عند مقارنة حجم المشاركة الشعبية في الاحتجاج على تردّي إمدادات الكهرباء في صيف لاهب تتجاوز حرارته درجة الخمسين مئوية بالمشاركة في الفعاليات السياسية الحزبية والطائفية سنجد ان الفرق شاسع بينهما، فأي مناسبة سياسية طائفية يحتشد فيها عشرات الآلاف رغم ان الكثير من هؤلاء المحتجين لا يعرفون تفاصيل القضية التي يحتجون بسببها بينما المعاناة الصحية والانسانية والاقتصادية وارباك الحياة بسبب تردي الكهرباء لا يدفع إلا ببضعة آلاف للنزول الى الشارع من أصل عدة ملايين يعيشون في العاصمة بغداد (الاعداد ليست كبيرة ايضا في المحافظات) رغم ان لاخلاف على مطلب تحسين الطاقة ولا خلاف على شرعية الاحتجاج ومع توفر دعم المرجعيات الدينية وموافقة الاجهزة الامنية على التظاهرة الاحتجاجية. هذه حالة فشل فاذا كانت أزمة مثل أزمة الكهرباء لاتدفع الملايين ممن يعانون للاحتجاج فما هي الازمة التي ستفعل ذلك؟، الجواب واضح جدا، انها أزمة الوجود الطائفي،
اي فعالية طائفية ستحرك الملايين للنزول الى الشارع بدوافع سياسية لا دينية، وهذا المناخ ادى الى ان بعض الزعامات السياسية الطائفية قادرة اسبوعيا واحيانا يوميا على جذب المئات من الاتباع لينصتوا الى هذرها وهو ما لم تنجح فيه شخصيات ومنظمات مدنية لأجل أي قضية. يقدم المدافعون عن التظاهرات التي تجري هذه الايام الكثير من الدفاع عن حجمها الضئيل مقارنة بالسبب الشعبي الذي خرجت من أجله، لكن هؤلاء المدافعين (الذين يتبرأ بعضهم من وصف (منظم) بينما يحرص آخرون عليه) يشكلون جزءا من الازمة (بوصفهم الاجتماعي لا الفردي والشخصي) لأنهم يعملون بدون تنظيم حزبي بل ويحاولون إبعاد أي وصف حزبي عن انفسهم لأنهم بحسب تبريرهم يريدونها تظاهرة لكل الناس لكن الناس مع هذا لم تشارك بالمستوى الذي تستحقه الازمة،
إذن وجود تنظيم حزبي للتظاهرات لن يجعلها أصغر بل قد يجعلها أكبر وأكثر أهمية فبغياب اي حزب دعمت جميع الاحزاب التظاهرات وهكذا بدت كما لو انها ليست سببا في المشكلة ولم يسأل أحد عن مكان وجود الاشخاص الذين بددوا الاموال الهائلة المخصصة للطاقة بدعم من جميع قوى السلطة الرسمية وغير الرسمية ومازال هؤلاء المسؤولون في مواقع السلطة المتقدمة يسخرون بصمت من التظاهرات وربما يحاولون استغلالها لتصفية بعض معاركهم. التظاهرة في بغداد لم تنتفع من أخطاء الماضي فبسبب النرجسية والهوس الاعلامي الشخصي ونزعة التقليد البائسة يتم الاصرار على ان تكون التظاهرات في وسط بغداد وتحديدا في ساحة التحرير، هذه المنطقة ليست فيها كثافة سكانية عالية وهي بعيدة عن التجمعات السكانية الكبرى وهي منطقة يسهل محاصرتها وقطع الطرق المؤدية إليها وبالتالي تدفع المواطنين الى التردد في اتخاذ قرار المشاركة وتقلل من الاثر المباشر للتظاهرة، بينما كان يمكن الحصول على اداء احتجاجي افضل لو اقيمت التظاهرات في اكثر من مكان في العاصمة والاعتراض على هذا المقترح هو ما سيكشف عمق الازمة العراقية.
مناطق العاصمة المأهولة بكثافة سكانية عالية تقع تحت سيطرة احزاب تمتلك أجنحة مسلحة كبيرة، اعضاء هذه الاجنحة هم ايضا مواطنون فقراء يعانون من ازمة الكهرباء وما يترتب عليها من ازعاج يومي لكنهم سيصطفون مع احزابهم ضد جيرانهم واهلهم وضد أنفسهم حتى يمنعوا أي تظاهرة غير تلك التي تنظمها احزابهم المشاركة في السلطة التي تنظم تظاهرات من وقت لآخر إنما لنصرة شعوب أخرى تحصل على كهرباء أكثر رغم انها تمتلك نفطا أقل، أغلبية سكان هذه المناطق مؤيدون لهذا المنهج ،ولذلك لن يتظاهروا في مناطقهم ولذلك فهم لايريدون الكهرباء ان كانت ستأتي عبر كسر هيبة احزابهم وزعاماتهم. السلطة تعلمت من تظاهرات 25 شباط 2011 أكثر مما تعلم المتظاهرون، إذ لم يقدم رئيس الوزراء ولا وزير الكهرباء ولا الحكومة كلها على اي خطوة لا في ما يتعلق بالتظاهرات نفسها ولا في ما يتعلق بقطاع الكهرباء نفسه وأقصى ما حدث بعد التظاهرة ان رئيس الوزراء شكر المتظاهرين ورجال الامن، وكأن الأمر يخص عملا استعراضيا تم دون خسائر، وحتى ما قيل عن تجميد وزير الكهرباء لم يثبت ويقول بعض الساخرين ان رئيس الوزراء أمر بذلك فعلا لكن انقطاع الكهرباء أفشل التجميد. تظاهرات الكهرباء كانت بلا ذاكرة سياسية حتى ولو بمدىً قصير فقد تم تجاهل المسؤولين عن ادارة هذا الملف الى الحضيض الى حد توريط العراق والعراقيين في حلقة مفرغة من التعاقدات والمشاريع المتلكئة وجيش من الفاسدين، يمكننا ان نتخيل صناع هذا الخراب وهم يتفرجون على التظاهرات او يطالعون اخبارها في غرفهم المكيفة وهم يضحكون احتفالا بذكائهم الذي جعل حل المشكلة اكثر صعوبة على كل من يأتي بعدهم، هؤلاء مازالوا في السلطة وهم يعتبرون التظاهرات لصالحهم وسيذكروننا في اي لحظة (ألم نقل لكم ان لا احد سيحل المشكلة؟ واننا نمتلك خطة افضل، بل ان وجودنا كان بركة لكم ولم تمر بالبلاد مثل موجة الحر هذه).
لا أحد يعترض على فعل الاحتجاج، فهو فعل انساني حقيقي وهو ايضا فعل سياسي بحاجة لتقييم وإلا كان مجرد موجة غضب عاجلة ترافق موجة الحر ثم ينتهي كل شيء بانتظار العام المقبل، ولأن الاحتجاج فعل سياسي يريد نتائج لا مجرد الضجة الاعلامية فهو بحاجة الى تنظيم سياسي يهيئ له ويتابعه ليكون فعلا يتجاوز الفرح بالصور الشخصية وبيان الشكر من رئيس الوزراء الذي كان عضوا في كتلة رئيس الوزراء السابق التي تضم ايضا المسؤول الاول عن ملف الطاقة، أي انه كان يعرف او يفترض انه يعرف بتفاصيل هذه الازمة واكاذيبها وفسادها على الاقل لأنه كان رئيسا للجنة المالية البرلمانية.
نضوج فعل الاحتجاج سيكون دليلا على النضج السياسي الشعبي الذي يتجاوز الغضب الى الرؤية الثابتة القادرة على تحديد أولويات المواطنين، اذ لايعقل ان ينتخب المواطن قائمة تتعهد له بانها ستبذل كل جهودها للحفاظ على الهوية الطائفية ثم يأتي لاحقا ليطالبها بالكهرباء.
المصدر: جريدة المدى