نستكمل في هذا المقال ما طرحناه في المقال السابق عن دخول الجمهوريات العربية إلى مرحلة ما بعد الجيوش بعد أن هيمنت عليها مؤسساتها العسكرية منذ الخمسينيات وأطاحت بالنظم الملكية القديمة، حيث ناقشنا أسباب تفكك الجيوش اليمنية والسورية والعراقية والليبية، وأسباب استثناء الحالة المصرية من ذلك المآل مع عدم وضعها في نفس الوقت مع الجيشين التركي والتونسي الأكثر حداثة، حيث تشكلت قاعدة وطنية لهما أكثر رسوخًا من الجيش المصري الذي يعود تأسيسه لمشروع محمد علي التركي في أوائل القرن التاسع عشر، وهو النقاش الذي نقلنا إلى التساؤل عن مصير الدول التي لا تزال ملكية حتى اليوم.
يمكننا بوضوح أن نلاحظ سمة رئيسية اختلفت بها النظم الملكية عن الجمهوريات في المنطقة منذ اندلاع الربيع العربي، وهي أن اهتزازها جراء موجة التظاهرات كان طفيفًا جدًا مقارنة بما جرى في الجمهوريات حتى ولو أخذنا في الاعتبار حالة البحرين، وهي حالة خاصة ربما نظرًا لوجود أسباب طائفية لقابلية الوضع فيها للاشتعال، فإنها لم تسقط بسهولة كما سقطت نظم طائفية في سوريا والعراق واستمرت فيها الأسرة الحاكمة، لماذا إذن؟
القواعد الراسخة للملكيات العربية
بشكل عام، تتسم فكرة الملكيات بغياب الحاجة إلى أيديولوجيا حاكمة، حيث تحتل أسرة بكاملها فكرة المبدأ المؤسس للدولة، تاركة مجالات ما دون ذلك للخلافات الأيديولوجية، كما نرى في المغرب على سبيل المثال من أحزاب مختلفة تضع رؤى شتى للسياسات الحاكمة، ولكن ليس للإطار العام للدولة غير المختلف عليه، والمبني على شرعية الملك محمد سادس الممتدة لحوالي ثلاث قرون، أما الجمهورية الديمقراطية، فإنها بطبيعتها تفتح الباب بشكل أكبر للخلاف الأيديولوجي حول ماهية الوجهة التي يجب أن تتخذها تلك الجمهورية: جمهورية إسلامية؟ شيوعية؟ علمانية؟ إلخ.
تلك السمة في الملكيات، والموجودة في شتى أنحاء العالم كما نجد حين نقارن دور الأيديولوجيا الضئيل نسبيًا في السياسة البريطانية مقارنة بنظيرتها الفرنسية، نأت بعروش المنطقة العربية عن الشروع في مشاريع نهضوية مشحونة أيديولوجيًا على غرار المشاريع البعثية والناصرية والأتاتوركية، وانصبت بدلًا من ذلك على إرضاء الرعية بشكل رئيسي لتعزيز شرعية الأسرة الحاكمة لا مواجهة شبكاتها الاجتماعية المعقدة كما فعلت الجمهوريات العسكرية في خضم نزعتها نحو تكريس السلطة وتعزيز المركزية للتمكّن من تحقيق المشاريع القومية خاصتها بكفاءة.
علاوة على ذلك، ونتيجة لغياب عامل التعريف القومي، نجحت الملكيات بشكل أكبر في استيعاب الفروق القومية والمذهبية مقارنة بالجمهوريات، حيث انكبت الجمهوريات المكونة حديثًا على إعادة تعريف الدولة بعد أن أزاحت عنها شرعية الأسر الحاكمة القديمة، وشرعت غالبًا في رسم هويات مصطنعة بدرجات متفاوتة مما وضعها مرة أخرى في مواجهة مع شرائح شتى من مجتمعاتها، على العكس من الملكيات، خاصة تلك الباقية من عصر ما قبل الاستعمار، والتي ورثت عن أسلافها مبدأ تعزيز السلطان بالتشابك المستمر مع أوسع قاعدة اجتماعية ممكنة لترسيخ الشرعية، لا تعزيز سلطة الدولة ككيان قائم لذاته على حساب المجتمع.
تباعًا، نجد أن الملكيات العربية لم تعاني من “مسائل إثنية” على غرار المسألة الكردية، وهي مرة أخرى سمة عامة للكثير من الملكيات كما تشي بذلك الحالة الأوروبية، حيث نجد مجتمعات أكثر تنوعًا وقبولًا للمهاجرين في هولندا وبريطانيا ودول إسكندنافيا مقارنة بالجمهوريات الفرنسية والإيطالية والتركية الأكثر انغلاقًا، وهو ما يعني أنه على المستوى النظري، وقبل النظر في الأوضاع على الأرض، كان من المتوقع أصلًا أن تنجح الملكيات العربية في الاستمرار لفترات أطول من الجمهوريات، على العكس ربما مما ذهب الكثير من المنظرين ممن اعتبروا ارتكاز الدولة للأسر الحاكمة أكثر هشاشة من ارتكازها للهويات القومية.
الخليج وهوياته المصطنعة
يحلو للكثيرين دومًا الحديث عن الهوية السعودية باعتبارها أحد الهويات المصطنعة في المنطقة إلى جانب هويات الخليج الأخرى نظرًا لحداثة تلك النظم وجذورها الاستعمارية، وأن النظام السعودي إن سقط يومًا فإنه سيكون الوحيد الذي سحتاج إلى اسم جديد، وهي حقيقة ربما تسم النظام منذ مولده، بيد أننا بحاجة لمناقشة احتمالية حدوث ذلك، ولماذا عبرت المملكة بسلام رياح الربيع العربي مع غياب أي قواعد جغرافية وتاريخية لها، والحقيقة أنه رُغم الإقرار بزيف الهوية السعودية كهوية قومية، إلا أنها على الأرض قد نجحت لأسباب عدة.
أولًا، لا تضم السعودية إثنيات متنوعة بالمعنى الغربي للكلمة، مثلما تضم تركيا أكرادًا وتضم إيران الآذر والتركمن، فالتعريفات الهوياتية في الجزيرة العربية قبلية في معظمها، وبالتالي فإن نشأة هوية وطنية على الساحة لم يضغط على تلك الهويات أو يزيحها كما فعلت القومية التركية مع الأكراد مثلًا، إذ أن القبيلة في نهاية المطاف تصبح مستوعبة داخل إطار الهوية السعودية الجامعة، لا سيما وأن مؤسس الدولة السعودية قد بذل جهودًا كبيرة لتكون عائلته قادرة على الاضطلاع بذلك الدور بعد أن تزوج العشرات من النساء من معظم القبائل، وكأنه أراد جمع كافة الأنساب في البيت السعودي.
على نفس المنوال يمكننا أن نضع قطر والكويت والإمارات والبحرين في نفس الإطار، حيث توجد مجتمعات تعرّف نفسها بالقبيلة بالأساس، في مقابل نظام ملكي ناجح بشكل كبير في التعامل معها، ويقوم ببث هوية وخطاب وطني قطري لا يتصارع مع تلك الهويات بل يقدم إطارًا جامعًا لها لا أكثر، وإن كانت البحرين استثناءً نظرًا لوجود غالبية سكانية شيعية، فإن تلك الأزمة طائفية وليست قومية، كما أن حلولها الأكثر راديكالية لن تنفي في المستقبل الكيان البحريني وإن أثرت على موقع ونفوذ الأسرة السنية الحاكمة.
السؤال الآن هو: مع نجاح الهويات المصطنعة تلك في أن تكون جامعة لما دونها، لا مانعة لها كالهويات القومية، وانتفاء أسباب التصارع الاجتماعي التي تؤدي إلى التشرذم كالحالات السورية والعراقية واليمنية، لماذا لم تسقط الملكيات العربية الباقية إلى الآن في الفخ الثاني، وهو هيمنة السلطة العسكرية فيها مع الوقت وانقلابها عليها، كما حدث مع الأسرة العلوية في مصر، والتي تمتعت هي أيضًا بهوية قومية جامعة بشكل كبير نظرًا لتجانس المجتمع المصري، كما اتسمت فيها الأسرة الحاكمة بشرعية كبيرة استمرت لأكثر من قرن؟
تتسم جيوش الملكيات العربية بهيمنة الأسرة الحاكمة بشكل يمنعها من الانقلاب عليها أو حتى نشوء شبكة مصالح خاصة بها مستقلة عن العرش، فهي مؤسسات عسكرية مستوعبة في الإطار الملكي بوجود العشرات من المنتمين للأسرة الحاكمة في المواقع القيادية العسكرية الأبرز، أو على الأقل شخصيات تدين بالولاء المطلق للملك، والواقع هو أن مصر الملكية كانت هي الاستثناء من تلك القاعدة، أولًا لأن انقلاب 1952 فيها أتى بعد انفتاح باب القبول بالجيش عام 1936، ليبدأ تضاؤل هيمنة حلفاء البلاط فيه، كما أن الأسرة العلوية تدين للجيش المصري بهيمنتها أصلًا نظرًا لأن مشروعها كان إنشاء سلطة عسكرية بالأساس على يد محمد علي، ومع دخول الإنجليز الذين فرضوا إطارًا كلاسيكيًا لتعريف الملكية، فإن المسافة الجديدة بين العسكر والعرش كانت تعني مستقبلًا هيمنة العسكر عاجلًا أم آجلًا.
بالطبع يُضاف لكل ذلك عامل البترول الخليجي، والذي يعني أولًا أهمية تلك المنطقة وعدم السماح لها بالاهتزاز بسهولة، وإن كان سبب كذلك لم يمنع قيام ثورة في إيران، فإن توابعه الاجتماعية في الخليج من رفاهية معظم السكان وتمتعهم باستقرار اقتصادي ضروري لدوام أنماط استهلاكهم، يمنع الكثيرين من إيجاد أسباب كافية للتظاهر ضد النظام الحاكم، على العكس من الحالة الإيرانية ذات التعداد الأكبر، والتي عانت فيها طبقات واسعة من الفقر، أضف لذلك أن النظام الشاهنشاهي قام على معاداة الدين، مما زاد من غضب الشرائح الشعبية الإيرانية ضده، في حين تستند الملكيات العربية في شرعيتها على رعاية الدين وترسيخه، بغض النظر بالطبع عن أي نسخة من الدين وبأي رؤية.
عُمان والمغرب: السلطان النائي والعريق
على أطراف العالم العربي حيث تلتقى مياه المتوسط مع المحيط الأطلنطي غربًا، ومياه البحر العربي مع المحيط الهندي شرقًا، تقع مملكة المغرب وسلطنة عمان على الترتيب، وهما البلدان اللذان لم يتغول فيهما الاستعمار بشكل تام كما فعل مع البلدان الواقعة في قلب المنطقة، ولم يغير من حدودهما ونظمهما السياسية بشكل كبير، وهي النظم التي استمرت ضاربة بجذورها في مرحلة ما قبل الاستعمار على عكس ملكيات الخليج الأكثر حداثة، مما جعلها الأكثر رسوخًا في المنطقة نظرًا للشرعية الاجتماعية الواسعة التي يتمتع بها رأسا الدولتين: الملك محمد السادس والسلطان قابوس.
في البداية، تجدر الإشارة إلى أن هذين النظامين بعيدان قلب الصراعات في المنطقة بشكل أتاح لهما على مدار القرون الثلاثة الماضية تحقيق استقرار سياسي واقتصادي كبير، وبالتالي اكتساب الشرعية للبقاء، أضف لذلك أن هذا الموقع النائي قد سمح لنظامين باقيين من عصر ما قبل الاستعمار بالاستمرار، على عكس كافة الأنظمة الحديثة في المنطقة، بشكل أعطى للأسرة الحاكمة ديمومة تاريخية شكلت بها شرعية متجاوزة للإطار السياسي والمؤسسي، لتتجذر فكرة الملك أو السلطان بشخصه كجزء من الثقافة بشكل عام مهما تقلبت الأوضاع.
تباعًا، تمتع النظامان في عمان والمغرب بأكبر قدر من المرونة في السماح للتظاهرات بالخروج في المجال العام والتجاوب مع بعض مطالبها سريعًا نظرًا لأن أيًا منها لم يكن معارضًا لوجودهما ابتداءً، ولم ينادي بإسقاط الملك أو السلطان، وبالنظر لكونهما المبدأ الرئيسي للدولة، فإن هذا قد أعطى لهما القدرة على تولي عملية الإصلاح الجزئي بأنفسهما كرعاة للدولة خارج إطار المنازعات السياسية، على العكس من الحالة في مصر وتونس مثلًا حيث ارتكزت التظاهرات إلى رفض رأس الدولة الممثل في مبارك وزين العابدين.
نتيجة لشرعيتهما المتجاوزة للظرف السياسي، فإن النظامين العماني والمغربي، وعلى عكس النظم الخليجية، لم تتأخر عن التفاعل مع التظاهرات البسيطة التي وصلتها، وفي إطار نفس الرؤية الحاكمة لها منذ قرون، تجاوبت بشكل براجماتي مع بعض المطالب المرفوعة لها لتعيد صياغة المنظومة السياسية بشكل يرضي الجماهير، في إشارة على مرونتها ككيان لا يريد سوى دوام شرعية الملك أو السلطان، على العكس من الجمهوريات الضخمة مؤسسيًا والتي بنيت فيها شبكات المصالح بين النخب العسكرية والاقتصادية بشكل يعيق قدرتها على تقديم تنازلات أصلًا وإن أرادت ذلك، ويجعلها أبعد عن التجاوب مع مجتمعاتها وأكثر رغبة في تقويضه، كما ذكرنا أنفًا.
***
إجمالًا، تبدو أمامنا حالتين رئيسيّتين، الحالة الخليجية، والتي وجدت فيها هويات مصطنعة ولكن قادرة على رعاية الهويات الأدنى منها، لا سيما في مجتمعات قبلية وليس فيها نعرات إثنية معارضة للهويات الجديدة، كما أن جيوشها كمركز قوة لم ينجح في الانفصال عنها والانقلاب عليها كما الحالة المصرية نظرًا لاستيعابه بشكل شامل داخل منظومة الأسرة الحاكمة وسلطانها، أما الحالة الثانية والتي تضم عمان والمغرب، فهي تتسم بشرعية يتمتع بها السلطان أو الملك تمتد لمراحل تاريخية مبكرة بشكل جعلها “تحلّق” فوق النظام السياسي نفسه، وبالتالي التجاوب بشكل مرن نسبيًا مع أي معارضة له باعتبار النظام جزءًا من مُلكه لا مُلكه ذاته، مما نأى به عن النزاعات الصفرية التي أسقطت جمهوريات أخرى، بل وعزز ربما من شرعية السلطان والملك فيهما.