إشكالية تراجع أسعار النفط عالميًا تواجه كافة الاقتصادات النفطية وفي القلب منها دول الخليج العربي، يأتي ذلك بالتزامن مع فترة اقتصادية عالمية تتسم بالضحالة والسير إلى المجهول، وهو ما يجعل سوق النفط يعج بالمعروض مع انخفاض الطلب في نفس الوقت، وهذا يُعد أحد الأسباب الرئيسية لانخفاض أسعار النفط بعيدًا عن سبب تمسك الدول المنتجة بعدم خفض الإنتاج لمعالجة سوق البترول، وبدون الخوض في النوايا السياسية لهذا التصرف يظل الأمر عبئًا على تلك الدول بعد انخفاض الأسعار الحاد.
بالحديث عن دول الخليج العربي كأحد أبرز البؤر النفطية المنتجة في العالم، التي أسست نموها الاقتصادي بالأساس على الريع النفطي. فإن ثمة نظرية تقول أن تلك الدول تمتلك من الاحتياطات المالية الفائضة ما يمكّنها من تعويض خسائرها الحالية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط ، فهذه الدول جمعت احتياطات مالية تقدر بـ 2450 بليون دولار راكمتها خلال السنوات الماضية بفضل ارتفاع أسعار الخام، وذلك وفق معهد “المالية الدولية”. لكن هذه النظرية نسبية للغاية لأن تلك الاحتياطات متفاوتة بالتبعية لكم الإنتاج السابق وكم الاحتياطي النفطي وتبعًا أيضًا للسياسة الاقتصادية والمالية التي ستتعامل بها كل دولة على حدة مع هذه الأزمة.
هناك نوعان من الاقتصاد يمكن الحديث عنهم في خضم هذه الأزمة، النوع الأول هو اقتصاد يعتمد بالأساس على تحصيل أكبر نسبة من إيرادته من العوائد النفطية وقد تصل هذه النسبة إلى حد 90% وهي نسبة كبيرة جدًا جعلت النفط هو قاطرة هذا الاقتصاد الأساسية، لأن هذا النوع من الاقتصاد لم يستطع حتى اللحظة تنويع مصادر الدخل وهو ما يجعل تذبذب أسعار النفط مؤشرًا سلبيًا على استقراره لأنه بنى كافة حساباته المستقبلية على أسعار محددة لا تقل عنها إيرادات النفط وهو ما يُعتقد أنه سيدخل ميزانية هذا الاقتصاد في طور العجز.
أما النوع الثاني من الاقتصاد هو الذي بدأ في استثمار العوائد النفطية في خلق اقتصاد موازي مستغلًا الاحتياطي النقدي الفائض، ولكن هذا الاقتصاد الموازي بشكل أو بآخر ارتبط بالسوق العالمية المتذبذبة هي الآخرى ولكن على الصعيد الداخلي فإن انخفاض عوائد البترول لن تؤثر عليه بشكل ملحوظ ولكن بالتأكيد سيؤثر على الانفاق في مشروعات الاقتصاد الموازي، لذا تبدو العلاقة متشابكة، ولكن رغم ذلك فإنه يُعتقد أن مثل هذا الاقتصاد هو الذي سيصمد أمام تقلبات النفط وضغوطه.
إذا ما طبقنا بنماذج عملية خليجية على هذين النوعين من الاقتصاد فإن أبرز الدول المرشحة للنمذجة هي المملكة العربية السعودية كتطبيق عملي على النوع الأول “الاقتصاد النفطي البحت”، ودولة الإمارات العربية المتحدة كتطبيق عملي على النجاح في خلق اقتصاد موازي اعتمادًا على عوائد النفط.
السعودية والتأثر بانخفاض أسعار النفط
بشكل عام تُنتج دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية 17 مليون برميل من النفط يوميًا، تصدر من هذا الإنتاج أكثر من 12 مليون برميل وهو ما تحصل منه 90% من الدخل الاقتصادي، وتعد السعودية أكبر منتج للنفط في العالم، وتمثل مصدرًا مهمًا للطاقة بالنسبة لكثير من الاقتصادات العملاقة ومن بينها كل من الولايات المتحدة والصين، وهما أكبر اقتصادين في العالم، ومع انخفاض أسعار النفط الحالية قدر البنك الدولي الخسائر المتوقعة لدول مجلس التعاون الخليجي بنحو 215 مليار دولار في ستة أشهر فقط من انخفاض أسعار النفط بهذا الشكل، هذه الخسائر تُشكل 14% من إجمالي الناتج المحلي لدول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة.
فالسعودية تحتاج بشكل واضح إلى أن تصل إلى موازنة متعادلة لتجنب الآثار السلبية لانخفاض تلك الأسعار وهو أمرٌ من الصعوبة بمكان الآن بسبب تدني أسعار النفط لمستويات قياسية، فقد قدر النقد الدولي أن متوسط سعر النفط الذي تحتاج إليه السعودية كدولة معتمدة بالأساس على ريع النفط للوصول إلى نقطة التعادل في موازنتها لهذا العام هو 90.70 دولارًا للبرميل، ولكن الواقع أن سعر البرميل سجل مستويات أقل من ذلك بكثير.
هذا الانخفاض الحاد جعل السعودية تعتمد على احتياطها النقدي الهائل لسد عجز الموازنة، هذا الاحتياطي النقدي بلغ مطلع العام الجاري 732 مليار دولار، انخفض بعد أبريل إلى 683 مليار، لأن الاقتصاد السعودي اضطر إلى سد عجز الموازنة عن طريق سحب 49 مليار دولار في أربع شهور فقط التي تم اعتمادها على أساس ارتفاع معقول في أسعار النفط لكنه لم يحدث.
هذا الأمر بطبيعة الحال أكثر تأثيرًا على الاقتصاد السعودي من غيره وكذلك على الدول التي تعتمد بشكل رئيسي على قطاع النفط، لكن الاحتياطات النقدية ستساعد السعودية على الصمود ولو مؤقتًا أمام انخفاض الأسعارهذا، لكنه سوف يؤدي إلى دق ناقوس الخطر ذلك أن طول فترة الانخفاض الحاد في الأسعار سوف يقود إلى أزمة اقتصادية نسبية وليست حادة لكنها قد تدخل طورًا عنيفًا فيما بعد إذا لم تستطيع المملكة والدول المنتجة للبترول تبني رد فعل أكثر قوة أمام التدهور في أسعار النفط بسبب خوف كل دولة على سوق حصتها النفطية.
كما أن هذا التراجع الحاد في الأسعار وجه اقتصادات منطقة الخليج وخاصة السعودية إلى مخاطر أو إشكالات التعامل مع أسعار البترول بأريحية تامة عند وضع الموازنة العامة للبلاد وإقرارها، وشكَّل نوع من التحفظ في اعتماد الأسعار المتوقعة لمعادلة الموازنة، وهو ما يؤدي إلى تخفيض الإنفاق بشكل ملحوظ وتراجع خطط التنمية حتى وإن استعانت تلك البلاد بالاحتياطيات النقدية لسد عجزها الآني، ولكنه من المستحيل إنفاقها على مشروعات تنموية لفترة طويلة.
وللحالة السعودية خصوصية في هذا الصدد لعد أسباب أهمها تورطها في حرب اليمن التي وبلا شك أنهكتها اقتصاديًا، كذلك تورطها في الصراع السوري وتداعياته، وفي الأزمة المصرية التي تدخلت السعودية بشكل رئيسي فيها عن طريق المنح المالية المقدمة لنظام الانقلاب العسكري الوليد، والاتفاق النووي الأخير الذي سيعظم من إمكانيات الغريم الإيراني ماليًا بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنه وهو أحد خصوصيات تأثر الاقتصاد السعودي بأزمة أسعار النفط.
لذلك تأمل السعودية في وضع نهاية للصراع اليمني والسوري، كما قامت بتعديل سياستها المالية تجاه النظام المصري لخفض انفاقها خارجيًا، وهو ما سيعجل بحث السعودية عن كيفية تجاوز آثار هذا القلق الاقتصادي للتفرغ لمواجهة إيران في المنطقة والاقتصاد بكامل عافيته، وقد لجأت السعودية إلى التوسع المستمر في الأنشطة الاقتصادية في القطاعات غير النفطية بمعدلات نمو سنوية فاقت 5 %.
وعملت الحكومة السعودية أيضًا على توفير البيئة المناسبة للاستثمارات الخاصة التي بدورها أثمرت بعض الشئ في تحقيق معدلات جيدة لنمو ناتج القطاع الخاص في القطاعات غير النفطية خلال السنوات الخمس الماضية، وهو إدراك متأخر لأهمية تنويع مصادر الدخل واستغلال الفوائض المالية، لكن بشكل عام يدل هذا على أن دول المجلس الخليجي حتى الآن لم تتحرر من قيود النفط.
الإمارات ومحاولات النجاة من شبح أزمة البترول
أما عن دولة الإمارات العربية المتحدة فإنها لا تشعر بالقلق بنفس القدر الذي أصاب باقي دول مجلس التعاون الخليجي وإن كان للأمر تأثيرات واضحة عليها، وهذا بفضل التنوع الذي نجحت دولة الإمارات أن تلحقه باقتصادها في الفترة الأخيرة، على الرغم من أنها راكمت هي الأخرى كباقي دول مجلس التعاون مدخرات هائلة خلال الطفرة النفطية في هذه الفترة، لكنها لم تنتهج الطريقة السعودية في اللجوء إلى هذه المدخرات لتغطية العجز في ظل انخفاض أسعار النفط.
فبرنامج الاقتصاد الإماراتي بدء منذ فترة يجني ثمار الاعتماد جزئيًا على إيرادات السياحة في إمارة دبي وكذلك مجال الخدمات اللوجستية البحرية والطفرة في مجال استثمارات البنية التحتية، وعلى الرغم من ذلك فإن الإمارات تلجأ حاليًا إلى كبح جماح الإنفاق في ضوء انخفاض أسعار النفط ومشتقاته لأن الاقتصاد ما زال الجزء الأكبر منه لم يتخلص من الاعتماد الكبير عليه فيما ستكون مخاطر الأزمة الحالية أقل ضررًا على دولة الإمارات من غيرها بسبب تنويع مصادر دخلها في السنوات الأخيرة.
فقد صرح “زين زيدان” الذي قاد المحادثات الإماراتية مع صندوق النقد الدولي في حديث لوكالة رويترز إن هذا العجز لا يشكل أي تهديد للاقتصاد الإماراتي، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنه مع أسعار النفط الحالية يمكن للإمارات أن تبقي انفاقها عند المستويات الحالية لمدة تتراوح بين 30-40 سنة على الأقل، بالاعتماد على وفرة الاحتياطيات المالية، هذا بالإضافة لاقتصادها الموازي.
وعلى الرغم من أن الأمر له بعض الجوانب السلبية لكن الإمارات استفادت من الأمر بشكل واضح في القطاعات الصناعية واللوجيستية والخدمية، إذ أن هذه القطاعات استفادت بشكل كبير من انخفاض أسعار النفط، حيث أن هذا الانخفاض يُقلل من تكلفة النقل والكهرباء في تلك القطاعات، وهو الأمر الذي سيعوض الدولة الإماراتية عن الجوانب السلبية لانخفاض أسعار النفط.
فالإنتاج النفطي يمثل 30% من الناتج المحلي للإمارات وبالتحديد إمارة دبي تعتمد على النفط في ميزانيتها بنسبة 9%، في حين أن تقارير البنك الدولي وصندوق النقد أشارت بأن الدول التي تعتمد على النفط في ميزانيها بأكثر من 40% ستتأثر بشدة من انخفاض أسعار النفط، وهو ما يعني استثناء الإمارات من ذلك التأثر السلبي.
فالاقتصاد الإماراتي له ارتباطات خارجية أكثر من أي اقتصاد في منطقة الخليج خاصة في القطاع العقاري واللوجيستي وهو ما يمثل تنويع لمصادر الدخل الإماراتي، لكن هذه المصادر المنوعة لديها أخطار تداهمها هي الأخرى غير انخفاض أسعار النفط الذي يُهدد القطاع النفطي، فالإمارات عرضة بشكل كبير لتقلبات السوق العالمية وهو ما حدث بالفعل في العام 2008.
فكانت أكثر الدول الخليجية تأثرًا بالأزمة الاقتصادية العالمية على عكس بقية دول الخليج التي كانت تعتمد على النفط حينها فقط، لذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تستغني الإمارات عن إيرادات النفط في دعم اقتصادها ولا يمكن أن يتحول بشكل كامل اقتصادها إلى اقتصاد متنوع خارجي لأن لهذا الأمر مخاطره الأخرى، لذلك تعمل الإمارات الآن على الموازنة بين هذا وذاك.
هذه الدول الخليجية التي تعتمد على النفط بشكل أساسي في اقتصادها وتلك الدول الأخرى التي تحاول التفلت منه بدعم قطاعات أخرى لم تنجح كليهما في التحرر من قيود النفط ولو على المستوى المواطن الخليجي، فاستمرار الضغوط في السوق النفطية يمكن أن يجبر الحكومات الخليجية على تنفيذ إصلاحات تهدف إلى اعتماد نظام مالي جديد، هذا النظام بلا شك سيلقي بظلاله سلبًا على المواطن الخليجي الذي اعتمد على الرفاهية المستدامة.
الإمارات أول الدول التي سعت في تلك الإصلاحات بناء على نصائح دولية عدة وقامت بخطوة تحرير الوقود من الدعم، ومن المعتقد أن تلجأ بقية دول المجلس إلى خطوات مثلها في الفترة المقبلة مع استمرار اضطراب سوق النفط، خاصةً وأن دول الخليج منفردة بأعلى دعم حكومي للفرد في الطاقة مقارنةً بالاقتصادات العالمية الكبرى، فدول مجلس التعاون الخليجي مجتمعةً تنفق ما يقرب من 360 مليار دولار على الدعم بعد الضريبة في مجال الطاقة، وهذا الدعم يمثل قرابة 6.75 % من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة كبيرة لا شك مقارنة بانخفاض الدخل الناتج عن انخفاض أسعار البترول.