يبدو جون ألين، الفريق البحري المتقاعد الذي كلفه أوباما بتنسيق الحملة ضد داعش، واثقا مما لديه من حقائق. فما أن عاد من تركيا، التي وافقت للتو على المشاركة في الحملة الجوية ضد مقاتلي داعش، حتى أعلن أمام منتدى أسبن للأمن بأن داعش تتقهقر.
وقال: “أعتقد جازما بأن زخم داعش قد أضعف استراتيجيا وعملياتيا وإلى حد كبير أيضا تكتيكيا. وأنا لا أقصد هنا فقط الحملة العسكرية، بل ثمة حملة لتقويضها ماليا وحملة للنيل منها إعلاميا، وهناك حملة لمواجهة المقاتلين الأجانب، ثم هناك الجانب الإنساني الإغاثي…. من المهم أن تتشكل لديك تلك الرؤية الاستراتيجية الأكبر حينما تتساءل عما إذا كان هناك تأثير لما نقوم به”.
نعم، بالضبط.. الرؤية الاستراتيجية الأكبر. ولكن أين هي هذه الرؤية؟
لم يلبث ألين بعيدا بعدما تباهى بهذا الإنجاز حتى تبعته مجموعة النصرة المرتبطة بالقاعدة بالإعلان عن إنجازات خاصة بها – أسر قائدين وستة أعضاء في الفرقة 30 المكونة من خريجي برنامج تدريب وتجهيز تنفذه وزارة الدفاع الأمريكية.ودعت النصرة الفرقة 30 إلى “العودة إلى الطريق الصواب” وحثت مقاتليها على قتال نظام بشار الأسد دفاعا عن عائلاتهم.
لقد ثبت بما لا مجال للشك فيه أن إيجاد الطريق الصواب في سوريا وفي العراق أمر تحار فيه الألباب، وخاصة حين يتعلق الأمر برئيس أمريكي أقنع نفسه بأنه تمكن من الانسحاب من حرب بوش “المغفلة”. قد تكون الولايات المتحدة غادرت العراق فعلا، ولكن مازال العراق لم يغادر الولايات المتحدة الأمريكية بعد.
أولا: لقد تمكنت داعش من البقاء والاستمرار بعد عام كامل من القصف. نعم، لقد فقدوا بعض ما كانوا يسيطرون عليه من أراض، ولكننا “لم نر إضعافا ذا قيمة لقدراتها وأعداد منتسبيها” كما يقول مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية يحرص على إطفاء شعلة الحماسة التي تتقد بها تصريحات ألين. يقدر هذا المسؤول أعداد منتسبي داعش بما بين عشرين ألفا وثلاثين ألفا، وهو نفس العدد تقريبا الذي كانت تحظى به في أغسطس من العام الماضي حينما بدأ القصف الجوي عليها.
ثانيا: ما هو شكل النصر إذا كان ثمة نصر فعلا؟ هل هو العراق المقسم بشكل دائم ونهائي إلى ثلاثة أجزاء تحكم إيران قبضتها على واحد منها؟ أم إنه بقاء الأسد مسيطرا في دويلة علوية ساحلية خلفية بينما يقع ما تبقى من سوريا في قبضة المليشيات المحلية؟ وهل فعلا ترغب واشنطن في رؤية دمشق تسقط في أيدي الثوار؟
دون الإجابة عن هذه الأسئلة ستظل القنابل التي تسقطها طائرات التحالف اليوم بنفس درجة الدقة والتوجيه التي كانت للقنابل (غير الموجهة وعديمة الدقة) التي أسقطها سلاح الجو الملكي البريطاني علي ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. وبدون تحليل دقيق وعلمي واضح لجذور داعش وأسباب ظهورها وانتشارها، وبدون تقدير صائب للظروف التي لمعت فيها حظوظها وللظروف التي وهنت بسببها، سيظل إلحاق الهزيمة بها أمرا بعيد المنال. فحتى لو تم سحقها في العراق ستجدها تيمم باتجاه مصر، حيث ينشغل دكتاتور متوحش، بدعم كامل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في إيجاد الظروف المناسبة بالضبط لتنامي داعش.
من باب الشرح والتفسير وليس من باب الإعذار والتبرير، نقول إن لداعش منطقها الخاص بها. يتمتع رجال الدين فيها وكذلك قادتها بدرجة عالية من القدرة على الإقناع وبدرجة عالية من المهارة في تطويع الوسط للرسالة وتهيئة الرسالة للجمهور. لقد نبتت بذور عقيدة داعش الموغلة في الطائفية في محضن اجتماعي معين جاء إلى الوجود إثر انهيار القيادة السنية وبسبب السياسة التوسعية والانتهازية لإيران، وكذلك بفضل مسلسل متصل لسوء التقدير الأمريكي.
في هذا المجال، بذل الباحثان حسن أبو هنية ومحمد أبو رمان جهدا مقدرا في سبيل وصف الحاضنة التي ترعرعت فيها داعش. صدر للرجلين مؤخرا عن دار فريدريك إيبرت شيفتونغ بألمانيا كتاب صغير بعنوان “تنظيم الدولة الإسلامية، والأزمة السنية، ونضال الجهاد العالمي”. يسرد الكتاب من المؤشرات ما لم يوفق آخرون إلى إدراكه أو ما ذهب البعض خطأ إلى التقليل من أهميته. كما يرسم الكتاب ملامح العلاقة التكافلية بين أزمة السياسة العربية السنية والانتشار السريع لهذه المجموعة التي بدأت صغيرة جدا حينما انبثقت عن القاعدة.
إنها في مستوى ما كأنها قصة من هوليوود: إذ كيف يمكن لمجموعة لا يزيد عدد أتباعها على ثمانين شخصا مع عائلاتهم كانوا يقيمون في معسكر في هيرات داخل أفغانستان أسسها وأدارها شاب أردني اسمه أحمد فاضل الخلايلة جاء من مدينة الزرقاء أن ينتهي بها الأمر بعد خمسة عشر عاما وقد سيطرت على مساحة من الأرض تعادل مساحة بريطانيا بأسرها. وهي في مستوى آخر أشبه ما تكون بعمل روائي لتشيكوف – سوء تقدير يخفي من ورائه سوء تقدير آخر، وهكذا.
لقد فهم الزرقاوي، ذلك الجهادي الذي اتخذ من العراق مقرا له، شيئا لم يفهمه أسامة بن لادن ذو التوجه العولمي. لقد أدرك الزرقاوي الطبيعة الحقيقية لسياسات الهوية في عالم عربي يمر بمخاض ثوري تحولي على مستوى المنطقة بأسرها، حيث بدأت الدول في الانهيار، وحيث لم يعد زعماؤها يمثلون شعوبهم.
كتب الزرقاوي:
“قتالنا مع الأمريكان أمر بسيط للغاية، فالعدو مرئي وظهره مكشوف، وهو جاهل بالأرض وجاهل بحقيقة ما عليه المجاهدون، وذلك بسبب ضعف معلوماته الاستخباراتية. ونحن نعلم علم اليقين بأن هذه القوات الصليبية سوف تتبدد غدا أو بعد غد”.
ويضيف الزرقاوي متحدثا عن الشيعة:
“الرافضة عقبة كؤود، فهم الحية المتربصة، والعقرب الماكر، والعدو الحاقد والزاحف، وهم السم الزعاف”.
وهو يعتبر خطرهم مستمرا وأطماعهم لا حدود لها، ويضيف:
“مع مرور الأيام كبرت آمالهم في أن يقيموا دولة للرافضة تمتد من إيران مرورا بالعراق وسوريا إلى لبنان وتشتمل على ممالك الخليج الكرتونية”.
كتوقع (في خطاب وجهه الزرقاوي إلى ابن لادن) يعود إلى فبراير من عام 2004، فإنه على درجة لا بأس بها من الدقة.
انطلق الزرقاوي في تحليله من الحقيقة السياسية المركزية التي تفيد بأنه بينما وجد شيعة العراق سندا في إيران لم يكن ثمة سند للسنة فيه، الذين كان حكامهم إما نخبا أفسدتها الرشا أو طغاة مستبدين ولاؤهم ينحصر لعائلاتهم المقربة (الحاكمة).
لم يكن ظهور داعش وتناميها مضطردا دائما ولا سلسا. بل إنه ما إن ظهرت إمارات بديل سياسي كاد يثبت وجوده من خلال الانتخابات التي أعقبت انطلاق الثورات العربية حتى انفض الجمع عن القاعدة وعن داعش معا وشحت مواردهما. لقد كاد ظهور الإسلام السياسي يصيب داعش في مقتل، إلا أنها ما لبثت أن وجدت ما أنعشها وأعادها إلى الوجود من جديد. كان ذلك هو الانقلاب العسكري في مصر الذي مكن داعش من استقطاب المتطوعين وفتح باب التجنيد لها على مصراعيه. والمذهل أن الانقلاب كان مدعوما وممولا من قبل الدكتاتوريات العربية السنية، مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، بهدف تدمير جماعة الإخوان المسلمين. وفي المقابل، كانت إيران تقدم الدعم الكامل للجماعات الشيعية الموالية لها عبر العالم العربي.
في الحادي والثلاثين من آب/ أغسطس 2013، صدر للناطق باسم داعش أبي محمد العدناني تسجيل صوتي بعنوان “السلمية دين من؟”، لم يلبث أن انتشر بين الناس كالنار في الهشيم. قال العدناني في تسجيله مخاطبا أهل السنة:
“عليكم أن تعلموا، أيها السنة الثائرون في كل مكان، أن محنتنا ليست مع الأنظمة الحاكمة وإنما مع القوانين الشركية التي تحكمكم. ولن يكون ثمة فرق بين حاكم والذي يليه ما لم نغير القانون. لا فرق بين حسني مبارك ومعمر القذافي ولا بين زين العابدين بن علي ومحمد مرسي ولا بين مصطفى عبد الجليل وراشد الغنوشي، فكلهم طغاة يحكمون بنفس القوانين”.
ووصف العدناني جماعة الإخوان المسلمين التي تعرضت للسحق على أيدي الانقلابيين في مصر بأنها “حزب علماني في رداء إسلامي”. وكانت الرسالة الأهم على الإطلاق في خطابه لأهل السنة على النحو التالي: “تخلوا عن دعوات السلمية، احملوا السلاح، وأعلنوا الجهاد في سبيل الله لتخلصوا أنفسكم من المعتدين في الجيش المصري وفي الجيش الصفوي (العراقي)”.
لم يكن ذلك بمثابة إصدار حكم شرعي فحسب، بل كان أيضا استجابة سياسية لوضع اختفت منه السياسة بما تعنيه من دساتير وانتخابات وبرلمانات. في ذلك الوقت كان الزرقاوي قد أصبح جسده رمادا، إلا أن دكتاتورين طائفيين – تدعم أحدهما كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بينما تدعم الآخر كل من إيران وروسيا – كانا يقومان بخدمات لا تقدر بثمن كان الزرقاوي في أمس الحاجة إليها لينبعث حيا من جديد: إنهما نوري المالكي وبشار الأسد. كلاهما يستحق أن يمنح النسخة الجهادية من وسام الشرف (تقديرا لجهودهما في تدعيم داعش).
المالكي والأسد كلاهما كانا يعززان الرسالة التي مفادها أن السياسة قد ماتت، وذلك من خلال استخدامهما للقوة المفرطة في قمع المعارضات السلمية السياسية التي كانت تواجههما. في العراق، ما إن انسحب الأمريكان حتى تبددت سياستهم التي حاولوا من خلالها الحفاظ على صفقة كانت قد أبرمت مع كتلة العراقية للمشاركة في السلطة.
نشرت صحيفة الواشنطن بوست في العام الماضي تقريرا تضمن تفصيلات دقيقة من الداخل أعده علي خضيري، المسؤول الأمريكي الذي خدم في العراق المدة الأطول من بين زملائه الآخرين. فنظرا لأنه كان واحدا من المسؤولين الأمريكان من أصول عراقية الذين عرفوا الأمريكان على المالكي، كان خضيري يشعر بالمسؤولية تجاه سلوك الرجل.
قال خضيري في تقريره:
“لقد ثارت حفيظة العرب السنة – الذين تغلبوا على خلافاتهم الداخلية ليشكلوا تحالف العراقية العلماني مع من يرى رؤيتهم من الشيعة العرب ومن الكرد والتركمان والمسيحيين – حينما طلب منهم التخلي عن رئاسة الوزراء بعد أن نجحوا في دك القاعدة وفازوا في الانتخابات (بالمركز الأول). فحتى بعض زعماء الشيعة الإسلاميين كانوا يعبرون سرا عن عدم ارتياحهم إزاء توجه العراق تحت المالكي، بل ذهب الصدر إلى أبعد من ذلك حين وصف المالكي علنا بأنه “طاغية”. والأسوأ من ذلك أنه لم يعد أحد يعتبر الولايات المتحدة الأمريكية وسيطا نزيها”.
لم يكتف المالكي بالاستنكاف عن الوفاء بالتزامات كان قد قطعها على نفسه بأن يدفع رواتب منتسبي الصحوات، وهم أولئك المقاتلون السنة الذين ألحقوا الهزيمة بالقاعدة، بل سعى خلال ساعات فقط من انسحاب القوات الأمريكية في ديسمبر من عام 2011 إلى إلقاء القبض على خصمه ومنافسه نائب الرئيس طارق الهاشمي ولما لم يتسن ذلك له أصدر عليه حكما غيابيا بالإعدام. وبعد ذلك بعام واحد كرر الأمر ذاته مع وزير المالية رافع العيساوي.
خلص خضيري في تقريره إلى القول:
“باختصار، عراق الرجل الواحد وحزب الدعوة الواحد في عهد المالكي يكاد يشبه إلى حد التطابق عراق الرجل الواحد وحزب البعث الواحد في عهد صدام حسين، إلا أن صدام نجح في احتواء عدو أمريكا الاستراتيجي: إيران، ولم تنفق الولايات المتحدة الأمريكية عليه تريليون دولار مساندة ودعما. لم يبق في العراق الكثير من الديمقراطية حيث يتحكم رجل واحد وحزب واحد، تربطهما بإيران علاقات وثيقة، بالقضاء والشرطة والجيش والمخابرات وموارد النفط والمالية والبنك المركزي. في مثل هذه الظروف، لم يعد تجدد الحرب الأهلية العرقية والطائفية في العراق أمرا محتملا، بل أصبح أمرا مؤكدا”.
لم يكن هذا رأي كونداليزا رايس، التي تعتبر واحدة من رعاة المالكي وداعميه بقوة. تعشق السيدة رايس، والتي شغلت من قبل منصب مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية في إدارة بوش، رياضة الغولف. صادفتها حين توقفت في مكتب صحيفة الغارديان بلندن في طريقها إلى ميدان الغولف في اسكتلاندا، وسألتها حينها عن رأيها في فرق الموت التي أطلق لها المالكي العنان في محافظة الأنبار.
نظرت إلي باستغراب شديد، كما لو أنني هبطت عليها من كوكب آخر، وقالت إن المالكي “زعيم وطني عظيم” وهو في نفس الوقت “صديق شخصي حميم”.
بالطبع، أسفر انقلاب المالكي الناعم عن فائز آخر، إنها إيران، ولا أدل على ذلك من أن خضيري في تقريره المذكور آنفا وصف الجنرال قاسم سليماني، رئيس وحدة قوة القدس داخل الحرس الثوري الإيراني، بأنه أقوى رجل في العراق بل وفي الشرق الأوسط، وكان بإمكانه أن يذكر سوريا بالاسم.
أما بشار الأسد فكان الشريك المثالي لداعش من ناحيتين. منذ ما قبل انطلاق الانتفاضة السورية في عام 2011 كان الأسد وجهاز مخابراته يعتقدان بأنه من الممكن تطويع الجهاد لصالح النظام. كان المقاتلون الأجانب في تلك الأثناء يدخلون إلى سوريا ويقيمون فيها الشبكات التي يستخدمونها اليوم. ثم حينما بدأت الثورة في درعا رد الأسد على الاحتجاجات السلمية باستخدام القوة الشديدة ما حفز أعدادا كبيرة من أفراد الجيش السوري على الانشقاق وتشكيل الجيش السوري الحر لحماية المظاهرات والمسيرات.
وشجع الأسد عسكرة الثورة من خلال إطلاق سراح المعتقلين في سجن صديانا، وكان واحدا من أعتى السجون التي كان يحتجز فيها المعتقلون الإسلاميون، وكان من أبرزهم: زهران علوش، مؤسس وآمر لواء الإسلام والذي أصبح فيما بعد جيش الإسلام، وحسن عبود، المعروف بعبد الله الحموي، والذي برز آمرا لأحرار الشام، وعيسى الشيخ، الذي أصبح آمرا للواء صقور الإسلام.
ما لبث دخول حزب الله إلى ساحة المعركة الأهلية في سوريا أن قدم الدليل النهائي، لو كان ثمة حاجة إلى مثل هذا الدليل، على دور إيران فيها. استغرق حسن نصر الله بعض وقت قبل أن يعترف بالدور الذي كان مقاتلوه يمارسونه في سوريا. ففي أكتوبر من عام 2012 قال إنهم كانوا يقاتلون بصفة فردية وليس بتوجيه من قيادة الحزب. وكان الشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام السابق لحزب الله، قد ألمح أكثر من مرة إلى أن نصر الله أثار شكوكا حول دور حزب الله في مساندة الأسد في سوريا، وقال إن حزب الله بات تحت السيطرة الكاملة لإيران.
وقال في تصريح لقناة العربية:
“لقد سقط مشروع حزب الله كحركة مقاومة تعمل من أجل توحيد العالم الإسلامي. لم يعد حزب الله تلك الحركة التي تدافع عن الأمة الإسلامية، بل غدا بدلا من ذلك مصيبة على الأمة”. وأشار الطفيلي إلى أن “حزب الله أثار العالم بأسره وأشعل فتيل حرب طائفية فتحت الباب على فترة عاتية تسود فيها الفتن”.
بعد إبرام صفقة النووي لم تعد إيران العدو الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن الملايين من أهل السنة في مختلف أرجاء العالم العربي يرون فيها الآن عدوا استراتيجيا، وذلك بسبب ما تمخضت عنه الأحداث في كل من العراق وسوريا واليمن. لن تتمكن إيران إطلاقا، على النقيض مما تفاخر به وادعاه بعض المحافظين فيها، من السيطرة على أربع عواصم عربية. بل كل ما هي قادرة على فعله هو القتال ونشر الفوضى في المنطقة. فقط فيما لو انسحب الحرس الثوري الإيراني من مواقع مغامراته الأجنبية، وفقط حينما يحدث ذلك، يمكن لإيران أن تستأنف ممارسة دورها التقليدي كوسيط نزيه وجار وشريك، ولكن عليها أولا أن تتخلى عن دورها كمسعر حرب بالوكالة. للأسف، لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن إيران تدرك مغبة ما تقوم به في الوقت الراهن.
تلك هي إذن الأحداث الثلاث التي أفرزت داعش ومكنت لها: التخلي عن المشاركة في السلطة في العراق، وسحق المظاهرات السلمية التي خرجت ضد الأسد في سوريا والانقلاب العسكري على الديمقراطية في مصر. تشكل هذه الأحداث الثلاث مجتمعة لب الأزمة السياسية السنية، وهي الأزمة التي دفعت بداعش نحو الواجهة، وهي التي ستستمر في توليد المزيد من الخلايا الداعشية في مختلف أرجاء العالم العربي بل وحول العالم بأسره إلى وقت طويل حتى بعد أن يتم ملء الفراغ السياسي المركزي.
وفي ذلك يقول هنية وأبو رمان:
“سيظل أضعف نقاط تنظيم الدولة الإسلامية، وربما عقب أخيلها، هو علاقتها بالمجتمع السني. إذا ما انقلب قطاع كبير من هذا المجتمع عليها كما فعل من قبل، سواء لأسباب سياسية أو رفضا لإملاءاتها الدينية والأيديولوجية على المجتمع، فحينها سيصبح العامل الذي أدى إلى ظهورها هو العامل الذي سيؤدي إلى سقوطها”.
ستجد الأزمة السياسية السنية طريقها إلى الحل فقط حينما يتم ملء الفراغ الحاصل في السياسة من قبل زعماء منتخبين بشكل ديمقراطي وقادرين فعلا على تمثيل الجماهير السنية، وحينما تدرك إيران أن ثمة حدود جغرافية لأطماعها. وإن وجود بديل سياسي للسنة وللشيعة على حد سواء هو شرط أساسي للتصالح والتعايش الذي لا مفر من إجرائه بين مكونات المنطقة. لكن، لا يبدو، على الأقل حتى الآن، أن أحدا في العراق أو في سوريا يحبس أنفاسه ترقبا لحدوث ذلك في الحال.
المصدر: هافنغتون بوست – ترجمة عربي 21