على الناحية الغربية من النيل في محافظة أسيوط، توجد ثلاثة محال صينية لبيع الملابس الداخلية النسائية يملكها صينيون ينحدرون من ولاية شيجيانغ، وهي محال معروفة نسبيًا للسكان في منطقة قد لا يتخيل البعض أنه يمكن للأجانب أن يستثمروا فيها بأنفسهم، ناهيك عن أن يعيشوا فيها لوقت طويل، كما يفعل هؤلاء الصينيون منذ سنوات طويلة، حيث يدير أحد هذه المحال كل من تشِن يايينغ، المعروفة باسم كيكي، وليو جون، المعروف بجون، بعد أن كان لين، والد كيكي، هو أول من وطأ أرض أسيوط من الصينيين، هاربًا من فقر شيجيانغ في التسعينيات، إذ قرر ببساطة أنها ستكون مناسبة نظرًا لكونها واحدة من أكبر مدن الصعيد، وأنه سيحقق نجاحًا كبيرًا بكونه الصيني الوحيد هناك، وقد كان محقًا على ما يبدو.
رابطات العنق واللآلئ والملابس الداخلية هي البضاعات التي كان يبيعها والد كيكي في معرض مفتوح بأسيوط، ولم يكن يدرك حينها ما إذا كان هناك طلب عليها أم لا، فقد اختارها لأنه يسهل شحنها بكميات كبيرة في حقائب السفر، وهو واقع لم يستمر بعد أن طالت فترة بقائه في أسيوط، وبدأ في التعرّف على ما يريده الأسيوطيون بالضبط، إذ وجد أن اللآلئ لم تجذبهم على الإطلاق، كما أن معظمهم لم يشتري رابطات العنق نظرًا لارتدائهم للجلباب التقليدي، في حين كان هناك إقبال على الملابس الداخلية النسائية، ليوليها اهتمامًا خاصًا، ولتتسع تجارته مع زوجته التي أتت من الصين لمساعدته، ويتمكنا من تأجير محل خاص في أسيوط، بالإضافة لمحلين أنشأهما أقارب لهما، لتصبح هناك ثلاث متاجر لا تزال في أسيوط اليوم.
الإقبال على الملابس الداخلية لم يكن المسألة الوحيدة التي لاحظها لين وزوجته، حيث جذبت أنظارهما القمامة الملقاة في كل مكان في أسيوط، ليبادرا بجلب معدات إعادة تدوير البلاستيك من ولاية جيانغسو الصينية، ويقومان بتدشين منشأة عام 2007 بمنطقة صناعية صغيرة بالصحراء الواقعة غرب أسيوط، هي الأولى لتدوير البلاستيك في صعيد مصر، ويعمل بها ثلاثون مصريًا جالبين لها حوالي أربعة أطنان يوميًا، ليقوم لين بعد ذلك ببيع المواد الخارجة منها للجالية الصينية في القاهرة، والتي تستخدمها في صناعة الخيوط، والتي تُباع لاحقًا لرواد الأعمال المصريين في مجال الأقمشة.
تجلب المنشاة سنويًا من خمسين ألف إلى مائتي ألف دولار، ورغم ذلك فإن لين وزوجته لا يزالا قاطنين بشقة صغيرة متواضعة تقع فوق المصنع وكل الضوضاء التي يصدرها، دون أن يتفاعلا كثيرًا مع المصريين من حولهم، فهم لا يعرفون العربية وإنجليزيتهم ضعيفة، وكل ما لاحظاه في أسيوط على المستوى الثقافي أن النساء يعانين من انعدام المساواة، “النساء هنا يقبعن في بيوتهن وفقط، وإن كان لهم أن يحققوا التنمية، عليهم أن يحلوا تلك المشكلة، إنها مواهب مهدرة، لتنظروا لزوجتي على سبيل المثال، والتي ما كان لهذا المصنع أن يقوم بدونها،” هكذا قال لين.
بعد تجاوز كل منهما الخمسين، ترك لين وزوجته متجر الملابس الداخلية لابنتهما كيكي وزوجها، وتفرغا لتلك المنشأة، وهما على العكس من أبويهما، يحتاجان إلى الغوص في ثقافة المصريين بشكل أكبر نظرًا لطبيعة تجارة الملابس الداخلية والإقبال المتزايد عليها في السنوات الأخيرة، كما تحكي لنا كيكي مع زوجها جون.
علوسة! علوسة!
هي الكلمة الأهم ربما في تجارة الصينيين، والتي تعلموا نطقها وإن بشكل خاطئ، فهم يقولون “علوسة” بدلًا من عروسة في إشارة لحديثات الزواج ممن يقبلن على تلك المحال لإعداد العدة قبل ليلة الزفاف، وهي كلمة انتشرت بينهم حتى أن التجار الذين يقرعون أبواب الزبائن في القاهرة ينادون باستمرار “علوسة! علوسة!” في محاولة لجذب الزبائن المطلوبين بسهولة بدون الحاجة إلى الدخول في حوار معهم، “علوسة جميلة! بُصي علوسة! عايزة إيه علوسة!”
في محل كيكي بأسيوط، دخلت إحدى هؤلاء العرائس وعمرها 19 عامًا مع خطيبها وأمها وأخيها الأصغر منها سنًا، وبدأوا في اختيار البضائع المناسبة، والتي أخذت تمر على الثلاثة المصاحبين للعروسة للموافقة عليها، “علوسة عايزة ده؟” هكذا سألتها كيكي بينما عرضت عليها جوارب شفافة طويلة على شكل فراشة، مغلّفة بصورة لعارضة شقراء ترتدي الكعب العالي وترتدي الجوارب، ليتفصحها الجميع قبل أن يضعوها مع قائمة المشتريات.
البعض لا يأتي هنا بالضرورة يوم عرسه، فكيكي تقول أن هناك سيدات يأتين أكثر من ثلاث مرات شهريًا، وأن البضاعة في المحل تنفذ عن آخرها كل شهر تقريبًا، “إننا نجلب لمصر عشر شحنات كاملة من الملابس الداخلية النسائية كل سنة، علاوة على ما نصنّعه أصلًا في مصنعنا الخاص في مصر،” هكذا يقول دونغ وَيبينغ واحد من أكبر تجار الملابس الداخلية في القاهرة، وهو أمر منطقي بالنظر للكميات التي تشتريها أي “علوسة” مصرية.
ذات مرة قدمت إحداهن إلى محل تشاينا ستار واشترت من كيكي حوالي 25 قميص نوم، وعشرة أطقم ملابس داخلية، بالإضافة لإحدى هذه الجوارب النسائية الطويلة، لتدفع حوالي ثلاثة آلاف جنيهًا مصريًا، وهي رحلة قالت أم العروسة أنها ستكررها مع محلين أو ثلاثة قبل ليلة الزفاف، قبل أن تخرج كيكي وفق ذوقها الخاص قميص نوم آخر لاقى إعجاب العريس، والذي يعمل محاميًا في أسيوط، وتخرجت عروسته أيضًا من كلية الحقوق بجامعة أسيوط.
كيكي وجون وفتيات الصعيد
تقوم كيكي بتعيين مصريات ليساعدنها في التفاهم مع الزبائن، مثلها مثل كافة تجار الملابس الداخلية الصينيين بطول الصعيد، وعلى الرُغم من صعوبات التعامل معهم بسبب عدم إجادتهم سوى الصينية، فإن المصريات يكنن لهم ولاءً كبيرًا، كما تقول المساعدة رشا عبد الرحمن ذات السابعة والعشرين عامًا، والتي تعمل كمساعدة في محل بمحافظة المنيا، “لا يمكنني أن أقبل أبدًا وظيفة الآن من مدير مصري، الصينيون مباشرون وأمناء، ويحفظون الأسرار جيدًا،” هكذا قالت رشا.
تشكر رشا كثيرًا في جدية الرجال الصينيين ممن يشتغلون بتجارة الملابس الداخلية، وقدرتهم على فهم احتياجات النساء دون الشعور بالحرج الذي يحدث عادة مع نظرائهم من المصريين، “لا أعرف كيف أصف ذلك بالضبط، ولكنهم ينظرون إلى قطعة الملابس ويقدمونها لمن يطلبها وفقط، وتتم العملية، أما إن كان الرجل مصريًا فإنه لا يتمالك نفسه ويطلق بعض الضحكات وربما النكات.. الصيني لا يفكر فعليًا بشيء ناحية النساء وهو يمارس عمله، وحين تشتري يمكنك أن تشعر بأفكار التاجر الذي يبيعك سلعة من هذا النوع، والصينيون لا يسرحوا بخيالهم عن أجساد النساء وهم يبيعون لهن ما يردن على عكس المصريين.”
في تشاينا ستار حيث تعمل كيكي مع زوجها، تقوم رحمة مدحت، البالغة من العمر 18 عامًا، بالعمل كمساعدة، وهي تعاني كثيرًا من ضغوط أهلها عليها لتترك تلك الوظيفة، كما يبدو أنها ترغب بنمط حياة مختلف قليلًا عنهم، فعلى الرُغم من كونها محجبة، إلا أنها رسمت وشمًا على يديها عن طريق مسدس الوشم الموجود في إحدى الكنائس، وهي مسألة شديدة الحساسية في الصعيد، بيد أن العمل مع الصينيين والاستقلال المالي يتيح لها كما تظن مساحة أوسع لفعل ما تريد، وهو أمر لا يوافقه عليها أهلها بالضرورة، حيث يقول جون أن أبيها قدم مرة إلى المحل وضربها بنفسه، كما أن يديها ووجهها أحيانًا كثيرًا ما تكون متورمة، من الضرب في المنزل كما يرجّح جون.
ليست قصة تشاينا ستار في أسيوط بحالة استثنائية، فمحال الملابس الداخلية الصينية منتشرة من بني سويف وحتى سوهاج، حيث يشارك صينيون في معرض الملابس السوري الذي يقيمه السوريون في بني سويف، وفي المنيا التي تمتلك ركنًا للملابس الداخلية الصينية في إحدى المتاجر، كما يتواجدون أيضًا في ملوي حيث يقف صيني مع زوجته بالقرب من متحف ملوي المحطّم ليبيعا بضاعتهما أمام المارة، أما مجموع المتاجر فهو يفوق العشرين بأربعة في سوهاج و12 في أسيوط واثنين في ملوي وستة في المنيا واثنين في بني سويف.
القاهرة بالطبع تعج بهؤلاء التجار، كما يقول ويبينغ، والذي يعيش أربعين من أقاربه في المدينة فقط للتجارة في الملابس الداخلية التي ينتجها مصنعه الخاص، ناهيك عن العشرات ممن يشتغلون بالاستيراد من الصين، والكل هنا يعمل حتى وقت متأخر من الليل بينما يبدأ عمله ساعة الظهيرة، كعادة أغلب المتاجر في مصر، وتتزايد مبيعاته بالطبع يوم عيد الحب، أو الفالانتاينز داي، والذي لا يقتصر الإقبال فيه على القاهرة فقط كما قد يظن بعض، فمحل تشاينا ستار يظل مفتوحًا حتى منتصف الليل في ذلك اليوم خصيصًا ليستقبل الضغط الكبير في أسيوط، كما تقول كيكي.
مصر بعيون صينية
على العكس من الأمريكيين والأوروبيين، لا يبالي الصينيون كثيرًا بالثقافة المحلية، ويقتصرون فقط على معرفة كل ما يفيدهم في تجارتهم، وبالإضافة لكونهم ذوي تعليم متواضع، فإنهم يجهلون بشكل شبه تام أبسط المعالم الثقافية للبيئة المصرية، فقد سأل أحد التجار ذات مرة ماذا يعني وشم الصليب على المعصم، غير مدرك أنه يعود للأقباط المسيحيين، في حين كان يظن بأن المحجبات والمنقبات ينتمين لدينَين بشريعتين مختلفتين، وعلى العكس، الجميع هنا يعرف الفرق بين سمات المسلمين والمسيحيين فيما يخص التجارة، فالصينيون يفضلون كثيرًا التعامل مع المسلمين ليس لشيء سوى لسمعة الأقباط باعتبارهم أكثر صلابة في المفاصلة على أسعار السِلَع، وهو ما لا يعجب الصينيين بالطبع.
لا يشعر الصيني القاطن في مصر برغبة في تغيير الأحوال نحو وضع أكثر مثالية يوازي الأوضاع الموجودة في بلاده مثل الأوروبيين، فهي سمة غربية فقط على ما يبدو، فهو يتعامل مع الواقع كما هو حيثما حط رحاله، ويشق لنفسه طريقًا لكسب قوت يومه وفقط، بعيدًا عن السوق الصينية التي ازدحمت ولم تعد كافية لإيواء طموح مليار ونصف المليار صيني، وهو لا يلحظ أي معالم ثقافية في البلد المضيف له إلا إذا كان لذلك تبعات على التجارة، فإن كان والد كيكي يعتبر أن بقاء السيدات في منازلهن خسارة اقتصادية، فإن الشكوى الرئيسية للكثير من التجار الصينيين هنا هي غياب قيم العمل الدؤوب بين المصريين.
بالتبعية، لا يخجل الصينيون من القول بأنهم كانوا يفضلون مبارك نظرًا لتدهور الاقتصاد بعد الثورة، فنظراؤهم في الغرب توبخهم ضمائرهم إن قالوا شيئًا كهذا، فطبيعة الكثير منهم هي العمل وفق مُثُل معيّنة وبالتالي رؤية مصر وفق ما يجب أن تكون عليه، أما الصينيون فهم لا يرون مصر سوى فيما هي عليه بالفعل، ويتعاملون معها كما هي، كذا تقول إحدى الدبلوماسيات الآسيويات، “الصينيون يودون بيعك أي شيء، ولا يسألون أي أسئلة، فهم لا يكترثون بمعرفة موعد الانتخابات المقبلة أو ما إذا كنت تعذب الناس أم لا في السجون، فإن كان الأمريكيون يعتقدون في أحيان كثيرة أن العالم سيصبح أفضل إذا ما كانت معظم البلدان أكثر شبهًا بهم، فإن الصينيون لا يمتلكون هذا التصور، وكل ما يقومون به هو توطيد روابط التعاون الاقتصادي في كل مكان، لتكون أنت أكثر تضررًا إن قررت كسرها يومًا ما.”
لعل الصينيين لذلك لم يصابوا بالإحباط بعد انتكاس الربيع العربي، لا لشيء سوى أنهم لم يضعوا آمالًا عليه من البداية، وإن كان الغربيون قد تحمسوا له نظرًا لأنه يفتح الباب أمام الديمقراطية والتنمية في الشرق الأوسط، أو هكذا تصوروا، فإن حماس الصينيين الوحيد تجاه الربيع كان إدراكهم أنه سيهدم عاجلًا أم آجلاً مجموعة من الدول الضعيفة، ولذلك تكمن استراتيجيتهم الحالية في الحفاظ على الروابط التجارية على الأرض بعيدًا عن أي توقعات سياسية، وبعيدًا عن الارتباط بالدولة بشكل مباشر، فهم يستثمرون في العالم الاقتصادي لعجلة العلاقات الاجتماعية الأساسية، والباقية سواء نجح الربيع في النهاية أم لا.
لعل تزايد تجار الملابس الداخلية النسائية في السنوات الأخيرة بما فيها سنوات الثورة أبرز دليل على ذلك، فسواء بقي النظام الحالي أم لا، عاد الإخوان أم لا، نجحت الثورة أم لا، ستكون هناك حتمًا ألف “علوسة” تقرع أبواب تشاينا ستار، والعشرات من متاجر الصينيين المنتشرة في الدلتا والصعيد.
*المقال منقول بتصرف من مقال بيتر هِسلر بمجلة نيويوركر