موجع حقًا أن تمر لحظات بذاكرتك المتخمة بالألم على أيام مضت كنت رفقة زملائك، وأن تجد أغلب زملائك ترجلوا عن قطار الحياة وهم في منتصف الطريق، سيتجاوز الأمر إلى الشعور بتفاقم الوجع ليصل إلى النحيب والخوف من القادم المجهول.
للحظة واحدة تتذكر فيها أن أربعة من زملاء المهنة (الصحافة) قُتلوا وهم ينشدون الحياة في محافظتك، ذمار(100 كم جنوب صنعاء) التي لا تنظر للصحفي غير أنه “موظف” لدى جهة ما ويثير الكثير من المشاكل، بينما هو في الحقيقة ينشد للناس الحياة الأفضل والطريق المختصر نحو الحقوق والحريات.
ذمار المدينة الصغيرة الواقعة وسط اليمن، فيها كل شيء يحمل وجدان شاعر اليمن الراحل عبد الله البردوني، كعلم من أعلام المدنية وتاريخها المعتق بالجمال.
“قُتل أربعة من زملائي”، محزن الوقع تمامًا كحزن الفراق.
عندما يتحول صديقك وزميلك إلى مجرد خبر أنت تسرده وتخبر الناس به، يكون وقع الخبر فوق طاقتك، قًتل زملائي وهم يبتسمون في وجه القدر.
ربما يكون عامي 2014 و2015 من أسوأ الأعوام التي تمر على مهنة الصحافة ليس على ذمار وحدها بل على اليمن، للأرقام الكبيرة التي يسقط فيها عاملون في الحقل الإعلامي برصاص الآخرين.
فازع البعيثي .. القاعدة تنتصر بدم الأبرياء
رجل الأمن المبتسم، قصير القامة والبسيط في تعاملة مع الآخرين، كان للتو قد خرج من سوق لبيع القات في حي الجمارك وسط مدينة ذمار، عندما باغتته رصاصة في الرأس في الساعة الثانية مساءً من عصر الخميس 28 أغسطس 2014، تلك آخر لحظات حياة المقدم فازع إسماعيل البعيثي – رحمه الله – الصحفي الأمني والذي يعمل مدير الإعلام والعلاقات العامة في أمن محافظة ذمار.
بعد أسابيع من مقتله تم إماطة اللثام عن خلفيات الحادث، تقول التفاصيل إنه كان “صيدًا ثمينًا” لمسلحين من أعضاء التنظيم كانوا يستقلون دراجة نارية، داهمني الخبر وأنا في مجلس عزاء في مدنية ذمار، تجاهلت الأمر لأن الخبر لم يشر إلى زميلي فازع البعيثي، بل إلى ضابط في جهاز الأمن، وما أكثر الاغتيالات في بلدي، لاحقًا جاء تأكيد الخبر “فازع قُتل في الطريق العام”.
في منزله بحي الجمارك وسط مدنية ذمار، عقد الاجتماع الأخير قبل إشهار رابطة الصحفيين بمحافظة ذمار، واُختير ليكون مستشار الرابطة للشؤون الأمنية، وقبل أسابيع من مقتله، كان يحضر مع أعضاء الرابطة لعمل رحالة سياحية إلى مديرية عتمة – أول محمية طبيعية في اليمن – .
كانت أغلب تحركاته سيرًا على الأقدام وأعزل من السلاح تاركًا سلاحه الشخصي “مسدسه” بمنزله، لكنه اُغتيل، تاركًا سلاحه للأبد.
خالد الوشلي .. عندما يخبو صوت البسطاء
مطلع العام الحالي 2015، خسرت ذمار كذلك واحد من رجال الإعلام، خسرت صحفي آخر، قُتل خالد الوشلي مراسل قناة المسيرة الفضائية -المملوكة لجماعة الحوثي – في 4 يناير 2015 وهو يبحث عن الحقيقة لتصل إلى الناس بدون رتوش أو خدوش، قُتل في ميدان العمل عندما انفجرت في وجهه عبوة ناسفة زرعتها عناصر من تنظيم القاعدة، الراحل عرفته في ساحة التغير بذمار إبان الاعتصامات المفتوحة المطالبة برحيل نظام الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، ودائمًا ما يرفق كلامه بكلمة “سابر” – تمام -.
ذلك الشاب المفعم بالحياة والحب والبساطة، يرحل هو الآخر، قُتل خالد ليلحق بركب شهداء الصحافة في ذمار، وتخسر مدينتي البائسة صحفيًا آخر، وإعلاميًا آخر، يخبو صوت آخر.
مذبحة هران .. قابل والعيزري: رُسل الحقيقة
“تم اختطافهما من قِبل مسلحي جماعة الحوثي المسلحة من الشارع العام، ووضعا مع آخرين في مركز الرصد الزلزالي في جبل هران المطل على مدنية ذمار، ليكونوا دروعًا بشرية لقصف طائرات التحالف”، تلك هي باختصار قصة مقتل الصحفيين عبد الله قابل ويوسف العيزري مراسلي قناة “يمن شباب” و”سهيل” بمحافظة ذمار وسط اليمن، في 21 مايو المنصرم.
تقاسمت مع الراحلين الخبز، الجبن، البرد، والبطانيات أيام الثورة الشبابية ضد نظام صالح، في ساحة التغيير بذمار، كانت أيامنا تمضي مكتظة بالأحداث، كانا رسل الحقيقة ونخبة الإعلاميين في ذمار، خسرتهم أيضًا.
تركا حياتنا ليحيا في قلوب من أحبوهم، ليحيا في ذاكرة الناس ووجدان الشارع.
“يارفاق لم تكتمل الثورة ولم يكتمل الحلم بعد، لماذا تركتماني وحيدًا، وقد تعاهدنا عند تأسيس رابطة الصحفيين بذمار أن نكون معًا، ونناضل من أجل حقوقنا كصحفيين معًا”، الزميل الراحل الصحفي عبد الله قابل، كان مسؤول الأعضاء في رابطة الصحفيين، وأتذكر أنه قدم إلى مقر الرابطة بعد أيام من عرسه، وهو مبتسم كعادته، أتذكر عندما كان يسخر من الواقع إبان الثورة وأيام ساحة التغيير، ويضحك كشاب مفعم بالحياة والحب والأمل.
الراحل الصحفي يوسف العيزري، اُختير أمينًا عامًا لرابطة الصحفيين بذمار، كان يستحق الموقع، وكان يمثل أنضج الشباب الصحفيين والعاملين في قطاع الإعلام، العيزري الشاب الهادئ والمبتسم، لدى اشتداد حدة الجدل بين الزملاء يكون هادئًا، كان يهزمني بإبتسامة بريئة أعرف أن مغزاها، “يا صديقي سنتجاوز ذلك إلى غد أجمل”.
الذكريات الموجعة تتجاوز وجعها في وجدان الإنسان لتصنع من الوجع قاموسًا جديدًا للتعابير غير المفهومة، الإنسان بطبعة يتذكر الألم ليتجاوز ألمًا جديدًا وقع به، يُقتل أصدقائي وزملائي، وينزلون من قطار الحياة، ويتركوني وحيدًًا بائسًا خائفًا، أنتظر القادم المجهول.
هنا أتساءل: من التالي في قائمة القتل؟ من التالي الذي يزرع في صدري جرحًا جديدًا؟ لن أسأل لكم غير الرحمة والقصاص ممن قتلكم وظلمكم، هنا أقرأ على أرواحكم الطاهرة الفاتحة.