جمعني قبل أيام قليلة لقاء مع أحد المثقفين الأكراد وهو مواطن تركي، وحدثني عن الفوارق في مجال الحريات والحقوق التي حصل عليها الأكراد في عهد العدالة والتنمية، ومن ضمن ما ذكره قصة عاشها بنفسه في بداية الثمانينات عندما كان شابًا يعيش في قرية صغيرة بالقرب من مدينة فان التركية شرق تركيا بينما كان أغلب أهل القرية يتحدثون اللغة الكردية التي كان الحديث بها ممنوعًا في تلك الأيام.
ويقول بأن بيتهم كان أول بيت في قريتهم يصله التليفون الذي كان يعمل بشكل يدوي والذي كان يحتاج لأكثر من نصف ساعة لإجراء تحويلات بين المدن من أجل مكالمة واحدة، وبينما كانت الأمهات الكرديات من جيرانهم يأتين للحديث مع أبنائهن الذين ذهبوا في فترات طويلة من التجنيد العسكري في الجيش التركي، فتأتي إحداهن وعندما يتصل الخط مع ابنها وتبدأ المرأة بالحديث بأول كلمة من اللغة الوحيدة التي تجيدها وهي الكردية يقوم الجندي التركي المسؤول عن ضبط الخطوط بقطع الاتصال فتخرج باكية حزينة.
ويقول صاحبنا المثقف بأنه تابع اليوم الأول لافتتاح أول قناة رسمية باللغة الكردية في تركيا في 2009 ولم ينقطع عن البكاء وهو يتذكر المرأة التي خرجت باكية من بيتهم في الثمانينات.
ومع افتتاح هذه القناة أراد حزب العدالة من خلالها أن يوصل رسالة بأن الجميع متساوٍ ويحق له استخدام ثقافته بشكل أحسن، لكن هذه الخطوة لاقت انتقادات كبيرة؛ فعلى سبيل المثال قال رئيس حزب الشعب الجمهوري آنذاك دنيز بايكال إن هذه الخطوة تتعارض تمامًا مع المفاهيم الأساسية للدولة، وأنه لشيء خاطئ جدًا القيام بدعم طرف إثني معين من مؤسسة تابعة للدولة، حيث كانت الحكومة التركية تمنع استخدام اللغة الكردية في المخاطبات الرسمية وأيضًا في وسائل الإعلام.
ولكن حزب العدالة والتنمية استمر في تحسين الأوضاع الحقوقية للأكراد وتعامل معهم كمواطنين لهم كامل حقوق المواطنة؛ حيث قامت الحكومة بالسماح بإعطاء دروس اختيارية في اللغة الكردية في المدارس الإعدادية، والسماح باستخدام حروف الأبجدية اللاتينية للغة الكردية وغير الموجودة في اللغة التركية، وقد تم السماح أيضًا باستخدام اللغة الكردية في الحملات الانتخابية، وسُمِعت اللغة الكردية في أكبر ميادين العاصمة أنقرة وفي إسطنبول أيضًا بالرغم من أن ذلك كان محرمًا إلى وقت قريب.
ومن هذه الخطوات أيضًا افتتاح قناة أطفال ناطقة باللغة الكردية، ولكن من المهم أن حزب العدالة استطاع أن يغير في المعاملة الرسمية مع الأكراد والتي كانت مبنية على الإقصاء والتهميش، كما كان الخيار المسلح هو الخيار الوحيد إلا أن حزب العدالة والتنمية بدأ عملية السلام واستمر فيها بالرغم من كل الاعتراضات.
أمام هذه الخطوات المبادرة من حزب العدالة والتنمية فإن الأخير كان يتوقع مزيدًا من الدعم له من الأكراد وخطوات سياسية تقاربية من قبل الأحزاب التي تمثلهم والتي بدأ عملية السلام معها، لكن الذي حدث هو العكس وخاصة بعد نتائج الانتخابات الأخيرة؛ فقد نظر صلاح الدين ديمرطاش إلى نفسه كبطل قومي وليس كقائد لحزب سياسي تركي وأطلق تصريحات تفيد بعدم إمكانية المشاركة في حكومة يكون فيها حزب العدالة والتنمية، كما كان الشعور العام بأن هناك رؤية لحزب الشعوب يقدم بها بنفسه خدمة للجهات التي تسعى لتحقيق عدم الاستقرار في تركيا خاصة مع مواقفه من الأحداث في سوريا وثنائه الأخير على حزب الله في مقابلة مع قناة المنار.
ولعل الأمر الآخر هو أن حزب العمال الكردستاني أيضًا شعر بأنه المنتصر في الانتخابات وليس حزب الشعوب وبدأ بتحريك الأمور باتجاه التباعد مع حزب العدالة واعتبرها نقطة قوة للأكراد في تركيا في طريق فرض الأمور وليس في طريق التقارب مع حزب العدالة؛ ومن هنا بدأ الحزب باستئناف عملياته فقام بعدة عمليات قتل فيها مواطنون أتراك منذ أحداث هجوم داعش على كوباني.
ومع وصول الأمور مؤخرًا إلى مواجهة عسكرية بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني بشكل موسع وهي تعد سابقة في عهد العدالة والتنمية وأشبه بمغامرة مجهولة العواقب وردة فعل لم تكن متوقعة بقوة لذا فإن هذه الخطوة قد تنهي كثيرًا من الجهود التي بدأها الحزب وقد تساهم في تأجيج الأوضاع والنزعات القومية ونسف خطوات احتواء الأكراد التي قام بها، وهو ما لا ينبغي على حزب العدالة أن يصل إليه؛ لذا فإن منطق البحث عن الاستقرار قد يقودنا للتنبؤ بتوقف العمليات العسكرية بعد فترة لإعطاء فرصة جديدة لصوت العقل والسلام، ولكن لا يبدو أن التيارات التي تقود الحراك السياسي الكردي في تركيا تظهر بمظهر الشريك الذي يمكن أن تتزن علاقة حزب العدالة معه وقد اتضح هذا من سلوك حزب الشعوب في الفترة الأخيرة.