أتى الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع الدول الغربية في فيينا، ويفتح الباب أمام عودتها كلاعب طبيعي في الاقتصاد العالمي، ليزيد الطين بلّة فيما يخص حسابات سوق الطاقة، والتي عانت العام الماضي بالفعل من هبوط الأسعار بشكل حاد نتيجة تحولات في خارطة الطاقة الأمريكية، وبطبيعة الاقتصاد الصيني، ومع وجود كل ذلك بدون النفط الإيراني، فإن بدء إعادة تصدير النفط والغاز الإيرانيّين بشكل عادي، وهي واحدة من أكثر خمسة بلدان احتواءً على النفط، سيعني على الأرجح المزيد من الهبوط ما لم يزداد الطلب العالمي بشكل كبير.
كان السبب الأول في اضطراب سوق النفط العالمي هو ثورة شيل Shale الأمريكية، حيث نجحت الشركات في الولايات المتحدة في استخدام تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي لاستخراج كميات كبيرة من النفط والغاز كان مستحيلًا الوصول لها في السابق، مما زاد بالطبع من معدّل الإنتاج على مستوى العالم، ووضع الولايات المتحدة على طريق الاكتفاء الذاتي من الطاقة في المستقبل بل وربما التصدير، لتصبح الرؤى الاستراتيجية بعيدة المدى في واشنطن أكثر تركيزًا على المحيط الأمريكي، وأكثر رغبة في الفكاك من الشرق الأوسط التي تواجد فيها الأمريكيون لعقود نظرًا لمركزية النفط الخليجي للاقتصاد الأمريكي.
السبب الثاني، والذي ينقلنا إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، هو أن النمو المعتاد في الاقتصاد الصيني، والذي يدفع الاقتصاد العالمي بحجمه الكبير لاستيعاب أي نمو في إنتاج النفط والغاز، لم يحدث العام الماضي، ولن يحدث في الحقيقة ربما مرة أخرى نتيجة تحول الصين إلى نمط الاقتصادات الأوروبية ذات النمو البطئ وعبورها مرحلة النمو السريع الرخيص، والتي ستنتقل على الأرجح إلى اقتصادات جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحالما يحدث ذلك التحول بشكل كامل في تلك المناطق، فإن الاقتصاد العالمي سيعاني من ركود نسبي في الطلب على النفط، مما يعني أن أي زيادة في الإنتاج ستساهم في هبوط الأسعار إلا إذا قررت السعودية خفض إنتاجها، وهو ما يبدو أن الرياض ترفضه بعند واضح.
تباعًا، إذا ما عادت إيران بالفعل بكامل طاقتها الإنتاجية، فإن الأسعار ستزداد هبوطًا، ولكن السؤال هو هل تعود إيران بسرعة بالفعل إلى قلب الطاقة العالمية؟ أم أن هناك عوائق تحول بينها وبين ذلك الهدف؟ وما تبعات عودتها على الشرق الأوسط ومنظمة أوبِك من ناحية؟ والمهتمين بها في السوق الأوروبية من ناحية أخرى؟
بين طهران والسوق العالمي: طريق العودة ليس سريعًا
على الرُغم من التوقعات الكثيرة حيال عودة إيران، إلا أن إعادة اندماجها في السوق العالمي بشكل عام لن تكون يسيرة كما تقول تحليلات كثيرة، وإن كانت العشرات من شركات الطاقة قد اتجهت لطهران في الآونة الأخيرة لعقد الصفقات وبدء الاستثمارات في حقول النفط والغاز الإيرانية، فإنها في نهاية المطاف ستخضع لتفاصيل الاتفاق النووي التي تقضي برفع العقوبات تدريجيًا على مدار السنوات القادمة وليس جملة واحدة، أضف لذلك أنها ستخضع أيضًا لمدى ما تود القيادات السياسية في إيران أن تعطيه من حصة الطاقة الإيرانية للشركات الأجنبية.
على العكس مما يظن البعض، ومع توق الشارع الإيراني إلى استقبال الاستثمارات الأجنبية والانفتاح على العالم، إلا أن مراكز القوى في النظام الإيراني ستحدد في النهاية الكيفية التي سيُدار بها الانفتاح خلال العقد المقبل بشكل لا يضر الشركات المملوكة لها، والتي ستعاني بالطبع كما هو الحال مع أي انفتاح جراء المنافسة مع الشركات الكبرى، علاوة على أن بيروقراطية الجمهورية الإسلامية ستحتاج لوقت طويل لمواكبة التعامل مع دينامية السوق المفتوح، والتخلي عن المؤسسية الصلبة التي تتسم بها، وكذلك هندسة التحول من تحالفاتها المقتصرة على روسيا والصين، ونسج علاقات جديدة مع أوروبا، وكيفية تطبيقها على الأرض إن وجدت تعارضات بيها وبين الروس تحديدًا.
أيضًا، ستحتاج إيران إلى استثمارات كبيرة في مجال البنية التحتية لمواكبة أحدث ما وصل له العالم في مجال استخراج وإنتاج النفط والغاز إن أرادت تحقيق الريادة فيه، نظرًا لقِدَم البنية الموجودة فيها الآن، والتي كانت حديثة نسبيًا ما قبل الثورة نتيجة تحالف النظام الشاهنشاهي مع القوى الغربية والتي زودته بأحدث التقنيات، ولكنها تراجعت بالطبع بعد الانقطاع عن الغرب والاقتصار على التعامل مع الروس والصينيين.
في جميع الأحوال، وفيما يخص النفط والغاز تحديدًا، من المتوقع أن تبدأ شركات مثل شِل وتوتال وبي پي خلال العام المقبل العمل في السوق الإيراني، بغض النظر عن مدى الحصة التي ستحصل عليها من السوق الإيراني، وهو ما سيزيد من الإنتاج الإيراني بشكل نسبي، وسيؤثر على دور طهران في الشرق الأوسط وفي منظمة أوبِك، وسيدفع الأسعار إلى الهبوط مجددًا ما لم يجد جديد في عالم النفط.
إرهاصات العودة: الشرق الأوسط وأوبِك ولعبة الغاز الأوروبية
ستؤثر عودة إيران بالتأكيد على حسابات الطاقة في الشرق الأوسط، بغض النظر عن تفاصيل تنفيذ الاتفاق وسرعته، والبلد الذي سيستفيد من عودة النفط والغاز الإيرانيين إلى السوق سيكون بالأساس تركيا، التي تضع نفسها على مفترق طرق نقل الطاقة العالمية منذ سنوات وتسعى لتعزيز موقعها، وهو موقع لا مفر منه لنقل الطاقة الإيرانية إلى أوروبا أبرز المهتمين بفتح السوق الإيراني، أضف لذلك أن التبادل التجاري الكبير بين البلدين، والذي خضعت أنقرة لضغوطات كبيرة من التحالف الغربي بسببه، سينفتح الآن على مصراعيه بعد الاتفاق ليفيد كل منهما، لا سيما وأن تركيا تحصل على 30٪ من احتياجاتها من الطاقة أصلًا من إيران.
على صعيد آخر، سيصبح متاحًا لإيران أن تشكل لوبي نفط خاص بها عبر تحالفاتها مع العراق الغنية بالنفط، وكذلك فنزويلا وكردستان العراق القريبة الآن من طهران، علاوة على محاولاتها منذ اندلاع الربيع العربي تعزيز علاقاتها بليبيا لاكتسابها ناحيتها بدلًا من السعودية، وهي ربما تميل لجناح خليفة حفتر نظرًا لمخاوفها من الأرضية التي يكتسبها المتطرفون السنة في شرق البلاد، وإن كانت تدرك أنه يحظى بالأساس بدعم غريمها الإماراتي، وهي إشكالية بالطبع لا سيما وأن غالبية النفط تتركز في الشرق، مما دفع بطهران إلى دعم جهود الجزائر بشكل عام دون الانخراط بشكل مباشر في صراع بعيد عنها، حيث تُعَد الجزائر بمواقفها السياسية أقرب لإيران من كافة الأطراف المنخرطة في الملف الليبي.
تباعًا، وبشكل منطقي، ستكون دول الخليج هي المتضرر الأساسي من الاتفاق مع إيران، وليس بسبب العداوات الجيوسياسية فقط كما هو واضح، ولكن أيضًا بسبب التوتر الذي ستحدثه طهران داخل منظمة أوبِك، حيث توجد الآن مجموعة دول فقيرة مثل نيجيريا وأنغولا، وكذلك الجزائر وفنزويلا، تعاني من الصلف الرياض ضد تخفيض الإنتاج السعودي، والذي يبقى على الأسعار منخفضة وبالتالي يسبب تأزم ميزانيات تلك الدولة المعتمدة على النفط بالكامل، وهو ما قد يدفعها ربما بالميل ناحية إيران وأصدقائها للضغط على الرياض مستقبلًا، لا سيما وأن السياسات السعودية الحالية غير مرشحة للاستمرار نظرًا لأن مسألة صعود الإنتاج الأمريكي أصبحت أمرًا واقعًا في سوق الطاقة العالمي، وستحتاج إلى معادلة جديدة من جانب أوبِك.
بعيدًا عن النفط، وفيما يخص الغاز الذي تُعَد إيران واحدة من أبرز ثلاث دول تنتجه إلى جانب روسيا وقطر، يبدو وأن الغاز الإيراني سيجذب أوروبا بشكل كبير، والراغبة في التخلص من هيمنة الروس أو تقليصها على أقل تقدير، وهو ملف تهتم به ألمانيا وفرنسا بشكل رئيسي لتعزيز قدرتهما على الضغط على موسكو فيما يخص الصراع الأوكراني، حيث عانت بروكسل من عدم القدرة على مجاراة الروس وتشكيل أي ضغط حقيقي عليها نظرًا لتهديداتها بقطع إمدادات الغاز، وهو ملف ستستفيد منه تركيا، وربما يجلب اتفاقًا إيرانيًا تركيًا لتشكيل خط غاز يجلب الغاز التركمني والإيراني والآذري إلى أوروبا، بعد أن كانت الاختلافات بين حسابات طهران القريبة من روسيا تجعل ملف خطوط الغاز عالقًا بين طهران وأنقرة، وهي حسابات ستتبدل الآن وتعطي الضوء الأخضر لتحالف غاز مُمكِن بينهما.
ألمانيا تحديدًا مهتمة بالسوق الإيراني، البالغ تعداده 80 مليون نسمة، لتعويض خسائر شركاتها التي تكبدتها بعد فرض العقوبات على روسيا، وهي مرة أخرى مسألة ستعزز من استقلالية السياسة الألمانية عن موسكو، والتي كانت تستند في العقدين الماضيين بعد الحرب الباردة على الاشتباك مع موسكو وتوثيق الترابط الاقتصادي والسياسي بينها وبين برلين بشكل يعيق من فرصة نشوء عداوة، ويؤدي في النهاية لتشكل اقتصاد أوروبي كبير، وهي رؤية تحطمت بالطبع في السنوات الأخيرة بعد السياسات الروسية في أوكرانيا والبلقان، وتحتم على الألمان الآن البحث عن شركاء اقتصاديين جدد يعوّضون خسائر الخروج الجزئي من السوق الروسي.
***
في المُجمَل، يبدو على المدى القصير أن حدوث اضطرابات كبيرة في السوق العالمي، كالتي أحدثتها ثورة شيل، لن يكون متوقعًا نتيجة الطريق التدريجي الذي يقود إلى عودة إيران كاقتصاد طبيعي في العالم، والعقبات الكثيرة التي ستحتاج إلى اجتيازها في الداخل والخارج لتعيد رسم استراتيجيتها الجديدة في خريطة الطاقة والروابط التجارية مع الغرب بعد أكثر من ثلاثة عقود من الانقطاع عن ذلك العالم، غير أن حتمية التحول والتوابع السياسية الصِرفة للانفتاح على الغرب تعني أن الحسابات ستتغير من الآن استعدادًا لاستقبال طهران، بدءًا من منظمة أوبك والتي ستتغير قواعد سياساتها بشكل جذري، وحتى لعبة الغاز الأوروبية بين غرب القارة وشرقها، بيد أن الثابت هو أن إيران ستكون أبرز المستفيدين، بالإضافة إلى تركيا وألمانيا وشركات النفط الكبرى، في حين لا يبدو في الأفق أي خاسر بشكل واضح سوى دول الخليج، وربما روسيا في المستقبل البعيد.