سفرة طويلة تلك التي سلكها فريق نون متجهًا نحو عمق الجنوب التونسي وبالتحديد محافظة تطاوين انطلاقًا من العاصمة تونس، أكثر من 500 كيلومتر برًا مع مرافقة شمس “أوسّو”، وأوسّو هو اسم يطلق على موسم من مواسم فصل الصيف وهو يمتد من 25/ 7 حتى 2/ 9 وذلك حسب التقويم الجورجوري “الشمسي” وهو ما يعرف بالحساب الأول، أو من يوم 17/ 7 إلى 27/ 8 وهو حسب الحساب القديم “قبل الجورجوري” أو ما يعرف بالحساب الثاني أو بعد كل حساب، وهو حساب أمازيغي (ويكون الفارق بين الحساب الجورجوري والحساب القديم 13 يومًا، علمًا وأن الأمازيغ ما زالوا يحسبون بالحساب القديم وليس بالجرجوري) وهذا الموسم الذي يتميز عن بقية أيام الصيف بقيظه الشديد مع ارتفاع في درجة حرارة مياه البحر نسبيًا عند الشواطئ وارتفاع نسبة الرطوبة في الجو، كانت كفيلة بتركيز نسب عالية من الإرهاق الحلو الممزوج بتوق لاكتشاف سحر طالما سمعنا به.
بعد طول مسير، حل ركبنا لتستضيفنا إحدى الأسر، باعتبار أن العيب كل العيب، في الموروث الجنوبي التونسي، أن تبيت في أحد النزل وأنت تعرف صديقًا في تلك المنطقة، وكالعادة احتفى بنا مُضيفونا أيما احتفاء، فهم أهل الجود والكرم بالوراثة، أبًا عن جد.
تطاوين المحافظة والمتمردة
تقع مدينة تطاوين في أقصى الجنوب الشرقي للجمهورية التونسية، وهي من محافظات تونس وأكبرها مساحة، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 142500 ساكن يقطنون أساسًا شرق الجهة التي يحدها طبيعيًا عن الجهة الغربية الصحراوية سلسلة جبال مطماطة.
ويعمر هذه المحافظة خليط متجانس من البربر الأمازيغ والعرب، البربر يتمثلون في قبائل الدويرات وشنني وقطوفة وتونكت المقدميني وبني يخزر ثم الغمراسنية، أما العرب فهم قبيلة الودارنة وقبائل العجاردة والدغاغرة والمقابلة والذهيبات وهم قبائل هلالية وقبيلة الجليدات الادارسة.
وأنت تتجول في هذه المدينة لا يمكن أن تشعر بما سبق ذكره من التنوع العرقي، كما أنه لا يعسُر عليك ملاحظة الطبع المحافظ لساكنيها خاصة مع الحضور القوي لمفهوم العائلة الممتدة، إذ تجد مركبات سكنية متلاصقة تجمع بين منزل الجد ومنازل الأبناء من الذكور ومنازل الأحفاد.
ومن اللافت للانتباه هو تطبيع الدولة مع مفهوم التجارة الموازية واقتناعها أنها لا تقدر على محاضرته بفعل غيابها التنموي عن هذه الجهات الحدودية، فعلى طول الطريق الرابطة بين محافظة قابس ومحافظة تطاوين، تجد ما يشبه الدكاكين التي تبيع البنزين المهرب من ليبيا بأسعار جد تنافسية بالمقارنة مع أسعاره في محطات البنزين، كما تجد لافتات كبرى لدكاكين تصريف العملة الأجنبية، فإن كنت ممن يملك دولارات أو أوروهات أو حتى الجنيهات الليبية أو الدينارات الجزائرية، يمكنك تحويلها للعملة المحلية والعكس ممكن أيضًا، بأسعار أفضل من تلك التي تقدمها البنوك.
في رحاب مدينة شنني الجبلية الأمازيغية
ولم يكن من المسموح أن نزور هذه المدينة الصحراوية دون أن نستكشف غموض مدينة شنني الأمازيغية، وشنني (اِشْنِنِّي) قرية تقع على بعد نحو 19 كيلومترًا جنوب مدينة تطاوين، وهي قرية تنتمي إلى مجموعة القرى الجبلية القديمة الشّاهدة على قدم الوجود البشري بهذه الرّبوع، وهي قرى غرماسه والدويرات.
وعلى عكس غرماسه ودويرات، قاوم سكان شنني إغراءات دولة ما بعد الاستقلال التي بنت في سفح الجبال قرى جديدة مهيأة بضرورات الحياة من ماء صالح للشراب وتنوير عمومي وطرقات، ولازالوا إلى اليوم يقيمون في منازلهم المحفورة في الجبال، فرغم بناء “شنني الجديدة”، لازالت شنني القديمة تنبض بالحياة إلى يوم الناس هذا.
حتى تصل إلى هذه القرية الجبلية تحتاج أن تكون برفقة سائق متمرس على القيادة في المسالك الجبلية الوعرة، فالمنحنيات الحادة والخطيرة كثيرة، وبعد مسير يصل إلى نصف الساعة بسرعة منخفضة بشكل دائري صعودًا من سفح الجبل نحو أعلاه، ينتهي بك المسير في ساحة واسعة يحيط بها من كل جانب مساكن اتخذت من الجبل سقفًا وأرضًا.
كنا قد نسقنا مع أحد السكان الأصليين ليكون دليلنا، وهو محمد البالغ من العمر 25 سنة، خريج الجامعة التونسية ويتحدث الأمازيغية والعربية والفرنسية والإيطالية والألمانية، وعادة ما يرافق الوفود السياحية التي تأتي باحثةعن استكشاف لغز المدينة الأمازيغية.
ومع وصولنا، زرنا أحد المنازل لنتفاجأ بقدرة التكييف الطبيعي على تخفيف وطأة حرارة الطقس الجنوبي، وهو ما مثل إجابة لسؤال كنا ننوي طرحه حول دواعي سكن الجبل، حجارة الجبل مثلت على مر التاريخ مُلطّفًا طبيعيًا للجو باختلاف الفصول، ففي الشتاء تتميز هذه المنازل بدفئها وفي الصيف لا تحتاج للتجهيزات الإلكترومنزلية لتحظى برغد العيش.
ومن خلال تجاذب أطراف الحديث مع بعض السكان الأصليين، الذين يتحدثون بالعربية مع “الغرباء”، أكدوا لنا تمسكهم بلغة الأجداد، فالطفل هناك يُلقّن الأمازيغية قبل العربية، كما أن لغة التخاطب فيما بينهم تكون في أغلب الوقت بها، والطريف أنه رغم أن الجنوب التونسي يتميز عن الشمال بال (ڨ) عوض القاف وتُنطق GA، وجدنا أن الأمازيغ حينما يتحدثون العربية العامية لا يختلفون في لهجتهم عن لهجة أهل الشمال.
قصة الرقود السبعة: سحر وغموض
إثر ذلك، توجهنا للمعلم المشهور في قرية شنني والمعروف بمقام “الرقود السبعة”، وما إن وصلنا حتى وجدنا قبورًا قديمة طويلة جدًا مقارنة مع قبورنا اليوم، وهو ما يشير لأن ساكني تلك الحقبة كانوا عمالقة، كما وجدنا مسجدًا صغيرًا مزركشًا ببعض الصور والإشارات الأمازيغية.
وبحسب دليلنا، تقول الحكاية التي توارثوها أبًا عن جد إنه كان بهذه الجهة في الزّمن البعيد رجل أوتي علمًا كثيرًا كان يبحث في وجوه السكان باحثًا عن شخص علم بطريقة ما أنه سيكون من أصحاب المال والجاه إلى أن التقى “دقيانوس” الذي أخبره أنه وجد في أحد الكتب التي يملكها أن شخصًا يحمل صفاته سيكون له مُلك ومال واشترط عليه أن يجعله أحد وزرائه مقابل إعانته على تحقيق ذلك.
ويضيف محمّد، دليلنا، أنه بعد إبرام الاتفاق بين صاحب العلم “ودقيانوس”، انتقلا إلى موضع محدد وببعض التعاويذ المتلوة من الكتاب وبعض البخور، انفتحت لهما الأرض كاشفة عن مدينة فسيحة مليئة بالكنوز والجواهر والأموال طبقًا لما أشار إليه الكتاب، فتسلم الملك الجديد مفاتيح المدينة، إلا أنه نكص عن عهوده وقتل العالم ليطمئن على مُلكه الجديد حتى لا يبقى أسير فضله طيلة عمره.
وفي مرحلة لاحقة، تقول الأسطورة إن الملك الجديد انتدب البنائين والنجارين والحدادين ليشيدوا مدينة جديدة وكلف أحد خلانه بتكوين جيش ليعلن نفسه ملكًا للمدينة فطغى ثم أعلن ربوبيته وأمر أهل المدينة بعبادته وبطش بكل من خالفه، وعلى خلاف رغبة دقيانوس، كان من بين أهالي تلك المدينة نفرًا من المؤمنين الذين يعبدون الله سرًا وانبروا ينبهون الناس إلى أن ملكهم يدعي زورًا الربوبية، ولإقامة الدليل، مضى “أويمليخا”، أحد هؤلاء الفتية المؤمنين، لمجلس الملك مُدّعي الربوبية وهو وسط الناس، ليُخبره أن ملك المدينة المُجاورة عقد العزم على اجتياح مدينته وقتل دقيانوس، فذُعر الأخير وسقط مغشيًا عليه من فرط الفزع، وقال للناس إنه لو كان إله كما يدعي لما ارتعدت فرائصه.
ونقلاً لرواية دليلنا، تفطن الملك لصنيع الساخر منه فأمر بسجنه ورفاقه، ولبثوا بسجنهم سنوات إلى أن جاء يوم كان مُخصصًا لاحتفال الملك، وكان يُؤثثه المساجين، فيرمى المحكومون بالإعدام لمصارعة السباع، في حين يُؤثث البقية عروضًا بهدف استرضاء الملك ليعفو عنهم.
وفي هذا الحفل، طلب أويمليخا أن يُسمح له بعرض لعبة جماعية لم تكن معروفة وقتها وهي “العقفة” (وتعني إلى الآن لعبة شبيهة بكرة القدم إلا أنها تعتمد على العصي لتحريك الكرة)، وبالفعل مُكّن وأصحابه من اللازم لتأثيث العرض، وأُعجب الملك أيما إعجاب باللعبة الجديدة، وفي الأثناء، قام أحد اللاعبين برمي الكرة بعيدًا فانطلق اللاعبون وراءها ليتواروا عن الأنظار ليفهم الملك والجمهور أنها لم تكن سوى خدعة للهروب.
وأثناء هروبهم، تقول القصة إنهم مرّوا براع له كلب عرف بشراسته وقد انتبه الرّاعي إلى أن الكلب رحّب بمجئ الجماعة ولم ينكرهم فعرف أنّ في الأمر سرًّا، فسألهم عن وجهتهم فأخبروه بحقيقة أمرهم وأنهم هاربون إلى الله، وكان مؤمنًا مثلهم فطلب منهم انتظاره حتى يرد الغنم لأهلها ثم يرافقهم فانتظروه وقصدوا مغارة بعيدة عند سفح الجبل المقابل وانتبهوا إلى أن كلب الراعي يرافقهم فنهروه فأبى وألح في متابعتهم فرموه بالحجارة عسى أن يخيفوه ولكن الكلب لم ينتهر، فقال لهم الراعي إن هذا الكلب يصلي حين يراني أصلي فهو كلب مؤمن فأنكر عليه الجماعة ذلك واستمروا في رمي الكلب بالحجارة وبالغوا في إيلامه وإذايته حتى نطق لهم بفصيح اللسان ولامهم على صنيعهم معه وعندها انتهوا وصاحبوا الكلب إلى المغارة ومكثوا هناك فغشيهم النعاس واستمروا في غفوتهم ثلاثمائة وتسع سنين.
واستمر “أصحاب الكهف” في غفوتهم إلى أن حان موعد بعثهم من جديد فاستيقظوا وقد أخذ منهم الجوع مأخذًا كبيرًا فنظروا في أمر أنفسهم وتحسّسوا ما حولهم فوجدوا قربة الماء لم يتغيّر طعمها فشربوا ووجدوا أنفسهم على الهيأة التي ناموا عليها، فكلفوا أحدهم بأن يذهب للمدينة ليجلب لهم طعامًا وأوصوه بالحذر من الملك الظّالم دقيانوس وعيونه، فأخذ ما كان معه من نقود قليلة وقصد المدينة لجلب الطعام ولكنه تفطن لما طرأ على المدينة من تغيير وزادت دهشته حين قدم المال للتاجر فأخذ يتفحصه ويقول له إن هذه العملة قديمة جدًا وسأله إن كان قد عثر على كنز، واستمر الحديث بين التاجر والرجل وهو يقول له إن هذه نقوده حتى بلغ الأمر حرس المدينة فأخذوا الرجل لحضرة الملك، فسأله عن مصدر هذا المال فقال له إنه ماله وإنه من ساكني هذه المدينة وله منزل فيها وأخبره باسمه فبعث الملك حرسه مع الرجل ليريهم منزله فرافقوه فأشار بمكان منزله فخرج لهم رجل أنكر على الغريب ادعاءه ملكية المنزل فأصر الرجل الغريب على موقفه وطلب منهم أن يسمحوا له بالدخول ليجلب لهم من الداخل ما يصدق قوله، فدلف إلى الداخل وأخرج لهم عصية صغيرة كان قد نقش عليها اسمه وكان يخفيها بناحية من البيت، فتعجبوا لذلك الأمر وأعادوه للملك فطلب منه أن يروي له قصته فأعادها عليه.
فقام الملك يقبله ويقول له بأن دقيانوس الظالم قد مات منذ مئات السنين وأن الناس اليوم وملكهم يعبدون الله الذي تعبده فهدأ روع الرجل ورجع إلى أصحابه في الكهف والملك وجنوده يتبعونه إلى أن وصل مدخل الكهف فطلب من مرافقيه أن ينتظروه حتى يطمئن رفاقه ويحدثهم بما رأى وسمع، وكان الرقود السبعة قد كلفوا أحدهم بمراقبة من بعثوه للمدينة فصعد ذلك الرقيب إلى قمة الجبل وحين رأى رفيقه عائدًا في موكب كبير من الناس فزع لهول ما رأى وتوجس من الأمر خيفة فقفز من قمة الجبل وقطع كامل المسافة الشاهقة التي تفصله عن الغار في ثلاث خطوات، وقد وضعت علامات في الجبل مازالت باقية إلى اليوم تسمى الأولى الموجودة على القمة الناظور وتسمى الأمارة الوسطى أولاد الناظور أما الخطوة الثالثة فكانت قرب الغار.
تقول الحكاية إن الملك مكث مع جنوده أمام الكهف ينتظرون خروج الرجل إليهم، حتى طال بهم الانتظار فأذن الملك لجنوده بدخول الغار، وحين ولجوه لم يجدوا للجماعة أثرًا، فقرر الملك أن يبني عليهم معبدًا يعبد فيه الله وحده، ثم تحول المعبد إلى مسجد بعد مجئ الإسلام إلى الجهة وهوالمسجد المعروف اليوم بجامع الرقود السبعة بشنني القديمة.
يُصر أهالي شنني على أن المقام هو الذي ذُكر في القرآن في سورة الكهف، ويستدلون في ذلك بتواجده بين جبلين وحركة الشمس، ورغم أن أكثر من منطقة تدعي أن مقامًا ما يعود لأصحاب الكهف، لا يمكن إلا أن تستمتع برواية محمد المنحوتة في ذهنه منذ الصغر والذي حدثها عنه جده، وقبل المغادرة، شربنا من ماء العين الموجودة بجانب المقام، عين تتزود قطرة قطرة من صخر الجبل، ظلت صامدة منذ آلاف السنين.