة نوايا مغرضة للذين ينادون بالتحول صوب الملكية الدستورية ممن يطالبون بالإصلاح في مملكتنا الغالية، وقد تطالهم الاتهامات التي تشكك في سلامة نواياهم تجاه الحكومة الحالية، وتجاه أمن الوطن واستقراره، فيعدونهم مشبوهين في نواياهم تجاه هذا النوع الجديد من الحكم، ولكن إذا ما علم الشعب أن الملكية الدستورية تحقق له صفة المشاركة السياسية فإنه سيكون وبلا شك مؤيدًا لإقرارها كنظام جديد؛ لتثبيت دعائم الديمقراطية التي تضمن المنافسة عبر صندوق الاقتراع لممثليه في البرلمان .
لكن هؤلاء المغرضون يجهلون أن الملكية الدستورية هي عنصر رئيسي من عناصر الإستراتيجية العامة التي من الممكن أن تُحدث الاستقرار، وتعيد للوطن أمنه الذي فقد جزءًا منه بفعل الإرهاب، فضلًا عن أنها تضع حدًا لمعاناة الفئات المهمشة في ظل شكل نظام النظام الحالي، فالجميع يعلم أن الفقر والتهميش والظلم هو ما دفع ويدفع العديد من المتضررين للانخراط في الجماعات الإرهابية، طمعًا في أموال أو رغبة في انتقام ممن أوصله لما وصل إليه.
ولا يخفى على أحد أن الأمور حاليًا داخل الوطن أكثر سوءًا من السابق، وعدد المعتقلين المرتبطين بتنظيم “داعش” الذين أُلقيَ القبض عليهم مؤخرًا يدق ناقوس الخطر، ليخبرنا بأن الوقت قد حان لتبني خطة طريق إصلاحية شاملة، والنداء الوطني المقدم للسلطة – التحول لملكية دستورية – هو الطريق الأمثل والأسلم للخلاص، فنحن نريد تغييرًا سلميًا وطنيًا خالصًا بدون عنف أو فوضى، فالشعب السعودي طيب وبسيط ومسالم ولا يريد أكثر من حقه.
الملكية الدستورية ضمان الاستقرار
والحقيقة هي أنه في معظم أنحاء العالم شكَّلت الأسرة الملكية أو السياسية النظام الأكثر فعالية لضمان الاستقرار والازدهار والاستمرارية، وعبر التاريخ، كان الحاكم السيء هو الحاكم الضعيف، الذي لا يستطيع أن يضمن الاستمرارية والاستقرار لبلده، ويعجز عن إنقاذه من بوادر الفتنة والفوضى، كما يحدث الآن في دول مجاورة.
المفاهيم السياسية الحديثة في معظمها تؤكد أهمية الاستمرارية والاستقرار، خاصة بعد ما يُسمى الربيع العربي 2011؛ الذي أصاب جمهوريات يفترض أنه يسودها ما يُسمى بـ”التداول السلمي للسلطة”، لكن النتيجة كانت الفوضى والدمار، وصعود قوى سياسية متصارعة للسيطرة على الدولة.
وعلى مدى القرن الماضي أو نحو ذلك، شهد العالم في كثير من الحالات عملية انتقال من الأنظمة الملكية التقليدية إلى ملكيات دستورية، أي التي يسودها القانون وليس سلطة الملك المطلقة.
الملكية الدستورية تضمن الاستقرار والاستمرارية، ولكن بطريقة مختلفة نوعًا ما، في ظل سلطة تشريعية، تنفيذية، قضائية، وإعلام حر ومؤسسات مجتمع مدني، فيما يبقى الملك هو الضامن للاستمرارية والاستقرار، وهي حقيقة لا تتغير عندما يتم تسليم السلطة في نهاية المطاف إلى خليفته الشرعي.
كما رأينا في مناطق مختلفة من العالم، انهارت الاستمرارية السياسية مع انهيار الأنظمة الحاكمة ما تسبب بكوارث لملايين المدنيين، حدث ذلك في ليبيا، اليمن، العراق، أفغانستان، مصر، وسوريا، حتى أن صدام حسين كان كارثة على الشعب العراقي وجيرانه، ولكن الكارثة الحقيقية حدثت للعراق بعد سقوط نظام صدام حسين من السلطة.
ولن يكون مستغربًا استمرار معاناة دول سوريا والعراق وليبيا، وحتى مصر نتيجة الأحداث المأساوية التي يعيشوها الآن لـ50 سنة قادمة، هذا إن بقيت هذه الدول على قيد الحياة أصلًا.
فيما الملكيات الدستورية مثل بريطانيا والسويد وإسبانيا والمغرب وغيرها، تستمد الكثير من شرعيتها الشعبية من التقاليد السياسية الراسخة، هذه الملكيات تتمتع بالعديد من الضوابط والتوازنات لضمان استجابة رأس السلطة لرغبات الشعب.
ومن هذه الاعتبارات تكون الملكية الدستورية عبارة عن خريطة طريق للخروج بالوطن إلى بر الأمان في ظل الظروف المحيطة، والتغيرات والمتغيرات التي تشهدها المنطقة، والإسراع بالإصلاح الوطني بما يواكب المطالب الشعبية، في ظل الاحتقان الشعبي المتصاعد، ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا أن هضم حقوق الناس في التمثيل السياسي وتعمّد تغييبه، يُحدث خللًا في أركان البيت السعودي، من الممكن أن يستغلّه أعداء الوطن للعبث بأمنه وتمزيق نسيجه الاجتماعي.
البداية تكون عبر الإعلان عن مبادرة عاجلة بإطلاق سراح والإفراج الفوري عن المعتقلين، وبالخصوص الناشطين السياسيين والحقوقيين المطالبين بالإصلاح، وتبني خطة الملكية الدستورية في ظل دستور يمثل الإرادة الشعبية؛ فهو الضمانة المتاحة حاليًا لتنظيم الدولة وإنقاذها من الفوضى والفساد والاستغلال، وربما الضياع والانهيار.
وليطمئن الجميع، فلا تعارض بين الملكية الدستورية والعرش، فالملك يبقى رأسًا للدولة، ويختار ولي العهد كما هو منصوص عليه بالدستور.