ترجمة وتحرير نون بوست
تجربتي مع مدينة حلب السورية بدأت منذ انتقلت إليها منذ حوالي الـ10 أعوام، في ذلك الوقت، كانت هذه المدينة تعني لي العالم بأسره، الماضي المجيد والحاضر، الحلو والمر، كنت حينها أدرس في جامعة حلب التي تقع في مركز الأحياء الغنية بحلب، وبغية الوصول إلى هناك، كنت أستقل حافلة من شقتي التي تقع في منطقة الميسر المزدحمة، وهي أحد أفقر الأحياء في حلب، ورحلتي إلى الجامعة كانت تتضمن المرور عبر بوابات حلب القديمة، من باب الحديد إلى باب النصر، وهو الطريق الذي كان يمر خلاله طريق الحرير في العصور الغابرة، وعلى الرغم من أن جدران أبواب حلب القديمة قد اختفت على مر السنين، بيد أن أبوابها نجت لتذكر المقيمين بهذه المدينة بتاريخهم العريق؛ فعلى مر العصور، تم تدمير المدينة لأكثر من مرة، من قِبل المغول ونتيجة للزلازل، ولكن في كل مرة كانت حلب تنهض على قدميها شامخة مرة أخرى.
ارتدت حلب لباس تراثها بكل فخر، ولكن تحت كل هذا الجمال وهذه العراقة، كانت تترصد تناقضات أكثر قتامة، فالقسم الغربي من حلب كان ملعبًا مريحًا وسريع التطور للنخبة الحلبية، ولكن سكان شرقي المدينة، الذين فروا من قراهم بحثًا عن فرص عمل أفضل في ضواحي المدينة، ظلوا غارقين في فقرهم، وفي الوقت الذي كانت الحكومة توصّف فيه هذه الأحياء الفقيرة بالسهول الزراعية، كانت هذه المناطق على أرض الواقع متاهة من الزنزانات الخرسانية، التي تديرها عشائر الجريمة المنظمة، الذين كانوا يتعاملون بالمخدرات، ويجبرون السكان على دفع الخوات، واستخدمت الحكومة هذه العشائر كقوة ضاربة على الأرض، خصوصًا عندما هبت رياح الثورة لفترة وجيزة على حلب في عام 2011.
في باكورة أيام الثورة، كنت طالبًا في جامعة حلب، وشاهدت مع زملائي كيف تم تحوير الحرم الجامعي من قبل قوى العشائر والمخابرات، أو قوى الشرطة السرية السورية، حيث تم زرع المخبرين بين الطلاب، وجرى اضطهاد وضرب الطلاب المتظاهرين، واختفى المئات للأبد في زنزانات المخابرات، ولكن على الرغم من ذلك، ظل الطلاب يتحدون جبروت قوات الأمن، حتى أطلق الثوار في جميع أنحاء البلاد لقب “جامعة الثورة” على جامعة حلب.
ولكن الأهم هو أن حلب بمعظمها تعاملت مع الربيع العربي بشكل لامبالٍ، وعندما اندلعت الثورة بشكل جدي في وقت لاحق من عام 2011، الجزء الأكبر من المدينة نأى بنفسه عن الاضطرابات، وبقيت المظاهرات محصورة بمعظمها في الأحياء الفقيرة مثل صلاح الدين، بستان القصر، والمرجة، وتميزت الاحتجاجات بتلك الفترة بكونها وجيزة (مظاهرات طيارة)، حيث كان المتظاهرون يرددون بضع شعارات ثورية قبل أن يفروا هربًا من بطش قوات الأمن.
الحياة في منطقة الحرب قاسية بشكل خاص على الأطفال، ومرحلة الطفولة أصبحت ضائعة ويتم تخطي عيشها من قِبل الشباب المحليين.
الثورة في حلب أعطت انطباعًا بأنها ثورة الفقراء على الأغنياء، فعندما اندفعت الجماعات الثورية من الريف الشمالي باتجاه المدينة، كانت هذه الأحياء الفقيرة هي من رحب بهم في البداية، على عكس الأحياء الغنية، التي بقيت بدلًا من ذلك تحت سيطرة النظام.
حلب الآن هي مدينة مقسمة لنصفين، وكل نصف يقصف الجهة الأخرى، ومواقع التراث العالمي أصبحت خطوط جبهة أمامية، وتحولت كنوز التراث إلى متاريس حرب.
بالنسبة لي، فقد غادرت مدينة حلب في عام 2012، وعدت فقط في مايو الماضي، وحينها لم تسعفني الكلمات لوصف الصدمة التي اعترتني؛ فالمناطق الشمالية التي كانت تعج بالحركة، أصبحت الآن خاوية على عروشها، باستثناء كتل من الركام ترفرف فوقها أعلام الجماعات الثورية التي لا حصر لها، وأثناء تحديقي وصدمتي، صفعتني الرياح على وجهي، وطلته بغبار المدينة الحارق، وكأنها تهمس بأذني “ما الذي جاء بك إلى هنا؟”، بالمجمل، حلب اليوم ليست كحلب الأمس، ولكن بالنسبة لي، لا أزال أشعر بأنها وطني ومنزلي.
منذ نشوب الحرب في المدينة، أصبح من الصعب للغاية الولوج إلى معظم أحياء المدينة القديمة، حيث فاضت الشوارع الرئيسية بالسيارات المحترقة التي تغلقها، ورحلة الانتقال ما بين منطقة وأخرى التي كانت تستغرق عدة دقائق فقط، أصبحت رحلة ماراثونية تستغرق سبع ساعات، وتتضمن عبور مئات الكيلومترات وعشرات نقاط التفتيش التي تسيطر عليها الجماعات المتحاربة المختلفة، وقناصة النظام المتمركزين على قمة أبراج القلعة، يستطيعون كشف مناطق واسعة من المدينة، وجثث الأشخاص الذين يقنصونهم أثناء عبورهم في مرمى نيرانهم قد تبقى في مكانها لمدة أسابيع أو حتى أشهر بدون أن توارى التراب.
لحجب الرؤية عن القناصة المتمركزين على بعد بضعة مئات الأمتار في حي المشارقة المجاور، عمد الثوار والسكان المحليون إلى وضع حافلات محترقة ما بين المباني على مداخل جبهات القتال في بستان القصر.
حلب الشرقية المحررة من حكم النظام، تخضع لسيطرة مجموعة متنوعة من الجماعات الثورية، وكما هو الحال في بقية أنحاء البلاد، الجماعات الإسلامية هي الأكثر بروزًا من بين هذه الجماعات المختلفة، والمجموعة المتمردة الأقوى على الأرض في حلب هي الجبهة الشامية، التي تقود ما ينوف عن 10.000 مقاتل في جميع أنحاء سورية، ومن بين هؤلاء المقاتلين، يوجد 1500 شخص يعملون في المؤسسة الأمنية للجبهة الشامية، أو المخابرات الخاصة بالجبهة.
“حلب غابة”، قال لي أحد القضاة من المؤسسة الأمنية التابعة للجبهة الشامية، وهو يقدم لي سيجارة وكوبًا من الشاي، إبان تحقيقه معي لالتقاطي صور من مناطق حلب المحررة، مشيرًا إلى عدم الانضباط بين صفوف الثوار؛ فمؤخرًا، اختلفت جماعته مع الفرقة 16 من الجيش السوري الحر، عقب اتهامات متبادلة ما بين الطرفين باختطاف عناصر بعضهما البعض، لذا قامت كل مجموعة بتركيز المزيد من نقاط التفتيش عند التقاطعات الحيوية، وحشدت مقاتليها لمواجهة مرتقبة، ولكن بعد ثلاثة أيام، تم حل الإشكال، بعد أن اتفق الجانبان على تحرير الرهائن، ورغم أن هذه المشكلة قد تم حلها حاليًا، بيد أنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، كون انعدام الثقة بين الجماعات المتمردة، والاتهامات المتبادلة بالخيانة أو اتباع الأجندات الخارجية، قد تؤدي إلى اندلاع الاشتباكات في أي وقت من الأوقات.
صورة للخطوط الأمامية في بستان القصر، ويظهر في الخلفية حي الإذاعة الذي يسيطر عليه النظام، حيث تغطي قناصات الطرفين المنطقة، والمباني التي تقع في نطاق إطلاق النار غير مأهولة من المدنيين.
هذا الاقتتال الداخلي يثير غضب السكان في الأحياء المحررة، والكثيرون يلقون اللوم على هذه الخلافات، وعدم التنسيق الناجم عنها، لإعاقة تقدم الثوار في حلب.
في أيام أكثر مثالية من التي تعيشها حلب اليوم، شخص ما رسم لوحة جدارية على حائط في حي الفردوس، تصور مقاتلًا ينزف من الجيش السوري الحر، وكتب تحتها “اعذرونا إن أخطأنا، فنحن، الجيش السوري الحر، نموت لأجلكم”، وتحتها مباشرة أضاف شخص ما عبارة “كاذب”.
يتفاقم الغضب الشعبي ويغلي عندما تبدأ السماء بإمطار وابل من البراميل المتفجرة؛ ففي أحد الأيام عندما كنت ما أزال في زيارتي لحلب، وتحديدًا مساء يوم 30 مايو، سقط برميل متفجر على حي الفردوس، اهتزت الأرض برمتها، وانهار مبنى بكامله، وأصيبت ثلاثة مبانٍ أخرى بأضرار جزئية دائمة، وحينها عبق الجو بالحطام والتراب، وتحت الأنقاض كانت توجد حيوات تستجدي لإنقاذها، وحينها هرعت هيئة الدفاع المدني السورية، وهم مجموعة من الشباب المتطوعين وأول المستجبين في حالات الكوارث، ومن المدربين على حفر الأنقاض لإخراج الأشخاص من تحتها، وضمن ظروف حلب الحالية، دائمًا ما ينتظر هذه المجموعة عمل طويل وشاق.
الصدمة التي تلي سقوط البراميل المتفجرة، نساء يبكين شهدائهن في حي الفردوس في حلب.
في تلك اللحظة، كنت أسمع من حولي صياح رجال، وجوههم مكفهرة، وكلامهم غير مفهوم، أصوات نحيب النساء الهستيري، وأصوات صراخ الأطفال، وصاح شرطي محذرًا “فليغادر جميع المدنيين الآن! هناك طائرة هليكوبتر في السماء، ستقوم بإسقاط برميل آخر”.
من عادة سلاح الجو السوري أن يُلحق أول برميل متفجر ببرميل آخر، ويفسّر الناس هذا، برغبة قوات النظام بقتل مبادرة أول الأشخاص المستجيبين للإنقاذ، علمًا أن الحكومة السورية مازالت تنفي استخدامها للبراميل المتفجرة ضمن المعارك الدائرة.
ولكن رغم هذا الخطر المحدق، فإن الجماهير لا تهرب، بل يحفرون تحت الأنقاض بأيديهم العارية، المسنون، متطوعو الدفاع المدني، والمسلحون، جميعهم على حد سواء يعملون، ما عدا الناشطين الإعلامين الذي يقومون بتصوير مقاطع الفيديو، وعندما يعثرون على ضحية، يتجمعون معًا للمساعدة في انتزاعها من بين الأنقاض، وهم يصرخون “الله أكبر”، وبمجرد وضع الضحية في سيارة إسعاف، يشرعون بالحفر مرة أخرى.
“إذا رأيت جسمًا ممددًا على الأرض، فهل ستتردد بانتشاله؟ حتى لو كنت تعلم بأن مجرد وقوفك بجانبه لحمله، سيؤدي إلى تمددك بجانبه إثر نيران القناص؟”، سألني صاحب متجر في حي القصر في إحدى المرات، ومن ثمّ أجاب بنفسه فورًا “لا! ضميرك لن يسمح لك بالابتعاد”.
وعلى بعد خطوات من مكان الحادث، يشكر الجيران الله على نعمة السلامة.
يوضح هذا الرسم صورة تم التقاطها أمام مدرسة عين جالوت الابتدائية في منطقة الأنصاري في حلب، حيث تم قصف المدرسة في 30 أبريل 2014
في وقت لاحق من بعد ظهر ذلك اليوم، سقط برميلان آخران على بعد بضعة مبان، وبعد ثانيتين أو ثلاث ثوانٍ، سقط برميل ثالث، “إنه دور حي الفردوس اليوم”، قال لي أحد السكان والذعر بادٍ على صوته، وأضاف “الأسد جعلنا شغله الشاغل اليوم”.
وفقًا لمنظمة العفو الدولية، نجم عن البراميل المتفجرة مقتل أكثر من 3000 مدني في محافظة حلب العام الماضي فقط، والناشطون المحليون سجلوا على أقل تقدير 70 إلى 75 هجمة بالبراميل المتفجرة في مدينة حلب في ربيع هذا العام وحده، ولكن ليس الجميع يعتقد بأن هذا أمر سيء حقًا؛ فقبل بضعة أيام، تلقيت رسالة آلية عبر شبكة الهاتف الخلوي الوطنية، ذُكر فيها من ضمن ماذكر “طيارونا البواسل الذين يحمون سماء الوطن وعزته”، وبالطبع كانت الرسالة تحمل توقيع (ج ع س)، اختصارًا للجيش العربي السوري.
عندما كنت أعيش في مدينة حلب، لم أكن أن أتصور أن أعيش هذه التجارب، والآن، ما زلت أكفاح من أجل إقناع نفسي بأن ما أعيشه حقيقة لا خيال، فعندما مشيت في حي الشعار، تملكني حزن عميق، فمنذ سنوات، كان هذا الحي يتوسع باطراد سريع ويضج بالحياة، ولكن الحرب استبدلت الحياة بالدمار، وفجأة وقع نظري على شيء غسل الحزن عن محياي، على جدار أحد المنازل التي دمرها القصف، كتب شخص ما “من تحت الأنقاض، سنرتقي مرة أخرى”.
قطة تجوب ضمن الأنقاض في منطقة تلة الزرازير المهجورة على الحافة الجنوبية للمدينة.
في اليوم التالي، ذهبت مع سائقي إلى منطقة مساكن هنانو، الواقعة على مشارف المدينة، للاطمئنان على منزل أهل زوجته؛ مساكن هنانو هي واحدة من العديد من الأحياء المهجورة في المدينة، لا وجود للماء، ولا للكهرباء، ولا لأي مقوم من مقومات وضروريات الحياة الأساسية الأخرى، حيث فر الناس من منازلهم، وتركوا كل ما لديهم وراءهم، ونما العشب على الأرصفة، وفي خضم كل ذلك، تعجبنا عندما شاهدنا ميكانيكي قد فتح متجره.
جلس على كرسيه، وأمال برأسه على ذراعه، سارحًا في أفكاره، وعلى الأرض بجانبه جلس ابنه، وهو يلعب بعصا، وهنا التفت إلى سائقي وسألته، “هل هذا جنون أم عظمة؟”، وأجابني فورًا وبدون تفكير “إنها حلب”.
*ملاحظة : لأغراض الحماية تم نشر المقالة تحت اسم مستعار.
المصدر: فانيتي فير