ترجمة وتحرير نون بوست
كتب محمد عز وندى عرفات:
في يوم صيفي حار وملتهب، سرت شائعات حول وصول شاحنة المياه أخيرًا إلى قرية عزبة الطويل كالنار في الهشيم، وفي غضون دقائق، انحدر حوالي 100 شخص من الرجال والنساء والأطفال إلى الطريق الرئيسي في المدينة، وكل منهم يحمل بين يديه أكثر عدد ممكن من عبوات المياه.
في محاولة للهروب من عقوبة حرارة الشمس الحارقة، استظل أسامة السيد وابنه أحمد (سبع سنوات) في ظل شجيرة، “وكأننا سافرنا بالزمن إلى الوراء، فنحن نضطر للانتظار هنا مع جرات الماء حتى وصول حامل الماء”، يقول السيد، فنتيجة لانقطاع المياه المعمم، أُجبر السيد، جنبًا إلى جنب مع 5000 مزارع آخر يعيشون في هذه القرية الصغيرة التي تقع على دلتا النيل، إلى الانتظار مرارًا لساعات، وأحيانًا حتى لأيام، تطلعًا لوصول مياه الشرب، وذلك وسط موجة الحر الشديدة التي تضرب منطقة الشرق الأوسط في هذه الأثناء.
وفعلًا، وبعد حوالي النصف ساعة تظهر الشاحنة أخيرًا، ويبدو الارتياح واضحًا على وجوه الحشد، “يوجد ماء يكفي الجميع” وعد السائق المسن الحشد، وتابع قائلًا “نظموا أنفسكم وافصلوا الرجال عن النساء”، وحينئذ يبدأ عاملان بتوزيع المياه، بينما يقوم آخر بجمع المال من القرويين.
مصر، المعروفة باسم “هبة النيل” سابقًا، تعيش اليوم على حافة أزمة مياه خطيرة، فمع ارتفاع عدد السكان، وثبات إمدادات المياه، تنخفض نسبة الفرد من مياه البلاد سنويًا، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى تراجع إمدادات المياه السنوية في البلاد إلى ما متوسطه 660 متر مكعب للشخص الواحد في عام 2013، منخفضة بشكل هائل عن متوسط الـ2500 متر مكعب للشخص في عام 1947، ومصر تقع حاليًا تحت عتبة الفقر المائي المحددة من الأمم المتحدة، وبحلول عام 2025 تتوقع الأمم المتحدة أن البلاد ستقترب من حالة “ندرة المياه المطلقة”.
ولكن بالنسبة للأشخاص من أمثال السيد، الذين يعيشون في القرى والمدن الواقعة خارج مراكز السلطة والثروة المصرية، فإن أزمة المياه المطلقة قد حلت بالفعل.
في يونيو، مدينة بلقاس الدلتاوية، والتي يبلغ عدد سكانها 50.000 نسمة، كانت تعاني من جفاف شديد، “لم يكن يمكننا العثور على مياه للشرب، أو الغسيل، أو التنظيف أو لأي استخدام آخر، استيقظنا لنجد أننا أصبحنا في الصحراء، مع جفاف صنابير المياه في بيوتنا”، قال حسام مجاهد، أحد سكان المدينة.
وفي الأسبوع ذاته، تعرضت مدينة الفيوم لانقطاع معمم في المياه، لدرجة أن المستشفيات لم تكن تجد ماءً للاستعمال، وبعد بضعة أيام، هدد سكان منطقة الإسماعيلية بقطع الطريق التجاري من قناة السويس بعد أن عاشوا لمدة أسبوع دون ماء، وقد حدثت أزمات مماثلة في كفر الشيخ وسوهاج وقنا ومدن أخرى طوال فترة الصيف.
ورغم اطراد حجم المشكلة وانتشارها، بيد أن المنتقدين يشيرون إلى أن الحكومة لم تتخذ أي إجراءات تذكر لمحاولة تسوية هذه الأزمة، أو حتى للمساعدة في التخفيف من معاناة الأشخاص الأكثر تضررًا منها.
لماذا الآن؟
نقص المياه، والاضطرابات الناجمة عن ذلك، تتصدر اليوم عناوين الصحف في مصر، ولكن هذه المشكلة باشرت بالظهور منذ عام 2011؛ فوسط الفراغ الأمني الذي نجم في أعقاب ثورة 2011، عمد الآلاف من السكان القاطنين في أطراف القاهرة ومدن أخرى، إلى بناء المباني بشكل غير قانوني وربطها بشبكة أنابيب المياه الرسمية، حيث تم ربط عشرات الآلاف من أنابيب ضخ المياه الجديدة بشبكة إمدادات المياه التي كانت بالكاد تكفي المواطنين الذين يقطنون هناك.
ومما زاد الطين بلة، هو أن الأنابيب الجديدة التي كانت تُستخدم لربط المنازل بالشبكة الرسمية كانت بدائية ورديئة، مما تسبب بانكسارها في أغلب الأحيان وهدرها للماء، ووفقًا لتقرير صدر عام 2014 عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حوالي 35% من المياه المخصصة للمنازل تتسرب إلى الأرض بسبب شبكة الأنابيب المتدهورة والرديئة، وبدون هذا الهدر سيتمتع حولي 11 مليون نسمة إضافيين بهذا الماء العذب.
في الوقت عينه، لم يقدم المسؤولون المصريون على أي خطوة باتجاه حل المشكلة، “مشكلة المياه هي أنها لا تتمتع بأولوية حكومية”، يقول خالد واصف، المتحدث باسم وزارة الري والموارد المائية، ويضيف “لا يتم تخصيص سوى جزء بسيط فقط من الأموال الضرورية للحفاظ على شبكة المياه من قِبل الحكومة في كل عام”.
الشركة التي تدير وتحافظ على شبكة أنابيب المياه الرسمية، الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، تعاني من نقص تمويل حاد في السنوات الأخيرة، بشكل لا تستطيع معه الاضطلاع بمهامها بشكل صحيح، وفقًا لما أفادنا به مصدر من داخل الشركة.
ونتيجة لعدم وجود ما يكفي من المال، فإن مشاريع قطاع المياه مازلت ترقد في خانة الانتظار، باستثناء عدد محدود من المشاريع الممولة من الجهات المانحة الأجنبية، ونتيجة لهذه الحلقة المفرغة، يلجأ المزيد والمزيد من الأشخاص إلى حلول فردية وغير قانونية تتسبب بتدهور الشبكة المائية بشكل أسرع.
انقطاعات المياه تستمر لبضع ساعات فقط في اليوم في المناطق الراقية في مصر مثل القاهرة الجديدة، أو لأيام قليلة في قرى مثل عزبة الطويل، أو قد تمتد حتى خمس سنوات في بعض المناطق الريفية مثل مدينة سندوب في المنصورة، حيث اعتاد السكان هناك على تلقي المياه لمدة ساعتين في اليوم فقط.
بشكل عام، وفي خضم الانقطاعات الطويلة، لا يجد السكان بديلًا من اللجوء إلى السوق السوداء، حيث يعمد الأشخاص في القرى التي تتمتع بالمياه إلى تعبئتها ضمن خزانات، وشحنها ضمن سيارات كبيرة، لنقلها إلى سكان المناطق المجاورة الذين يعانون من انقطاع المياه، مقابل ثمن قد يكون باهظًا.
ويشير سكان مدينة بلقاس إلى ازدياد أسعار المياه المعبأة ضمن عبوات بشكل مطرد يوميًا منذ بداية شهر رمضان، فمع اصطفاف العشرات من الأشخاص في طوابير طويلة أمام المتاجر والأكشاك، قفز سعر زجاجة الـ1.5 لتر من 3 جنيه إلى 10 جنيه في غضون أيام معدودة.
المخاطر الصحية
مع تضاؤل احتمالات حل أزمة المياه حكوميًا، غالبًا ما يلجأ المصريون إلى إجراءات غير صحية لملئ هذا الفراغ الحكومي، والتي قد ينجم عنها، في كثير من الأحيان، عواقب صحية وخيمة.
“أنا أعيش في كفر الشيخ، ولقد نشأت مدركًا بأن المياه التي نستخدمها ملوثة للغاية”، يقول محمد عبد الرازق، أستاذ كيمياء المياه في إحدى الجامعات المحلية، وتابع قائلًا “إن عملية معالجة المياه الحالية تشبه استخدام شبكة صيد لتعقيم المياه الآسنة”.
في مناطق مثل عزبة الطويل، المياه التي يتم ابتياعها من الشاحنات غالبًا ما تكون ملوثة لدرجة كبيرة، كون المزارعين الذين يتطلعون لتحقيق ربح سريع، يعمدون في كثير من الأحيان إلى نقل المياه في خزانات تُستخدم عادة لنقل المحروقات، ويقومون بتعبئة المياه من المصادر الأكثر ملاءمة لهم، والتي غالبًا ما تكون بجانب قناة مياه للصرف الصحي، “نحن ندرك تمامًا بأن هذه المياه تأتينا من أقرب مصدر ملوث، ولكن ليس لدينا أي خيار آخر”، قال السيد.
قنوات الصرف الصحي تعج بمياه الصرف الزراعي المليئة بالأسمدة الذائبة والمبيدات الحشرية، مما يجعلها موطنًا غنيًا بمسببات الأمراض مثل البلهارسيا، كما تم الكشف عن وجود معادن ثقيلة بتركيزات عالية ضمنها مثل الزئبق والزرنيخ، والمواد المسرطنة مثل الكادميوم والرصاص.
كفر الشيخ التي تقع في أقصى شمال نهر النيل، والتي كانت تمد مصر بنسبة كبيرة من إجمالي الإنتاج السمكي في إحدى الأوقات، تعيث فيها المياه الملوثة فسادًا اليوم، حيث يقول الأستاذ عبد الرزاق “الصيادون يجب عليهم إيجاد فرص عمل جديدة، فحتى الأسماك تموت هنا”.
فضلًا عما تقدم، فإن ندرة المياه صعّبت من مهمة الحكومة بالحفاظ حتى على تعقيم المياه السارية ضمن شبكة المياه الرسمية، فسابقًا كانت وزارة الموارد المائية تعمد لفتح السدود وضخ المياه العذبة الإضافية لطرد المخلفات والتلوثات الناتجة عن المخلفات الصناعية والزراعية، ولكن في الوقت الحاضر، ونظرًا لندرة إمدادات المياه، لم يعد من الممكن فعل ذلك.
ووفقًا للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن سوء تعقيم المياه يعني أن 95.5% من السكان يشربون مياهًا غير معالجة بشكل صحيح.
“مجرد العيش بالقرب من المياه الملوثة يؤثر على الصحة العامة”، يقول مازن عبد العزيز، الذي يعمل في المستشفى العام بكفر الشيخ، ويضيف بأن المياه التي يشربها السكان شديدة السميّة، وتحتوي على معادن ثقيلة وملوثات أخرى قد تتسبب بمجموعة واسعة من الأمراض مثل الإسهال والتهاب الكبد من النوع A وE.
ومما زاد الطين بلة، بأن محاولات علاج الأشخاص الذين يعانون من الإسهال أو الجفاف وغيرها من الآثار الناجمة عن ندرة المياه وتلوثها، يجلب معه مآسيه الخاصة؛ فضمن هذا الشهر فقط، توفي أربعة أطفال وأُصيب 27 شخصًا آخر بأمراض خطيرة بعد أن تم معالجتهم بأدوية إعادة التمييه الخاطئة في بني سويف.
الحل
بشكل عام لا توجد حلول سريعة أو سهلة لمعالجة حالة ندرة المياه ومشاكل التنقية الناجمة عنها، ولكن إبراهيم سلمان، رئيس هيئة منتصف الدلتا لقنوات الصرف الصحي، يعتقد أن هنالك ثلاثة حلول ممكنة.
الأول هو ضخ المياه الجوفية، ولكنه أمر مكلف، ويستغرق وقتًا طويلًا، ويعوّل على مصادر محدودة من المياه الجوفية، والثاني هو اعتماد التكنولوجيات الزراعية الموفرة للمياه مثل تقنيات الري بالتنقيط، بدلًا من تقنيات الغمر التي لا تزال تستخدم من قِبل معظم المزارعين المصريين، وهذا الحل، وفق ما يشير إليه سلمان، هو حل يطبق على المدى الطويل، وليس حلًا يمكن تنفيذه بين ليلة وضحاها، أما الحل الثالث فيتمثل بإيجاد سبل لإعادة تدوير المياه من قنوات الصرف، ولكن لسوء الحظ، وفي الوقت الحاضر، تحمل هذه القنوات النفايات الصناعية والزراعية شديدة السمية المختلطة مع المياه العذبة منخفضة السمية.
أخيرًا، وفي العام الماضي، أعلن وزير الإسكان مصطفى مدبولى بأن جميع المصريين سيتم ربطهم بشبكات المياه والصرف الصحي في غضون ثماني سنوات، معولًا بذلك على الدعم المالي الذي ستتلقاه وزارته من الحكومة، ولكن حتى ذلك الوقت، سيضطر الآلاف من الناس إلى الانتظار في الطوابير، واللجوء إلى السوق السوداء، وبناء أنابيب ذاتية الصنع، فقط للحصول على بضع قطرات من المياه.
المصدر: الغارديان