لا يخفى على أحد أن من أهم نكبات ثورات الربيع العربي هو تعلقها بالشرعية الدولية والمؤسسات الدولية والقانون الدولي وحسن ظنها في القوى الكبرى. وقد كان القوم في مصر قد خلا ذهنهم تماما من إمكانية الانقلاب العسكري، فهو-في تصورهم- أمر قد مضى زمنه ولم يعد مقبولا في زمن الديمقراطية!! حتى فَجَأَهم فجعلهم بين قتيل وجريح وسجين وطريد!
ثم ها نحن نعيش في أجواء الاحتفالات بمشروع التفريعة الجديدة لقناة السويس، وهي الاحتفالات التي تنهمر فيها على الناس سيول من الأكاذيب والخرافات تريد تزييف وعيهم وإقناعهم بأن ذلك المشروع -الذي كان ولا يزال شرًّا عليهم وعلى بلادهم إلى أمد غير منظور- هو باب الخير والسعادة!
وقد حاولنا بالوسيلة الوحيدة التي بأيدينا إزالة هذا الزيف التاريخي بثلاث مقالات (الأول، الثاني، الثالث)، ثم نتبعها بهذا الرابع الذي يروي فصلا من قصتنا مع الشرعية الدولية في مسألة قناة السويس!
(1)
كان الخديوي سعيد هو أول حاكم لمصر ذو ثقافة أوروبية، وهو أول من نشأ على حب قنصل فرنسا في مصر ورعايته، ومن هذه العلاقة نشأت المودة بينه وبين ديليسبس الذي لم يرع أن هذه الأسرة انتشلته من المجهول الذي صار إليه إلى العالمية فغدر بهذه الأسرة وبهذه البلاد، واستغل ثقة سعيد فيه أسوأ استغلال، ولم يمت إلا وقد كان صاحب جريمة من أبشع جرائم التاريخ. وإن كان هذا لا ينقص ولا يعفي سعيدا شيئا من مسؤولياته.
من فرط ثقة سعيد في ديليسبس تركه يكتب عقد امتياز قناة السويس، ثم وقَّع دون أن يراها، فكان عقد الامتياز هذا أعجوبة القرن التاسع عشر، ومما جاء فيه:
منح الشركة امتياز حفر قناة السويس، وحفر قناة أخرى للمياه العذبة تصل من النيل إلى القناة، وإنشاء فرعيْن من هذه القناة العذبة يصب أحدهما عند السويس والآخر عند بورسعيد.
تتنازل الحكومة للشركة مجانا عن جميع الأراضي المملوكة لها والمطلوبة لإنشاء قناة السويس والقناة العذبة وتوابعها، وهي مساحات شاسعة على طول القناة والترع المزمع إنشاؤها بعرض كيلومترين على الجانبين. تنازلت الحكومة عنها بلا مقابل، مع إعفائها دائما من الضرائب، وتنازلت أيضا عن جميع الأراضي القابلة للزراعة لتزرعها الشركة وترويها، مع إعفاء الأراضي الزراعية من الضرائب لمدة عشر سنوات تبدأ من تاريخ استثمارها.
للشركة حق انتزاع الأراضي المملوكة للأفراد التي ترى أنها تحتاجها في مشروع القناة مع دفع تعويض “عادل” لأصحابها.
أصحاب الأراضي الواقعة على ضفتي القناة العذبة يدفعون للشركة حق المياه إذا أرادوا ري أراضيهم منها.
للشركة، طوال مدة الامتياز (99 سنة)، حق استخراج كل المواد اللازمة من المناجم والمحاجر الأميرية (الحكومية) لأعمال المباني وصيانتها وملحقات المشروع دون دفع أي رسم أو ضريبة أو تعويض. وتُعفى الشركة من الرسوم الجمركية والعوائد عن جميع الآلات والمواد التي تستوردها من الخارج.
مدة الامتياز (99 عاما) منذ افتتاح القناة للملاحة البحرية، وبعدها تعود القناة إلى الحكومة المصرية، وعندها تُعوِّض الحكومةُ الشركة عن جميع الآلات والمعدات المخصصة للمشروع بقيمة تقدر بالتراضي أو على تقدير الخبراء. (وهذا شرط مثير للمشاكل فقد تبالغ الشركة في تقويم قيمة المعدات أو تسرف فيها لتعجيز الحكومة أو ما سوى ذلك من العقبات).
للشركة حق فرض ما تشاء من الرسوم على السفن التي تمر في القناة البحرية أو الترع والثغور التابعة لها (مع وضع حد أقصى: 10 فرانك عن كل طن)
(وفي مقابل كل هذا) تحصل الحكومة المصرية على حصة قدرها 15% من صافي الأرباح السنوية.
يكون أربعة أخماس العمال من المصريين، وتتعهد الحكومة بمساعدة الشركة وتكليف موظفيها وعمالها في الدوائر الحكومية لتسهيل أمور الشركة. (وبدلا من أن يكون هذا الشرط فرصة توفير عمل للمصريين بأسعار تنافسية، فسَّرت الشركة هذا النص بأن الحكومة ملزمة بتوفير أربعة أخماس العمال بطريق السُّخرة ووضعهم تحت تصرف الشركة قهرا.. واضطر سعيد فوق تسخير الفلاحين إلى إنقاص الجيش المصري من ستين ألفا إلى ثمانية أو عشرة آلاف مقاتل).
وأغفل العقد بندا يتحدث عن حق الحكومة في إنشاء تحصينات عند قناة السويس، ثم فُسِّر هذا الإغفال بأنه لا حق لمصر في إنشاء حصون عند القناة.
باختصار: كان هذا عقد إنشاء دولة داخل الدولة بتسهيلات غير مسبوقة!
(2)
ومع هذا فشل ديليسبس في جمع أصحاب الأسهم بعد المجهود المضني الذي بذله في أوروبا، والذي تنادت إليه بيوت المال في أوروبا، فأشفق عليه سعيد، فاشترى ما لم يستطع ديلسبس جمعه من الأسهم، وهو حوالي 44% منها، أي نحو نصف الأموال المطلوبة لأسهم الشركة!!
وقد عارضت انجلترا هذا المشروع، ذلك أنه يجعل خصومها أقرب منها إلى الهند، فبدلا من طريق رأس الرجاء الصالح الذي يجعل انجلترا الأقدر على الوصول البحري إلى الهند، فإن مشروع القناة يجعل كل بلاد أوروبا واسطنبول بل وروسيا أقرب منها إلى الهند، فما هو إلا أن تسلك سفنهم من البحر المتوسط إلى الأحمر فتكون في المحيط الهندي.
وقد حاول سعيد استرضاء الإنجليز لتمرير المشروع فمنحهم امتيازا لإنشاء خط سكة حديد بين الإسكندرية والقاهرة، وهو ما كان يمانع فيه أبوه (محمد علي) ووافق على إنشاء البنك الأهلي (1856م) وأعطاهم حق مرور جنود الجيش الإنجليزي في قلب مصر (من الإسكندرية إلى القاهرة إلى السويس) إذا احتاجوا لمحاربة أية ثورة إسلامية ضدهم في الهند. فانظر إلى التفريط في أمن البلد بمرور الجيوش فيها ثم إلى خيانة الدين بدعم الإنجليز على الهنود المسلمين.
ولم يشفع كل هذا للإنجليز، وإنما اضطروا للسكوت مؤقتا لأن فرنسا انضمت إليهم في حرب روسيا لمنعها من الهيمنة على الآستانة (حرب القرم)، ثم عادوا إلى السعي ضد مشروع القناة وضد سعيد الذي أصابه الهمَّ والكآبة والمرض من سعي الإنجليز في عزله، فظل ينحل وينحف ويزداد ذبولا حتى مات (1863م) ولم ير مشروعه النور بعد!!
(3)
ولما جاء بعده الخديوي إسماعيل، وهو صاحب ثقافة أوروبية أيضا، لم يُفكر في إغضاب الأوروبيين وإنهاء المشروع، بل تعهد منذ البداية بإكماله، غير أنه سعى في تحسين شروط ذلك العقد العجيب الغريب الذي وقعه سعيد مع ديليسبس، وهنا انتفض ديليسبس الذي كاد حلمه أن يزول بالكلية رافضا أي انتقاص أو تغيير في العقد. وشُنَّت حملة صحفية في أوروبا ضد إسماعيل ونصرة للشركة ثم استقر الأمر بينهما على تحكيم الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في هذا النزاع.
فماذا فعل بنا نابليون الثالث ممثل فرنسا الثورية التنويرية المتحررة؟!! وممثل الشرعية الدولية في هذا النزاع؟!!
قبل أن نرى ماذا فعل نابليون دعنا نلقي نظرة على مطالب إسماعيل:
لقد طالب إسماعيل بخمسة أمور:
إبطال تعهد الحكومة بتقديم الفلاحين بالسخرة إلى الشركة، خصوصا وأن هذا الإلزام هو تفسير الشركة للبند الذي يقضي بأن يكون أربعة أخماس العمال مصريين بمعنى أن الشركة تطلب العمال برواتب تنافسية حتى تستوفي أربعة أخماس العمال من المصريين، فيما فسرته الشركة بعكس مقصوده وهو أن الحكومة ملزمة بتسخير العمال لمصلحتها. وقد قال إسماعيل بأن السخرة عمل لا يتفق مع مبادئ الإنسانية. وأن توفير الحكومة لهذا العدد الهائل (20 ألفا على الدوام) يضر بالبلاد وزراعتها، واستعد أن يوفر منهم ستة آلاف على الدوام.
إبطال ملكية الشركة للقناة العذبة (التي لم تكن قد حفرت منها سوى جزء صغير) واستغلال وري الأراضي التي حولها (ولم يكن قد حدث من هذا شيء لأن القناة لم يكتمل حفرها بعد). مع تعويض الشركة عن أموالها في الجزء الذي حفرته. وتعهد الحكومة المصرية بإتمام القناة العذبة على نفقتها.
إبطال ملكية الشركة لجميع الأراضي التي تحتاجها للمشروع والتي تستصلحها وإعفاؤها من الضرائب بل وإعفاؤها إذا استصلحتها زراعيا من الضرائب لعشر سنوات.
إبطال حق الشركة في انتزاع الأراضي المملوكة للأفراد والتي ترى أنها في حاجة إليها لإتمام المشروع.
زيادة أجر العامل إلى فرنكين في اليوم تعويضا له عما يخسره من فلاحته وزراعته ومهنته.
ولمزيد من المرارة ينبغي أن يعلم القارئ أن نابليون الثالث هذا قد جاملته الحكومة المصرية في أكثر من موطن، أشهرها حرب المكسيك التي حاول فيها نابليون الثالث فرض سيطرته على الثورة الشعبية هناك فأرسل جيشه وأرسل إلى “صديقه” الخديوي سعيد بطلب المساعدة فأمده “صديقه” بجيش مصري من 1200 جندي ظل يحارب هناك أربع سنوات وقُتِل منهم ثلاثة أرباعهم بينهم قائدهم، ثم فشلت الحملة وقُتِل عميل الفرنسيين في المكسيك رميا بالرصاص، وعاد الجيش الفرنسي مهزوما ومعه الربع الباقي من المصريين والسوادنيين المساكين!
(4)
وبعد كل هذا.. بماذا حكم نابليون الثالث؟
حكم بالآتي:
تدفع مصر للشركة تعويضا عن العمال الذين لن توردهم للشركة (38 مليون فرنك)
تدفع مصر للشركة تعويضا عن قناة المياه العذبة (16 مليون فرنك)
تقدير الأراضي اللازمة للمشروع والتي هي من حق الشركة بـ 23 ألف هكتار (الهكتار: 10 آلاف متر).
تدفع مصر للشركة تعويضا عن الأراضي التي اتضح أنها غير لازمة للمشروع (!!!!) ومساحتها 60 ألف هكتار (30 مليون فرنك).
وهكذا كان مجموع التعويضات المطلوب دفعها للشركة 84 مليون فرنك (تساوي: 3.36 مليون جنيه)، وهذه التعويضات تساوي تقريبا نصف رأس مال الشركة!
على أن هذه المأساة هي نصف الصورة فقط، فما زال ثمة تفاصيل أشد مرارة..
ففي ذلك الوقت الذي أصدر فيه نابليون حكمه لم تكن الشركة قد صارت بحاجة إلى العمال، لقد جرت عمليات مناورة ومماطلة سياسية قذرة حتى انتهى دور العمال ولم يعد يمكن إلا استعمال الآلات في الجزء الباقي من العمل، ورغم هذا ستدفع مصر (16 مليون فرنك) تعويضا عن عمال لم تعد الشركة بحاجة إليهم.
وتلك القناة العذبة –التي هي منحة من مصر أصلا- لم تدفع مصر تعويضا للشركة مقابل الجزء البسيط الذي حفرته، بل كان هذا التعويض مقابل ما قدرت الشركة أنها ستخسره من القناة، من أراضي زراعية وسفن تجارية ستعبر بها بل ومقابل حركة الصيد في هذه الترعة العذبة.. لقد قدرت الشركة حجم الأسماك التي ستصاد من القناة العذبة حين تُنشأ وحجم الضرائب التي ستأخذها من الصيادين وحجم السفن التي ستعبر بها، وجعلت كل هذا بأعلى الأسعار، ثم أخذته من الحكومة المصرية!!
ثم أخذت كذلك تعويضات عن أراضٍ (هي بالأصل ممنوحة) اتضح أنها لا تحتاجها في هذا المشروع.
***
هكذا قضى نابليون الثالث، وهكذا حكمت فينا الشرعية الدولية، وهكذا دفعت مصر ثمن القناة أرضا وأموالا وأرواحا وأمنا واستقلالا وكرامة أكثر من مرة.. وما زالت تدفع، وستظل كذلك إلى سقوط الدولة العلمانية في مصر!
وتلك هي قصة فصل واحد من فصول القناة من الشرعية الدولية، سطرتها بأوجز عبارة ممكنة، وفي التفاصيل مرار كثير كثير، ومآس ونكبات، خشيت إن سردتها أن يطول المقال فينصرف عنه القارئ المتعجل.
أما القارئ الصبور، فليطالع المزيد في هذه المصادر:
ألبرت فارمان: مصر وكيف غُدر بها ص217 وما بعدها. (ط الزهراء للإعلام العربي)
عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل 1/63 وما بعدها، 93 وما بعدها (ط دار المعارف)
إلياس الأيوبي: تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل 1/341 وما بعدها. (ط مدبولي)
جورج يانج: تاريخ مصر منذ نهاية عهد المماليك إلى عهد إسماعيل ص196 وما بعدها. (ط مدبولي)
كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ص575 وما بعدها. (ط دار العلم للملايين)
ريمون فلاور: مصر من قدوم نابليون إلى رحيل عبد الناصر ص137 وما بعدها. (ط المركز القومي للترجمة)