“أتتكَ القوافي ما لها عنكَ مذهبُ”، كانت القوافي مذهبنا، أيام خلت قضيناها بين أبيات الشعر المنثور وقطع النثر المنشور، كانت سمرنا الصباحي وسهرنا “الصبّاحي” لا يقطع صفو بالنا إلا اختلال الوزن أو طرب استواء المعنى بدون اضطراب الموسيقى واعتلال الترتيب، كانت البداية الهادئة الجميلة الوادعة لا تليق بشقاوة الصبى؛ أحدهم – وكان شابًا يكبرنا بنحو عشر سنوات – همس لنا في مخيم للكشافة في جوف الصحراء بعد الشواء والعشاء والسمر “من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة” سألته لاحقًا هل نحن في الاحتراق أم الإشراق، كان الجو حارًا لكنه ابتسم وأجاب سنرى !
لا أدري لم تذكرته الآن ربما لأنه معتقل للمرة الثالثة في سجون مصر البعيدة مع كثير من أصحابي وأقاربي وأبناء جيلي المشتتين في سجون مصر من الإسكندرية للوادي، تنقلنا بين السجون كما تنقلنا بين الساحات والمساحات من قبل، كانت المساحات مفتوحة وجهودنا موزعة بينها بتكامل فطري عجيب، كنا نملأ المدارس والمساجد والشوارع والتجمعات نشاطًا وضجيجًا وحيوية، ونتنقل بخفة وسلاسة بين أنشطة التوعية والثقافة العامة والعمل الاجتماعي والخيري، من لصق ملصقات وإلقاء كلمات وخواطر ومشاركة في حملات صناع وحماية لتوزيع شنط المساعدات في المناسبات أو تنظيم قوافل الإغاثة ومؤتمرات التضامن مع جراح أمتنا الغائرة في النقابات المفتوحة .
لم نكن نشعر بوطئة الدولة كثيرًا، كانت الدولة حاضرة في الخلفية كنا نخاف أحيانًا من ذلك الوحش المجهول المتابع بصمت لكل ما يجري لكننا لم نشتبك معه كثيرًا في البدايات، لاحقًا اتسعت الصورة والعبارة فاكتشفنا أن الوحش يتربص بنا الدوائر ويعد لنا المفاجآت التي لم يسمع بها أجدادنا من قبل، كانت كلها كامنة في انتظار الفرصة المواتية !
حينما فتحت المدونات أبوابها تلقفناها بسرعة وسودنا صفحات “البلوجرز” و”الوردبرس” وحينما بدأت المنتديات كنا مشاركين حتى سحبت الشبكات الاجتماعية البساط من تحت ذلك كله فكنا حاضرين ومتفاعلين أيضًا، تنقلنا بين أشكال النشاط الفكري والثقافي فحضرنا الصالونات والدورات والبرامج وشاركنا في المبادرات مويك ويقظة ومعرفة وحلقات الفلسفة والدروس الشرعية والبرامج التدريبية الثرية، وتنقلنا بخفة أيضًا بين الفعاليات قبل أن تضيع الأوزان والقوافي في فضاءات وفيافي التغيير السياسي فيختل الوزن ويضطرب المعنى فتتوه العبارة .
سافرنا وتحاورنا وحلمنا بالتغيير، وظلت الدولة الفرعونية العجوز متربصة بنا لم نشعر بهذا غالبًا رغم أنها كانت تطل بوجهها القبيح في كل مناسبة وبلا مناسبة، حينما تداعت التظاهرات أمام نقابات الصحفيين والمحامين والأطباء وفي الأزهر ووسط البلد كانت العجوز الشمطاء تنظر إلينا من النافذة تترقب ما سنفعل وتتحين فرص الخلاص، كانت حماستنا مشتعلة وطاقتنا تكفي لتعمير الكوكب مرتين وهدمه مرة بينهما لو تطلب الأمر، حينما أذّن الربيع كنا معه على الموعد ننتظره ونبذل له ونأمل أن نقطف ثمار الخير الآتي معه، صحبنا نسمات الربيع وتنسمناها وعشناها في الساحات والشوارع والميادين، كما في القلوب والنفوس والجثامين! لم يبقَ ميدان لم نشهده إذا كنا نقدر أو نتابعه بلهفة وترقب سواء كان في قلب القاهرة أو ساحات تونس واليمن وصحراء ليبيا والعراق وجوار الأسوار في حمص وحلب وكنا نأمل أن نفر من أسر حلب والقاهرة لأسوار القدس ومآذن عكا والخليل والناصرة.
صحبنا الأوزان والقوافي إلى رياحين الربيع ونجمات الفيافي، فتعاقبت علينا الفصول الأربعة، وأسلمتنا نسمات الربيع الهينة لأعاصير الخريف الهادرة وأحرقتنا بعدها لفحات الصيف المفاجئ ثم زمهرير الشتاء وأنفاسه الباردة، اتسع المعنى وضاقت العبارة وصحت الفكرة وذهبت السكرة وتاهت القافية.
كان يمكن للفيافي أن تكون أرحب وأهدأ أو تكون الزنازين أقل عددًا وسوءًا وتكون المحرقة أخف شدة وتكون حياتنا أقل حدة، نكمل دراستنا وأعمالنا ونرعى اهتماماتنا ومواهبنا ونحقق طموحاتنا وآمالنا ونحمل إخواننا وأصدقائنا على الأكتاف في أفراحهم بدلًا من أن نودعهم على الأكتاف إلى قبورهم الطيّبة، آمنين وخائفين، باكين ومستبشرين، وكان يمكن للمنافي أن تكون أجمل ولأسوار إسطنبول البديعة التي احتضنت بعضنا أن تمتد لأسوار القدس وحلب والقاهرة فتضم الزمان للمكان والإنسان إلى الإنسان، لكن غربتنا حملناها في صدورنا سواء كنا في منافي الداخل أم منافي الخارج، فقدتنا أوطاننا تحت أرضها أو فوقها وبين جدرانها الضيقة أو الواسعة وأظلتنا سماوات الهجرة وتناءت، لكن الدورة التي بدأت لم تكتمل، وجيلنا الذي لم يتحطم بعد، أخذ فرصة ثانية للاستمرار والتجديد، وأرواحنا المتعبة التي ذاقت الاحتراق والإشراق وعرفت الكَبد بنوعيه رخاءً وشدة لم تصل لمستقرها بعد، ولا زال للقصة تتمة وللمعنى متسع وللعبارة بقية، لا زال الطريق طويلًا ونحن أبناء القوافي والفيافي والمنافي، لا نبرح حتى نبلغ، وسنبقى حتى نقضي حُقبًا من الليل والنهار يتعاقبون علينا تعاقب الفصول والمعاني والانتصارات والانكسارات، فنتخذ سبيلنا في البحر حتى نبلغ اليم أو مجمع البحرين أو نرتد على آثارنا قصصا.